بحوث ودراسات

تحولات أمنية دولية تلقي بظلالها على الملف السوري هزة في المجتمع الاستخباراتي الدولي

المرصد الاستراتيجي


أحدث الغزو الروسي لأوكرانيا تحولات كبرى داخل العديد من أجهزة الاستخبارات العالمية، حيث انقلب الحذر الغربي من امتداد المعارك إلى دول الجوار الأوكراني والخشية من اندلاع حرب بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، إلى اندفاع غربي لدعم كييف إثر صمودها، وتنامي مؤشرات ضعف القوات الروسية واضطرارها للانسحاب من مناطق كانت قد احتلتها شمال البلاد.
وبدا من الواضح أن إستراتيجية حلف “الناتو” تحولت، في الشهر الثالث من الحرب، نحو استنزاف روسيا في أوكرانيا وإضعافها إلى درجة تنحيتها كقوة عظمى من المشهد الدولي، ففي زيارة مشتركة إلى كييف مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن (24 أبريل 2022)، أكد وزير الدفاع الأميركي، الجنرال لويد أوستن، أن واشنطن تريد رؤية روسيا: “ضعيفة لدرجة عدم قدرتها على تكرار ما قامت به في أوكرانيا مرة أخرى”، فيما حذر رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال مارك ميلي (26 أبريل 2022) من تعرض النظام الأمني العالمي للخطر: “إذا لم تدفع روسيا ثمن غزوها لأوكرانيا”.
ودفعت رغبة الغرب في إلحاق هزيمة تاريخية بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نحو صياغة إستراتيجيات طويلة الأمد، تهدف إلى إضعاف روسيا، وفرض عزلة دولية عليها، والعمل على استنزاف قواتها من خلال تزويد القوات الأوكرانية بأسلحة هجومية ثقيلة، وأسفرت التحولات التاريخية، التي لم تشهد القارة الأوروبية لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، عن إحداث متغيرات جذرية في طبيعة المهام المنوطة بأجهزة الاستخبارات الدولية:

  • ففي الولايات المتحدة الأمريكية؛ عقدت لجنة الاستخبارات في الكونغرس جلسة استماع (6 أبريل 2022) للمحامية كيت هاينزلمان، مرشحة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لمنصب المستشار العام لوكالة المخابرات المركزية، التي بقيت دون مستشار لمدة تزيد عن سنة، وهو منصب إستراتيجي يمثل أهمية كبيرة للوكالة فيما يتعلق بقانونية عملياتها، وسلطت اللجنة الضوء على أولويات الكونغرس ومجتمع المخابرات الأمريكي، والمتمثلة في تفادي مخاطر تشكل تحالف صيني-روسي ضد حلف شمال الأطلسي، حيث أكد مدير الوكالة، ويليام بيرنز، أنه يضع مخاطر قيام علاقة تعاون بين الصين وروسيا على رأس أولوياته.
  • وفي برلين؛ تخلت الحكومة الألمانية عن مبدأ رفض نقل السلاح إلى بلدان في حالة حرب، وأرسلت دبابات “ليوبارد” ومنظومات “غيبارد” للدفاع الجوي، بالتزامن مع تزويد كييف بصواريخ “ميلان” و”جافلين” المضادة للدروع، وصواريخ “ميسترال” المضادة للطائرات.
  • وفي فرنسا، قلب شغور منصب مدير المخابرات العسكرية الفرنسية، الجنرال إريك فيدو، الجهاز برمته رأساً على عقب، وذلك عقب إعفائه من منصبه على خلفية “تقصيره” في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، واعتراف رئيس الأركان، الجنرال تييري بوركار، بإخفاق الاستخبارات العسكرية في توقع الغزو الروسي لأوكرانيا.
    وأكد تقرير نشره مصدر مقرب من الاستخبارات الفرنسية (11 أبريل 2022) أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اضطر للتدخل بصورة مباشرة، وفرض خطة لتطوير القطاع الأمني، تتضمن زيادة الإنفاق بقيمة 3 مليارات يورو، ليصل مجموع الميزانية المخصصة للاستخبارات الفرنسية إلى 44 مليار يورو، وذلك بهدف تحسين قدرات الاستخبارات الجوية وتزويدها بأنظمة المراقبة والاستخبارات، حيث تبين أنها تعاني من قصور شديد في مجالات: وسائط الحرب الإلكترونية وقدرات الاستطلاع الجوي بالطائرات المسيرة، فيما يقتصر عمل الاستخبارات البحرية على سفينة وحيدة، هي: “دوبوي دو لوم”، والتي تواجه صعوبات بسبب قدم معداتها، واعتمادها على غواصة وحيدة صغيرة مسيرة من طراز (BCM3G) لحماية كابلات الاتصالات السلكية واللاسلكية تحت سطح البحر، في ظل تنامي مخاطر قيام القوات الروسية بشن هجمات على تلك الكابلات.
    ووفقاً لتقرير نشره موقع أمني فرنسي (18 أبريل 2022)؛ فإن انتقال رئيس هيئة الأركان الفرنسية، إلى فندق “مارجني” بجوار قصر الإليزيه، والذي يعتبر مقراً للتنسيق بين جهاز الاستخبارات الوطنية وجهاز مكافحة التجسس (CENTRLET)، يؤكد عزم الرئيس الفرنسي على تفعيل دور المجلس الوطني الرئاسي للأمن، وتكليفه بمعالجة أوجه القصور التي كشفت عنها الحرب الأوكرانية.
  • أما في موسكو فقد اضطر الكرملين إلى اتخاذ إجراءات غير معهودة لمعالجة الإخفاقات التي وقعت فيها الأجهزة الأمنية الروسية، حيث كشف تقرير نشره “معهد دراسات الحرب” الأمريكي (مارس 2022) عن قيام بوتين بشنّ عملية “تطهير داخلية” شملت جنرالات وضباط استخبارات، وذلك نتيجة فشل التقييمات الاستخباراتية الروسية للعمليات في أوكرانيا، وتراكم الأخطاء المعلوماتية، ما دفع بوتين لإقالة ثمانية قادة كبار في الجيش، وإصدار أوامر بمداهمة مقر لواء “الخدمة الخامسة” واعتقال عدد من مسؤوليه، ووضع رئيسه، سيرغي بيسيدا، ونائبه، أناتولي بوليوخ، قيد الإقامة الجبرية، بعد اتهامهما بإرسال معلومات خاطئة كبدت القوات الروسية خسائر فادحة، بما في ذلك فقدان أربعة من أفضل جنرالاتها، هم: الجنرال أندريه كوليسنيكوف، قائد المنطقة العسكرية الشرقية، والجنرال فيتالي غيراسيموف، نائب قائد الجيش الروسي الحادي والأربعين للمنطقة العسكرية المركزية في روسيا، والجنرال أندريه سوخوفيتسكي، نائب قائد قوات الأسلحة المشتركة الـحادي والأربعين للقوات البرية الروسية، والجنرال أندريه زاخاروف قائد الفوج السادس في فرقة الدبابات (90).
    وأشار تقرير نشره موقع “إنتلجنس أونلاين” (7 مارس 2022) إلى أن الإخفاقات الأمنية لأجهزة (GRU) و(SVR) و(FSB) قد ألقت الضوء على ضعف القطاع الاستخباراتي الروسي، وتناقض إحداثياته في “الجغرافية المكانية” (جيوإنت)، ما تسبب بوقوع شرخ بين رئيس الأركان، غيراسيموف، وبين رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية (GRU)، إيغور كوستييكوف.
    وواجه رئيس مجلس الأمن القومي (SVR)، سيرغي ناريتشكين، مهمة عصيبة لتبرير إخفاق جهازه في تنفيذ المهام الاستخباراتية الخارجية، حيث أوكل بوتين إليه مهمة رصد “الحالة المزاجية” للدول المجاورة قبل الغزو، وصدرت عنه تقارير “مضللة” تفيد بأن باريس وإيطاليا والمجر ستقف على موقف قريب من الحياد، وأن رد الفعل الألماني سيكون هادئاً إزاء الاجتياح.
    وعلى إثر عزله عدداً من قادة الأجهزة الأمنية؛ أوكل بوتين إلى رئيس مجلس القومي في الكرملين، نيكولاي باتروشيف، مهمة إعادة تشكيل الهيئة الاستشارية الأمنية، وأوكل إلى صديقه، سيرغي فاخروكوف، رئاسة لجنتين، إحداهما معنية بالأمن البيئي، والأخرى بالأمن الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بهدف تزويد مجلس الأمن الروسي بالتحليلات والمقترحات للنظر فيها، والتركيز على الأمن الاقتصادي والاجتماعي من خلال تعزيز الأدوار التي تقوم بها شعبة الأمن الاقتصادي (K) بجهاز الأمن الداخلي (FSB)، والتي يحكم الرقابة على طبقة أثرياء النظام “الأوليغارك”.
    وعلى إثر قيام المجلس العلمي، التابع لمجلس الأمن القومي الروسي، والمكون من ضباط استخبارات ومنظرين يمينيين، بفصل أربعة من أعضائه (28 مارس 2022)؛ سرت شائعات بوضع ضابط المخابرات العسكرية، فلاديسلاف سوركوف، قيد الإقامة الجبرية، ما أثار قلقاً في الأوساط الأمنية الروسية، حيث أكد مصدر أمني غربي (20 أبريل 2022) أن قادة المجتمع الاستخباراتي الروسي باتوا “تائهين ومنكفئين على أنفسهم” خشية تعرضهم للتسريح أو الاعتقال، في حين أصبح المستشارون المقربون من بوتين، وعلى رأسهم؛ نائب مدير الإدارة الرئاسية، سيرغي كيرينكو، والمستشار الدبلوماسي للرئيس، يوري أوشاكوف، “غير متيقنين” إزاء الإجراءات التي ينوي الرئيس تنفيذها في الفترة المقبلة، فيما يستمر جهاز المخابرات الداخلية (FSB) بحملات مطاردة المسؤولين عن النكسات الروسية في أوكرانيا.
    الحرب الرديفة: معركة الاستخبارات
    وفي ظل التحول الأمني الغربي نحو تعزيز الجوانب العملياتية وتطوير تقنيات الردع والمواجهة؛ ضاعفت أجهزة استخبارات دول حلف الناتو جهودها لتعزيز فاعليتها في الساحة الأوكرانية، حيث كثفت المخابرات الأمريكية والبريطانية عمليات تسريب معلومات حساسة حول العمليات الروسية، ونشر صور الأقمار الصناعية التي تؤثر على سير العمليات.
    ووفقاً لمصدر أمني غربي (10 أبريل 2022) فإن البيت الأبيض كلف مدير المخابرات المركزية (CIA)، ويليام بيرنز، بالتواصل المباشر مع الاستخبارات الروسية لتحذيرها من مغبة استمرار العمليات في أوكرانيا، فيما اتخذت مديرة الاستخبارات الوطنية، أفريل هينز، قراراً إستراتيجياً بإطلاع حلفاء واشنطن على مجموعة من المعلومات والوثائق السرية حول الحرب الأوكرانية، واضطر مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، للموافقة على رفع السرية عن المعلومات المتعلقة بأوكرانيا، ونشر تفاصيل العمليات الروسية، بالتعاون مع جهاز المخابرات الخارجية البريطانية (MI6) الذي يستمر في تقدم معلومات استخباراتية قيمة لدعم المقاومة الأوكرانية.
    وأشار التقرير إلى الدور الذي لعبته الاستخبارات الأمريكية في تأجيج الرأي العام الدولي من خلال تسريب خطط موسكو لتقديم ذرائع للحرب، والتي تضمنت عرض جثث لأشخاص زعمت -زوراً- أنهم قُتلوا من قبل قوميين أوكرانيين.
    كما عكفت الوكالة على تعزيز قدراتها في إيصال أسلحة إستراتيجية للقوات الأوكرانية، بما في ذلك إنشاء طرق للتزويد من خلال معابر حدودية مع بولندا لم تتأثر بالنزاع، ونجحت في تأمين وصول 17000 صاروخ “جافالين” الأمريكي المضاد للدروع، وتوريد نحو 2000 صاروخ “ستينغر” للقوات الأوكرانية، في حين أرسلت فرنسا صواريخ “ميلان”، وبادرت بريطانيا إلى تزويد كييف بصواريخ “نلاو” الخفيفة المضادة للدبابات.
    وأسهم جهاز الاستخبارات الخارجية البولندي (AW) في تأمين إيصال الدعم الغربي لأوكرانيا، كما قام بتدريب الأوكرانيين على استخدام الأسلحة الغربية المتداخلة في منظوماتها وآليات تشغيلها، حيث أثبتت القوات الأوكرانية قدرتها على سرعة تعلم القيام بعمليات تكتيكية، غير متماثلة، وفتكت بالقوات الروسية في عدة جبهات مستعينة بمسيرات “بيرقدار” التركية (TB2) في عمليات الاستطلاع وفي تدمير عدد كبير من المدرعات.
    في هذه الأثناء؛ تشهد العاصمة النمساوية معركة، من نوع آخر، بين مختلف أجهزة مكافحة التجسس، ما دفع بالمستشار النمساوي كارل نهامر (المدير السابق للمخابرات النمساوية)، للقيام بزيارة مفاجئة إلى موسكو (11 أبريل 2022).
    ووفقاً لتقرير غربي (18 أبريل 2022)؛ فإن نهامر فوجئ بعدد الأفراد المحيطين بالزعيم الروسي ، وبحضور نحو ثلاثين مستشاراً روسياً في الشأن الأوكراني، وذلك في المقر الرسمي لبوتين بضاحية “نوفو أوغاريوفو” في موسكو، والذي يخضع لحراسة مشددة من قبل “دائرة الحماية الفيدرالية”.
    ودار الحديث، في ذلك الاجتماع، عن الأدوار المشبوهة التي يقوم بها نحو 290 دبلوماسياً روسياً في فيينا، ما اضطر السلطات المحلية لطرد أربعة منهم (7 أبريل 2022) بالتزامن مع طرد نحو 150 دبلوماسياً روسياً من برلين وباريس وصوفيا ووارسو، حيث تندلع معركة استخباراتية رديفة، تقودها وحدات مكافحة التجسس الغربية، ضد المحطات الروسية التي تم تعزيزها في عدة عواصم أوروبية خلال العام الماضي.
    وعبّر المستشار النمساوي عن قلقه من التقارير التي زودته بها الشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية (BKA)، والتي أشارت إلى وجود اتصالات مشبوهة بين ضباط مخابرات في النمسا مع نظرائهم الروس، واستغلال حزب “الحرية” القومي الحاكم سيطرته على مجتمع الاستخبارات لمنع جهاز المخابرات الداخلية النمساوي (BVT) من مشاركة نظرائه في الولايات المتحدة وأوروبا بالمعلومات الاستخبارية، بالإضافة إلى العلاقات المشبوهة التي تربط عدداً من المتنفذين النمساويين مع الاستخبارات البيلاروسية والروسية على حد سواء.
    أما في واشنطن؛ فقد عبر ضباط سابقون في الاستخبارات العسكرية الأمريكية عن انزعاجهم من أداء خلفائهم الموجودين حالياً في مناصبهم، ونصحوهم بالتزام الصمت إزاء العمليات التي ينفذونها لدعم القوات الأوكرانية، وطلبوا منهم عدم التباهي بأدوارهم في النجاحات العسكرية الأوكرانية، وخاصة فيما يتعلق بقتل جنرالات روس في ساحة المعركة، وبإغراق الطراد الروسي “موسكوفا” في البحر الأسود.
    وقال بول بيلار، وهو مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية: “من وجهة نظري الشخصية هذه خطوة غير حكيمة. إنني مندهش من مدى التأكيد الرسمي لدور المخابرات الأمريكية في واقعة إغراق الطراد موسكوفا، وحتى في قتل الجنرالات”، فيما رأى جون سيفر، الذي خدم لمدة 28 عاماً في الخدمة السرية لوكالة المخابرات المركزية، أن قرار الكشف عن تفاصيل تبادل المعلومات الاستخباراتية كان غير موفق، محذراً من أن: “بوتين يفهم كيف تُلعَب اللعبة، وإذا انعكس الوضع فسيوظف معلوماته الاستخبارية لقتل أمريكيين، كما فعل في أفغانستان وفي أماكن أخرى”.
    في هذ الأثناء يتنامى القلق في واشنطن من إمكانية تعاون الاستخبارات الروسية والصينية لاستهداف الكابلات البحرية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في بياناتها الرقمية، وفي اتصالاتها، وفي تزويد الإنترنت، ونقل المعلومات الأمنية الخاصة بأنشطتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية خارج البلاد، وتستخدم قواتها المسلحة شبكة كابلاتها البحرية لنقل البيانات من مناطق النزاع إلى هيئة القيادة.
    ونظراً لما يشكله قطع شبكة الكابلات من عواقب وخيمة على العمليات العسكرية الأمريكية في الخارج؛ فقد حذر الرئيس الأمريكي، جو بايدن (21 مارس 2022) من أن روسيا: “تدرس شن هجمات على البنية التحتية الحيوية الأمريكية، وأن أحد السيناريوهات التي تم طرحها منذ بداية الحرب في أوكرانيا هو أن موسكو ستهاجم الكابلات البحرية لقطع الإنترنت في العالم الغربي”.
    تشرذم المشهد الأمني العربي وانعكاساته على الملف السوري
    لم تكن سوريا في منأى عن الصراع الاستخباراتي المحتدم حول أوكرانيا، حيث ألقى بشار الأسد بثقله خلف سياسات بوتين الرعناء، فيما انخرط قادة بوتين العسكريون في القواعد الجوية والبحرية بسوريا في عمليات التنسيق والإسناد العسكري، وزج النظام بآلاف المرتزقة لإسناد القوات الروسية في أوكرانيا.
    وعلى الرغم من وجود توافق، ضمني، بين القوى الفاعلة في سوريا (الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، وإسرائيل) على عدم تغيير الوضع القائم، إلا أن مصادر مقربة من جهاز الأمن التركي (MIT) ترصد مؤشرات انتقال أوار المعارك الاستخباراتية المحتدمة في أوروبا إلى الشرق الأوسط، وترجح إمكانية تغير مواقف الدول الفاعلة على خلفية خمسة تطورات مهمة في سوريا هي:
    1- توسيع الحرس الثوري الإيراني دائرة نفوذه في سوريا، عبر نشر 4500 عنصر من ميلشيات: “حزب الله” اللبناني، و”لواء فاطميون”، و”حركة النجباء”، و”عصائب أهل الحق” العراقيين، و”لواء الباقر”، في نحو 120 موقعاً ومقراً في مناطق بريف حمص الشرقي وبادية حماة وبادية الرقة ودير الزور ومحافظة حلب، وتعزيز تلك المواقع بمنصات صواريخ وأسلحة ثقيلة، وطائرات مسيرة، وأجهزة اتصالات، والاستيلاء على مستودعات “مهين” الإستراتيجية شرقي حمص، والسيطرة على مطار “النيرب” العسكري، وذلك في أعقاب إبرام اتفاق مع الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، لإنشاء نحو 11 مقراً قيادياً جديداً، يترأسها ضباط وخبراء عسكريون إيرانيون، في: “حسياء”، و”تدمر”، و”مهين”، و”القريتين”، و”السخنة”، و”الكم”، و”الطيبة”، شرقي حمص، ومناطق: “سلمية”، و”السعن”، و”أثريا”، و”الشيخ هلال”، شرقي حماة.
    2- تكثيف سلاح الجو الإسرائيلي عملياته ضد المواقع الإيرانية في سوريا، بما في ذلك: استهداف مواقع في محيط بلدة “حضر” بريف القنيطرة (11 مايو)، وقصف مخازن أسلحة ومواقع لإيران في منطقة مصياف (13 مايو)، وتدمير شحنة أسلحة إيرانية بميناء طرطوس، واستهداف مواقع أخرى على طريق “وادي العيون” وأخرى بمنطقة “السويدة” في مصياف (14 مايو)، وذلك في أعقاب سلسلة عمليات شملت خمسة مواقع في ريف حماة الغربي (9 أبريل)، طالت محيط كلية الشؤون الإدارية، ومركز البحوث العلمية “معامل الدفاع”، ونقطة عسكرية بمصياف.
    3- إعادة الولايات المتحدة تقييم خياراتها لمواجهة النفوذ الروسي في سوريا، حيث أعلنت الولايات المتحدة (13 مايو) عزمها السماح ببعض الاستثمارات الأجنبية في مناطق خارج سيطرة النظام شمال شرقي سوريا، من دون الخضوع للعقوبات، وأكدت مساعدة وزير الخارجية الأميركي بالوكالة، فيكتوريا نولاند، أن: “الولايات المتحدة تعتزم، خلال الأيام القليلة المقبلة، إصدار ترخيص عام لتسهيل أنشطة الاستثمار الاقتصادي الخاص في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام والمحررة من تنظيم (داعش) في سوريا”، وذلك في مناطق تعول عليها روسيا كثيراً، وتضم احتياطيات البلاد من النفط والأراضي الزراعية وضفة واحد على نهر الفرات.
    4- دفع جهاز الأمن التركي (MIT) بخطة أعدها بالتعاون مع المديرية العامة لإدارة الهجرة التابعة لوزارة الداخلية التركية، تتضمن إعادة توطين نحو مليون ونصف لاجئ سوري في الشمال، بالتزامن مع محاولات يبذلها الرئيس التركي لاستغلال انشغال القوات الروسية بأوكرانيا، والضغط على دمشق للموافقة على إنشاء منطقة آمنة تضمن عودة جزء كبير من اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلدهم، مقابل امتيازات أمنية وتعاون عسكري ضد “قسد” في الشمال الشرقي.
    5- التصعيد العسكري من قبل القوات التركية والروسية وميلشيات النظام شمال البلاد، حيث كثفت المقاتلات الحربية الروسية غاراتها الجوية على أرياف حماة وإدلب، بالتزامن مع قصف بري لقوات النظام والميليشيات الإيرانية بالقرب من خطوط التماس، بينما تستمر المدفعية والمسيرات التركية في استهداف مواقع تابعة لميلشيا “قسد” لصد محاولات تسلل تقوم بها القوات الكردية لمواقع عسكرية تابعة للفصائل، واندلاع اشتباكات عنيفة بين الطرفين.
    أما على الصعيد العربي؛ فلا يمكن الحديث عن موقف أمني موحد إزاء الملف السوري، حيث تواجه محاولات بعض الدول التطبيع مع النظام، رفضاً باتاً من دول أخرى ترى أن مثل تلك الإجراءات يجب أن لا تُتخذ دون مقابل.
    في هذه الأثناء؛ يستمر فشل الدول العربية في صياغة منظومة أمنية موحدة، في ظل تنامي اختراق المحيط الأمني العربي من قبل منظومتين أمنيتين متصارعتين، تستغل كل منهما حالة التشرذم الأمني العربي لتعميق نفوذها.
    ففي 16 نوفمبر 2021: أكد تقرير أمني غربي؛ أن مشاركة مدير إدارة المخابرات العامة بالنظام السوري، اللواء حسام لوقا، كضيف خاص في “المنتدى العربي الاستخباري” بالقاهرة (9 نوفمبر 2021) تمت بموافقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، التي كانت تدفع نحو تحقيق قدر من التقارب بين الدول العربية وإيران، عبر إدماج الأنظمة الاستخباراتية التابعة لها في سوريا، والعراق، ولبنان، وإمكانية مشاركتها في المبادرة التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قبل ستة أشهر.
    وفيما ابتهج الإيرانيون من الاختراق الذي تحقق لهم بإدخال وكلائهم في “المنتدى العربي الاستخباري”، وبإجراء دبلوماسييهم مباحثات للتقارب مع دول عربية فاعلة؛ عبرت الاستخبارات الإسرائيلية عن امتعاضها من عدم تطرق المنتدى لموضوع التقارب مع تل أبيب، وسارعت -بدورها- إلى تنظيم سلسلة اجتماعات مع حلفائها العرب لتفعيل الجوانب الأمنية من خلال اتفاقية “البيت الإبراهيمي” (سبتمبر 2021)، حيث لاحظ موقع “ديفنس ون” (26 أبريل 2022) صمت جميع الأطراف عن الفرص السياسية والاقتصادية التي تتيحها الاتفاقية، واقتصار اهتمامهم على تنفيذ الجوانب الأمنية والعسكرية، وسعيهم لإنشاء تحالف عربي-إسرائيلي ضد إيران، وتعزيز آليات التعاون في مجالات الأمن البحري والدفاع الجوي والصاروخي والسيبراني في مواجهة تهديداتها.
    وعلى الرغم مما بذلته بعض الدول العربية للتطبيع غير المشروط مع الأسد؛ إلا أن هنالك شبه إجماع في الدوائر الاستخباراتية العربية على أن العائق الذي يحول دون إعادة دمشق إلى الحظيرة العربية، هو حماقة بشار الأسد، الذي دأب على إهدار الفرص العربية السخية لإخراجه من أزماته الاقتصادية ومن عزلته الدولية، ومن ذلك إفشاله المبادرات التي قدمت له في: مسقط (مايو 2021)، وعمّان (سبتمبر 2021) وأبو ظبي (مارس 2022)، وإصراره على استفزاز الدول العربية عبر تعزيز علاقاته مع طهران، حيث تزامن تكثيف الانتشار العسكري الإيراني في سوريا خلال الأسابيع الماضية مع عودة مدير مكتب الأمن الوطني (المقرب من طهران)، اللواء علي مملوك، إلى الظهور، واجتماعه بكل من: الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والأمين العام للمجلس القومي الإيراني، علي شمخاني (27 فبراير)، للتباحث بشأن سبل قيام إيران بملء الفراغ الذي يمكن أن تتركه موسكو في سوريا، وتعزيز التنسيق الأمني بين طهران ودمشق، وتقديم مساعدات اقتصادية ونفطية وغذائية إلى دمشق.
    وجاءت زيارة بشار الأسد لطهران (8 مايو 2022) لتدحض أوهام إغراء بشار الأسد بالعودة إلى الجامعة العربية مقابل التخلي عن حليفه الإيراني، حيث جاء رده على المبادرة الإماراتية الأخيرة، عبر لقائه بالمرشد الإيراني علي خامنئي، ورئيس الجمهورية، إبراهيم رئيسي، والتباحث معهم حول سبل تعزيز التعاون الاقتصادي وتكثيف الانتشار العسكري الإيراني في سوريا، وتأكيد الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، خطيب زادة، أن: “رسالة زيارة الأسد إلى طهران هي دخول سوريا إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة إعادة الإعمار”.
    وأثارت تلك الأنباء حفيظة دول عربية فاعلة، ودفعها إلى “تأجيل” البت في عودة النظام إلى الجامعة العربية، وتأكيد مسؤولين أمنيين عرب لنظرائهم الروس معارضتهم “الجازمة” لعملية التطبيع مع النظام في الوقت الحالي، معتبرين أن دمشق لا تزال غير مؤهلة لذلك، في ظل استمرار تورط مسؤولين كبار في عمليات تصنيع وتهريب أطنان من المخدرات إلى الخليج العربي، وإصرار بشار الأسد على ترجيح كفة إيران التي تمثل تهديداً لمحيطها العربي.
    أين المعارضة؟
    يمثل انهيار التوافقات التي نسجتها تل أبيب مع مستشاري الأمن القومي الروسي والأمريكي، أبرز مؤثرات الحرب الأوكرانية على الملف السوري، حيث تعكف أجهزة الأمن الإسرائيلية على إعادة تقييم مواقفها إزاء الملف السوري في ظل توتر العلاقة بين واشنطن وموسكو، وترجح احتمالات تنصل روسيا من التزاماتها الأمنية، وتحرك إيران لملء الفراغ الناتج عن انشغال روسيا بمعاركها في أوكرانيا.
    وفي ظل تلك تحول الموقف الأمني الغربي نحو موسكو من الاحتواء إلى المواجهة، وسعي واشنطن وحلفائها لإضعاف روسيا في مناطق نفوذها، تتزايد التكهنات بإمكانية انهيار سياسة المحافظة على “الوضع القائم” في سوريا، فيما تثور أسئلة صعبة حول غياب التمثيل الرصين لملايين السوريين في المناطق المحررة وفي دول المهجر وللجوء.
    فعلى الرغم من التحولات المحورية التي تشهدها المنطقة؛ انشغلت مؤسسات المعارضة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بمعارك “طواحين الهواء”، مؤثرة خوض مواجهات داخلية على وقع: تصريح وزير داخلية الحكومة المؤقتة (الذي تراجع عنه لاحقاً) حول وجود عملاء للنظام في الائتلاف، واللغط الذي أثارته محاولة إنشاء خلية ذباب إلكتروني لدعم رئيس الائتلاف، وسلسلة الإجراءات الارتجالية التي أسفرت عن تعزيز سيطرة الفئة المتمكنة بالائتلاف، وما نتج عنها من تصدعات يصعب رأبها، وتزامن ذلك مع معركة “تسريبات داخلية” أثرت بصورة سلبية على سمعة الائتلاف ومصداقيته.
    وبدلاً من دارسة الفرص التي تمنحها الحرب الأوكرانية للسوريين؛ يصر مسؤولو المعارضة على الاستمرار في إطلاق تصريحات -مثيرة لمزيد من الجدل- حول إمكانية الخروج بنتائج ملموسة من مشاركاتهم المرتقبة في الدورة الثامنة (!) لاجتماعات اللجنة الدستورية، والجلسة الثامنة عشر (!) لاجتماعات أستانة، فيما تستمر مظاهر الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي في الشمال السوري نتيجة الإخفاقات الإدارية للحكومة المؤقتة، واندلاع المواجهات الدامية بين بعض الفصائل.
    وفي ظل غياب/تغييب الكفاءات الأمنية القادرة على استشرف مآلات التحول في المشهد الدولي، ومؤثراتها المحتملة على سوريا؛ يستمر الاعتماد على “النصائح” و”التوصيات” التي تقدمها أجهزة الدول الداعمة والممولة، والتي تخدم مصالحها بالضرورة، دون أن تعود بأية آثار ملموسة على الشعب السوري المنهك من التصعيد العسكري والتدهور الاقتصادي، ومن تنامي النزعات العنصرية والعدائية ضد ملايين اللاجئين في الدول المستضيفة.
    ولا يمكن الخروج من تلك الحالة إلا من خلال اتخاذ إجراءات عملية لانتزاع زمام المبادرة وتعزيز الفاعلية الميدانية عبر تشكيل فريق أمني يعمل خارج أطر الوصاية الخارجية، ويسهم في صياغة إستراتيجية للتعامل مع الانعكاسات المحتملة لاحتدام الصراع الدولي على الوضع في سوريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى