مقالات

الإصلاح السياسي والنهوض الاقتصادي والخِّل الوفي في منظومة سايكس بيكو السياسية

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

تتفاوت الدول في مقدار السيادة التي تتمتع بها تبعاً لظروفها التاريخية والموضوعية و مدى استعدادها للتنازل مؤقتاً أو جزئياً، عن مظهر من مظاهر هذه السيادة مقابل تحقيق مصلحة معينة، كدرء مفسدة أو جلب منفعة.
فالسيادة الوطنية تُشكل أحد أهم الأركان التي تُبنى عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني، كما تُعد من المبادئ الأساسية التي تقوم بُنيان وصرح القانون الدولي والعلاقات الدولية المعاصرة.
وهي أهم عنصر من عناصر الإستقلال والكبرياء الوطني ونهضة الأمة. ليس هناك ثمة خلاف على تعريف “السيادة” أو ماهيتها ، أو إدراك وجودها من عدمه، فهي كفرض الصلاة في الدين ” معروفة منه بالضرورة “.

“السيادة “Sovereignty” هي أعلى سلطة في الدولة، فعندما نقول دولة ذات سيادة، فهذا يعني أنه لا يوجد فوق رأس السلطة التنفيذية وأجهزتها المختلفة سلطة أخرى، فهي صاحبة القرار النهائي في الشأن العام، على أراضيها ومياهها الإقليمية وفي علاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى ومع اللاعبين الدوليين كالمنظمات الدولية، وقرارها مصنوع محليًا وفقًا لما تقتضيه مصالحها الوطنية ومصلحة شعبها، أو هكذا يُفتَرض. ويتضمن هذا المفهوم التسلسل الهرمي داخل الدولة.
فمثلا كانت مسألة السيادة أحد أهم أسباب التصويت لصالح البريكست ( الخروج من الاتحاد الأوروبي) في استفتاء يونيه 2016 في بريطانيا الذي انتهى بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في شهر يناير 2020 حيث كان الكثير من البريطانيين يرون أن وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وخضوعها للتشريعات الأوروبية من بروكسل شكل تنازلًا وخرقًا للسيادة والكبرياء الوطني.
علما بأن نظرة فرنسا التي تعتبر من أقوى الداعمين للاتحاد الأوروبي تختلف عن نظرة بريطانيا بما يتعلق بالسيادة، فالفرنسيون يرون السيادة من زاوية مختلفة، فمثلًا كان إصرار الجنرال ديغول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أن يكون لفرنسا قوة ردع نووي خاصة بها، وأن لا تعتمد حصرياً– كبقية الحلفاء في حلف الناتو- على المظلة النووية الأنجلو-الأمريكية في مواجهة المعسكر الشيوعي تفكيرا فرنسيا بإمتياز.
باعتبار أن صناعة وتطوير أمريكا لأول قنبلة ذرية في صحراء نيفاد عام 1945 كان مشروعاً بريطانياً-أمريكياً مُشتركاً.
وفعلاً طَوَّرت فرنسا قنلبتها الذرية الخاصة بها بشكل مُنفرد و مستقل، حيث قامت بإجراء تجاربها النووية في منطقة رقان في صحراء الجزائر بين عام 1957-1961 وامتلكت القنبلة، بل ذهب الفرنسيون أبعد من ذلك، عندما أعلنوا أن ترسانتهم النووية وصواريخهم الحاملة للرؤوس النووية ليست كلها موجهة ضد الاتحاد السوفييتي. .!
إذن هناك تفاوت في النظرة الى السيادة وتفسيرها يختلف من دولة لدولة، وهذا بدوره يعتمد على عوامل منها الثقافة السياسية والتجارب التاريخية.
نتيجة للإرث الاستعماري الأوروبي المعروف تاريخياً، هناك دول كثيرة في آسيا وأفريقيا فقدت السيادة ولم تستردها الى الآن، ومنها دويلات سايكس بيكو العربية التي خُلقت أصلًا لتأدية وظيفة.

هذه الدول يحكمها نُخب وحكام ما زالوا مرتبطين بالخارج الأجنبي ( عادة المُستعمر القديم) بمصالح أنانية متقاطعة اقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، يتمتعون بمظاهر الاستقلال وقشوره فقط كالعَلَم والنشيد الوطني، وتملك جيوش وأجهزة أمنية وظيفتها حماية النظام والحاكم من الشعب، وتكريس الأمر الواقع وقمع أي تمرد أو تململ لدى الناس.
بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الغربي الأكبر على الخط مع المُستَعمرين القُدامى (دول أوروبا العجوز) كشريك مضارب في معظم مستعمراتهم، وذلك بحكم إسهامها الحاسم في هزيمة النازية وكسب الحرب عسكريًا، ثم تمويلها لمشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا وقيادتها للغرب في مواجهة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة.
فعلى سبيل المثال دخلت أمريكا بقوة إلى منطقة الخليج العربي كشريك مضارب بشركاتها متعددة الجنسية ومصالحها واستثماراتها النفطية وأساطيلها العسكرية دون أن ينتقص ذلك من النفوذ الإنجليزي التاريخي، وكذلك الأمر في مستعمرات فرنسا السابقة، كالجزائر ولبنان وجنوب شرق آسيا. فقد تعاملت الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الإمبريالية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية، مع النظام الدولي الاستعماري القديم، بما في ذلك منظومة سايكس بيكو في المشرق العربي كأمر واقع وانضمت اليه كشريك مضارب كما ذكرت مع محاولة تُسويق نفسها أحياناً كمحرر للشعوب أو داعمة للاستقلال وناشر للديمقراطية.

لم تَخلق إتفاقيات سايكس بيكو لعام 1916 في الأقاليم العربية للدولة العثمانية المُنهارة دويلات وظيفية مُصطنعة فحسب، بل أوجدت منظومة سياسية متكاملة تحكمها ثقافة تغريب مُشَوّهة ومهزومة، ونُخب علمانية وقومية وإشتراكية، و أنظمة وعائلات حاكمة وأحزاب وحركات وزعامات سياسية وقبلية ومنظمات مدنية ومؤسسات تعليمية، شَكّلت في مُجملها منظومة بيئية سياسية متكاملة ( ِA complete political ecosystem ) تابعة ومرتبطة بالمركز، مباشرة أو بشكل غير مباشر بوشائج وعلاقات متشابكة ومعقدة ومتينة. فدويلات سايكس بيكو العربية هي في التحليل النهائي دول منزوعة السيادة بالكامل تُحكم بواسطة الريموت كونترول، و قرارها السيادي مُصادَر من قبل الغرب و مؤتمن بأيدي ” مستشارين ” أو سفراء أجانب، أو مع الذي بيده العصمة و”عُقدة الريموت كونترول ” في عواصم القرار إياها. ( Client States) وذلك حفاظا على أمن وسلامة إسرائيل أولًا، ثم المصالح الغربية في المنطقة ثانياً.

كل دويلة من هذه الدويلات تدور في فلك هذه الدولة العظمى أو تلك في المركز، منفردين أو مجتمعين وتربطهم جميعًا بإسرائيل علاقة مصلحة تبادلية فريدة، فهذة الأنظمة موجودة أصلا لحماية وتعزيز أمن إسرائيل، وهذا هو سبب وجودها ( raison d’etre) وإسرائيل موجودة لحماية هذه المنظومة كلها وضمان إستمرارها، ولاحقًا وبشكل متسارع لقيادة هذه المنظومة.
لقد نَظر صُنّاع القرار الأمريكان لإسرائيل منذ نشأتها كأكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم لحماية منابع النفط ومنع تحرر وانعتاق دول المنطقة وأخذها لزمام الأمور بما تمليه مصالحها الوطنية ومصالح شعوبها.
أنظر كتاب ستيفن جاوانز بعنوان: اسرائيل رأس شاطئ في الشرق الأوسط. Israel: A Beachhead in the Middle East- Stephen Gowans)
ويتحدث الكتاب عن المحاولات الغربية التي لا تنتهي لتحييد وتدمير أي وجميع محاولات سكان المنطقة من العرب والمسلمين من تأكيد حقهم في العيش دون تدخل إمبريالي.
بكل الأحوال لم يأتِ الكتاب بشيء جديد لا نعرفه نحن أهل المنطقة، ولكن تكمن أهميته في أنه يخدم كمرجع على مبدأ ( شهد شاهد من أهلها).
فإذا كانت دول مثل ماليزيا وجنوب أفريقيا وسينغافورة والباكستان والهند وسيريلانكا ونيبال تتمتع بمظاهر شبه سيادية أو بنسب سيادة متفاوتة، واستطاعت فعلًا أن تنهض إقتصادياً وتحقق معدلات نمو لا بأس بها، فإن دويلات سايكس بيكو العربية لا تتمتع بأي مقدار من السيادة على الإطلاق، ولا تستطيع أن تنهض اقتصادياً إلا الى الوراء وإلى مزيدٍ من التخلف.
فالغرب المستعمر هو الذي يحدد لأنظمتنا سياستها الاقتصادية والزراعية والصناعية و الاجتماعية، وأصبح الغرب يتدخل في أدق تفاصيل حياتنا بما في ذلك مناهج التعليم لأبناءنا.
هل سأل أحدكم نفسه لماذا لا يوجد مصنع واحد لصناعة السيارات في العالم العربي؟ الجواب سهل هذا الموضوع قرار سيادي لا يجرؤ نظام تابع على اتخاذه.
نحن دول مُصدّرة للمواد الخام الأولية ومجتمعات استهلاكية فقط محكوم علينا أن نستهلك ما ينتجه لنا الغرب ولا نزرع من المحاصيل إلا ما يُسمح لنا زراعته.
لا يختلف اثنان على أن شعوب المنطقة العربية تُحكَم وتُقاد كقطيع من الأغنام فلا ديمقراطية ولا شورى ولا شفافية ولا ما يحزنون، فالديمقراطية المعمول بها في لبنان والعراق على سبيل المثال، هي أداة فقط لخدمة المشروع الطائفي في المنطقة المبني على المحاصصات وتأجيج الكراهية والنزاعات الدينية والطائفية وتعزيز الشرخ في المجتمع وخدمة للمشروع الاستعماري ” تحالف الأقليات”. الديمقراطية في العراق ولبنان هي أداة لمأسَسَة الطائفية السياسة وجعلها جزءًا من الدستور ونموذجًا لما يُخطَط له في المنطقة من تقسيم وشحن طائفي وعرقي في المستقبل.
أليست مفارقة عجيبة أن الدولتين العربيتين اللتين تتمتعان بديمقراطية وانتخابات دورية وتغيير في السلطة هما في أسفل القائمة في التخلف والفساد والفشل الاقتصادي والفقر، بالرغم من غنى الموارد ووجود شعب متعلم ومبدع خلاق في كليهما.
أما في سوريا والأردن ومصر والجزيرة العربية حيث الغالبية الساحقة من السكان هم من المسلمون السًنَة فلا ديمقراطية ولا حرية ولا شورى ولا ما يحزنون، ولكن حكم فردي قمعي مستبد، لأن هناك الديمقراطية لا تُناسب التركيبة السكانية المتجانسة في تلك الدول.
وقد أثبتت ثورات الربيع العربي، خاصة في مصر وسوريا، إلى أي مدى مُستعد هذا الغرب المُستعمِر أن يذهب للمحافظة على الوضع القائم The Status quo الذي يخدم مصالحه.
ففي سوريا ضَحّت أمريكا والغرب بالشعب السوري كله في سبيل الإبقاء على النظام الطائفي لآل الأسد وعدم تغيير الوضع القائم حامي حمى إسرائيل. وما زالت أمريكا تلتمس للنظام الأعذار وتٌعيد تأهيله وشرعنته وتُراهن على بقاءه إلى الأبد ، وهي على أتم الاستعداد أن تسمح له بقتل ما تبقى من المسلمين السنة حتى آخر طفل سوري للحفاظ على النظام إذا لزم الأمر.

ففي التحليل النهائي، أمريكا والغرب ليسوا أبرياء من دم الشعب السوري ، فليس القاتل هو من ضَغَطَ على الزناد فقط، بل الذي سكت على الجريمة وحماه و وفر له الغطاء على مدى 60 عاماً، هو شريك في الجريمة، والذي سمح لإيران وروسيا للتدخل دون حسيب أو رقيب أيضا مسؤول عن الدم الذي أريق، فنظام الأسد ما كان ليصمد في الحكم عدة أسابيع لولا الفيتو الإسرائيلي والغربي على إسقاطه.
وأخيرًا جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا في مارس 2022 لتفضح هذا الغرب المنافق ومعاييره المزدوجة في سوريا بطريقة مقززة ومُنفرة.
هل كان غزو روسيا لسوريا قانوني وشرعي ومحمود وغزو أوكرانيا غير شرعي وغير قانوني.؟!
وما هو الفرق بين الغزوين؟
تبًّا لكم من عالم منافق.. ما يحدث في أوكرانيا جرائم حرب تستدعي التوثيق والمحاسبة أما ما حدث ويحدث في سوريا على يد آلة الإجرام الروسية فهو إحصائيات وتستدعي تعبيرات الأمم المتحدة وأمينها العام عن القلق.
وفي مصر سكتت أمريكا تاريخياً عن تجاوزات العسكر ضد الحريات وحقوق الإنسان ودعمت الانقلابات أولًا ضد الملكية في حكم جمال عبدالناصر والضباط الأحرار وطوال فترة السادات – مبارك ثم ضد الشرعية في عهد عبدالفتاح السيسي. بل هي التي حرّضت السيسي على الانقلاب ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، لقد تم التحايل على إرادة الشعب وإجهاض الثورة والديمقراطية لصالح نظام الفرد المستبد، وأعيدت مصر كما كانت منذ عهد الخديوي إسماعيل الى بيت الطاعة الغربي، حماية لإسرائيل والمصالح الغربية في المنطقة ولمنع أي أمل في النهوض.
وفي الأردن لا يفتأ النظام يتحدث عن إصلاح سياسي لا يأتي منذ خمسين سنة، بينما تزداد وتيرة الفساد والفقر واختفاء الطبقة الوسطى وتسير الأمور نحو الأسوأ، و يتم الضحك على المواطن وتخديره بين الفترة والفترة ” بإبر مورفين” يُسمونها لجان إصلاح سياسي لدراسة وإعطاء “التوصيات ” ، التي الهدف منها إجهاض الإصلاح – إن وجد – من جهة.
ومن جهة أخرى، إظهار النظام بمظهر البريء الذي يرمي تهمة الفساد دائماً على المجهول الآخر غير المنضبط، وكأن الإصلاح هو نفط يتم التنقيب عنه فيُكتشَف أو لا يُكتشَف، ومنذ خمسين عاماً لم نكتشفه. يا لحظنا العاثر.

إن نظرة سريعة على كل الاتفاقيات الدولية التي وقعها الأردن مع الجانب الإسرائيلي والأمريكي من إتفاقية وادي عربة عام 1994 إلى إتفاقية الغاز الى إتفاقية التعاون العسكري مع أمريكا يدرك حجم الانتقاص والتعدي على السيادة الوطنية واستقلال القرار السياسي.
والآن يسعى النظام لتسليم رقبة البلد الى العدو الإسرائيلي ليتحكم في مياه الشرب للأردن فيما يسمى إتفاقية الكهرباء مقابل الماء المقترحة، علمًا بأن الكيان الصهيوني ليس بحاجة للكهرباء والأردن ليس بحاجة للماء من فلسطين، فهناك مصادر بديلة أخرى للماء يتم التعامي عنها بشكل مُتعمّد، كما أن السدود المائية في الأردن تتعرض لعملية تجفيف وتخريب مُنظّم منذ سنتين تتزامن مع تسويق هذة الاتفاقية الخبيثة.

هناك التفاف واضح وعملية تضليل للشعب الأردني الذي هو من أوعى شعوب المنطقة وأكثرها تعليمًا، الهدف منها تركيعه وإحكام السيطرة الصهيونية على البلد عن طريق مصادر مياه الشرب والزراعة لديه.
كل هذا يتم بينما يُغيب البرلمان الصُوري عن إبداء الرأي أو مناقشة أي من هذه الإتفاقيات المصيرية، و ينشغل أعضاؤه ” نواب الشعب ” تارة في العراك بالأيدي وضرب الكراسي ونفاضات السجاير ورش الماء على بعضهم البعض كأنهم في روضة أطفال، وتارة في تشريع قوانين سخيفة لتجريم محاولات الإنتحار وعدم تجريم حيازة المخدرات لأول مرة، وإضافة كلمة الأردنيات جنبًا الى جنب مع كلمة الأردنيين في القوانين، وتعريف الماء بعد الجهد بالماء. والبصم بالعشرة لكل ما يطلبه النظام من تعديلات وتشريعات.
وفي الجزيرة العربية قام حاكم عتيد مؤخراً بالتعاقد مع طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق لإرسال الآلاف من الشُبّان في بلاده لتأهيلهم كخطباء مساجد ودعاة في مؤسسته المشبوهة المسماة ” التغيير العالمي”! ويا ليت تخبيصات هذا الحاكم وقفت عند هذا الأمر فقط فتصرفاته غير المسؤولة في المال العام وثروة شعبه، أصبحت مضرباً للأمثال وسوابق تاريخية للتندر.
هل ضاقت علينا الأرض بما رحُبَت وأصبحنا نُعاني من نقص في العلماء والمجتهدين والفقهاء ورجال الدين لكي نرسل أبناء المسلمين لعند هذا المُجرم قاتل أطفال العراق لتعليمهم وتأهيلهم ليصبحوا دعاة وخطياء مساجد. !
في أي زمن نعيش ومن هؤلاء الحكام الذين وُلوّا أمورنا، هل هم من أبناء جلدتنا ؟. لعمري أن هذا هو الكفر المباح الذي ليس بعده ذنب.

في عام 1976 في الحرب الأهلية اللبنانية انهار النظام السياسي القائم في لبنان غير مأسوفا عليه، وانهزم المعسكر المسيحي الانعزالي المدعوم غربيًا وإسرائيلياً أمام المعسكر الوطني التقدمي وحلفائه في المقاومة الفلسطينية، وأصرّ كمال جنبلاط زعيم التيار الوطني التقدمي آنذاك على استثمار انتصاره على الأرض بتغيير قواعد اللعبة وحسم الصراع مرة وإلى الأبد. تَصدّت فرنسا والحلفاء الغربيين لهذا التوجه، وأصر الغرب على إبقاء الوضع الراهن دون تغيير، ودفع كمال جنبلاط حياته ثمنًا لذلك. وتم المحافظة على النظام والدستور الطائفي كما هو إلى اليوم، علماً بأن الطرف الداخلي المسيحي انهار تمامًا وفقد سيطرته على الأرض، ولكن إصرار الغرب (فرنسا تحديداً) على إبقاء الوضع الراهن كما هو بحذافيره، هو الذي جعل لبنان يبقى الى اليوم أسيراً لدستور فرنسا لعام 1947 العفن، وها هو لبنان إلى اليوم يعاني الموت والدمار والفساد والخراب بسبب هذا النظام المحاصصي الطائفي وهذا الدستور التي تُصِّر فرنسا ( أم لبنان الرؤوم) على عدم المساس به. أرأيتم أين يقع االخلل؟!
ففي سوريا كما في لبنان ، كما في العراق ، كما في اليمن فإن تمكين حكم الطوائف والأقليات لم يتحقق بقوة ودهاء العلويين أو الموارنة أو الشيعة أو الحوثيين، لا والله. بل هو نتيجة رغبات وتفاهمات تُمليها مصالح دولية خارجية ( تحالف الأقليات)، ويتم فرض حكم الأقليات على الأغلبية بالقوة الغاشمة، لأن ذلك بكل بساطة من شأنه أن يؤجج الفتن والنزاعات والأحقاد ويحقق المصالح الحيوية للغرب ويحمي وجود إسرائيل، فنظام الفاسدين والطائفيين في المنطقة الخضراء في بغداد على سبيل المثال باقٍ بحكم الدعم والتمكين الأجنبي له، ولو سُحِب البساط ورفع الغطاء عنه لما صمد بضعة أيام، وقس على ذلك سوريا ولبنان واليمن.
الحل هو ثورة وعصيان مدني يعمّ الوطن العربي من الماء إلى الماء بقيادة مركزية موحدة لا تهمها حدود مصطنعة ولا أنظمة كرتونية، تضع نُصب أعينها أن العدو الحقيقي هو في الخارج وأن الذين في الداخل هم وكلاء صغار ومالكي الإمتياز Franchise owners وأن النظام الجيد هو النظام الساقط الذي سقط بشرعية الشارع وبالشرعية الثورية.
يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً. سيأتي الأمر عندما يشاء الله وستأتي الشرارة من خير الماكرين، مُدبر الأمر، مُفصّل الآيات، مُسخر الشمس والقمر، رافع السماء بغير عمد. فانتظروا إنا معكم مُنتظرون. وتربصوا إنا معكم متربصون. فستعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه ومن هو كاذب.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أرجو الله أن يجزيك خير الجزاء على هذا المقال الرائع ، و هذا تعقيب متواضع من العبد الفقير إلى الله تعالى :
    لا توجد في قمعستان “الكلمة التي نقشها الشاعر الراحل نزار قباني للدلالة على ذلك الوطن الممتد من الخليج النائم إلى المحيط الهائم” أنظمة حكم لأن كلمة أنظمة و كلمة حكم تحتملان دلالات إيجابية تتعلق بالتنظيم أو الترتيب لشؤون البلاد تحت رعاية مسئولين يتحلون بالحكمة و الكفاءة و يقومون بتطبيق مفهوم السيادة على شعوب لها السلطان في اختيار من يحكمها. الموجود في قمعستان “عصابات متحكمة” تديرها مخابرات مرتبطة بالخارج ، و هذا الخارج هو حالياً الاستعمار الفرعوني “الأقوى” و الذي قد يباشر توجيه الأوامر بنفسه لموظفيه العملاء أو قد يوكل دولاً تسير في فلكه أو قد ينتدب عصابات مرتزقة ، و الوكيلة أو المنتدبة لها أدوار محددة تقبض عليها أجرة يحددها “الأقوى” .
    يتعسر بل يتعذر وصف”الأقوى” المسيطر بالمفكر العميق أو بالداهية البليغ أو بالجذاب أخلاقياً ، و إنما هو (( أقوى من جهة العضلات و امتلاك المعلومات و شبكات الجواسيس و انتشار في الأرض و استعمال أموال الآخرين لشراء ذمم و ولاءات أشخاص ثم نزع الأموال المدفوعة لهؤلاء الأشخاص بعد انتهاء المطلوب منهم لاحقاً و استخدام التخويف و الترهيب لإخضاع الجبناء و جعلهم مطايا تحقيق أهداف ثم التخلص منهم بعد تحقق الغرض منهم بأسلوب عصابات الجريمة المحترفة )) .
    هذا “الأقوى” الذي هو قمة و مصدر أغلب الشر في العالم حالياً هو في الحقيقة و من دون تهوين أو تهويل “نمر من ورق” حتى لو تنمر على الآخرين من ساسة و دول و أرعبهم لسبب بسيط و هو افتقاد صناع السياسة لديه للإبداع و للأخلاقيات و للإنسانية و لاتساع الأفق في إدارة الشأن السياسي. هذا الافتقاد جعل المحللين السياسيين المعتبرين يرون أن ما يصدر من هؤلاء الصناع (éminence grise) بضائع مضروبة مليئة بالسخافة و بالعناد الصبياني و بالإملاء الفرعوني . هذا الملء جعل نخبتنا المثقفة أو أولو الألباب عندنا يلحظون عاهات طراطير نواطير للصناع يتحكمون بشعوبنا فيستمر أحدهم 42 عاماً و آخر 30 عاماً و غير ذلك من فترات حيث هنالك أرغوزات استمروا حتى أصبحوا مومياوات (!) و فيما يتعلق بسوريا ، فالحساب يعود إلى 8 آذار /مارس 1963 حين انتزعت العصابة الاستعمارية “الأقوى” سوريا من سيطرة الاستعمار القديم. منذ ذلك الوقت “أي الحديث يدور حول 60 عاماً ” ، لم يحصل لسوريا أي تغيير سوى نحو الأسوأ و التافه الأخير مقرَر له الاستمرار كواجهة– رغم ارتكاب الجرائم الرهيبة – بدعم من “الأقوى” ثم عن طريق الوكلاء و المندوبين و العملاء و الأذناب (الصنفين الآخرين عملهما تمويلي و/أو استخباراتي فقط و ليس اتخاذ قرارات). النمر الورقي “الأقوى” ليس قدراً محتوماً لا مفر منه ، و إنما ظاهرة عابرة ابتلي بها العالم – و من ضمنهم أمتنا – و لن يدوم بلاؤها طويلاً لأن الله موجود بل واجب الوجود و بسبب سنة التدافع و سنة التداول و نتيجة بذور خواء و انسداد أفق و خيبة ذاتية فيها فهي ظاهرة تكررت مثيلاتها عبر التاريخ تحت وصف (سادت ثم بادت).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى