مقالات

الشهيدة شيرين أبو عاقلة.. قصة صحافية كانت الحقيقة سلاحها

عبد القادر زوهري

باحث في الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب

الشهيدة شيرين أبو عاقلة..قصة صحافية كانت الحقيقة سلاحها.مقال رأي، عبد القادر زوهري عندما نتحدث عن مهنة الصحافة، فهي مهنة لها أدوار أخلاقية حقيقية، لا يمكن أن يسبر أغوارها وأن يتحمّل مشاقها سوى من ينتصر للحقيقة ضد التظليل، وللديمقراطية ضد الفاشية، وللحرية ضد الإرهاب، فالصحافي هو مثقف عضوي بالأساس حسب المفهوم الغرامشي للمثقف؛ وبهذا لا يمكن أن نفصل بين الصحافي وعن التحيز، ويكمن هنا التحيز كونه تحيزاً للحقيقة الواضحة ولإيصال الرسالة كما هي، أكانت تحمل حقاً أو باطلاً.ولكن هذا الهمّ والوجع تجاه الحقيقة للأسف لا يحمله إلا القليل من الصحافيين، وممن هم على شاكلة الشهيدة الراحلة شيرين أبو عاقلة التي كانت تنتصر للإنسان ولقضاياه العادلة، والتي كانت توصل حقيقة ما يقع من انتهاكات صهيونية للفلسطينيين من الداخل الفلسطيني المحتل، فهذا كان واقعاً دائما ما يحاول الاحتلال الصهيوني طمسه وتقديم واقع غيره، فالاحتلال الإسرائيلي يفكر دائماً بمنطق التظليل والتشويه للحقائق الثابتة، لأنه يفكر بعقلية الاستبداد والغطرسة، فالقتل والكذب توؤمان في عرف أجهزة دولة الآبارتهايد الصهيونية.فهذا ما وقع للشهيدة شيرين أبو عاقلة التي اغتالها رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي عن سبق نية وترصد، (علماً أنّها كانت ترتدي الخودة والسترة الواقية) والتي كانت تغطّي أحداث المواجهة بين جنود الاحتلال والمقاومة الفلسطينة.حياتها ومسيرتها المهنية شيرين أبو عاقلة من مواليد 1972م ويعود أصلها إلى مدينة بيت لحم، ولكنها ولدت وترعرعت في القدس بفلسطين، وهي تنتمي لعائلة مسيحية، فقد أنهت دراستها الثانوية في مدرسة راهبات الوردية في بيت حنينا، وبعد ذلك درست الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك الأردنية، وحصلت على شهادة الباكالوريوس. وبعد إنهاء دراستها عادت إلى فلسطين وبدأت العمل كصحفية في إذاعة فلسطين ومن ثمّ انتقلت للعمل إلى  قناة عمان الفضائية، وتدرّجت بالوظائف الصحفية إلى أن انتقلت إلى قناة الجزيرة الدولية القطرية، وعملت معها كمراسلة من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد كانت لأبو عاقلة رحمها الله مواقف وتفاصيل في حياتها، فهي لم تكن ترغب في الارتباط أو الزواج وبناء أسرة، وذكرت أنها ليست ضد فكرة الزواج ولكنها لا يمكن ترك عملها والتفرغ لشؤون الأسرة، فقد كانت تؤكد دائماً أن العمل الصحافي تحت الخطر هو لب هذا العمل. فهذا ما يؤكد قوة وصلابة هذه الصحافية الكبيرة، لأنها كانت تضحّي بحياتها من أجل إيصال الرسالة الأخلاقية التي كانت تقوم بها، إثر تغطيتها للأزمات والحروب. فاغتيال أبو عاقلة لم يكن خطأً، فهي كانت دائما تتعرض للتضييق والاستهداف، ففي حديث سابق لشبكة الجزيرة، قالت أبو عاقلة: “إن السلطات الإسرائيلية دائما ما كانت تتهمها بتصوير مناطق أمنية، وأضافت أنها كانت تشعر باستمرار بأنها مستهدفة وأنها في مواجهة قوات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المسلحين”. فهذا ما يبرر عن نيّة مسبقة لاغتيالها. وهذا الاغتيال الممنهج لم تكن أبو عاقلة أولى ضحاياه، طاقم الجزيرة ليس وحده الذي سقط ضحية هذا الاستهداف، بل يزخر سجل القوات الإسرائيلية باعتداءات ممنهجة على الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام، راح ضحيتها ما يزيد على 46 منهم، كما يكشف العدوان على غزة السنة الماضية استهداف عدد من مقرات وسائل الإعلام بغارات جوية. وحسب تقرير أخير لمنظَّمة “مراسلون بلا حدود” أوردته وكالة الأنباء التركية (أناضول) ، تَعرَّض أكثر من 144 صحفياً، فلسطينياً وأجنبياً، لاعتداءات جيش الاحتلال خلال تغطيتهم الأحداث بفلسطين المحتلة خلال السنوات الأربع الأخيرة، بما في ذلك إطلاق النار عليهم، ورشقهم بالقنابل المسيلة للدموع والقنابل الصوتية، والضرب بالعصي، والسحل، مما خلَّف إصابات بليغة نتج عن أغلبها عاهات دائمة، كفقدان الأطراف والأعين، والتشوهات في الوجه.فلماذا تلجئ دولة الاحتلال الإسرائيلية إلى هذه الاستهدافات الجبانة التي تطال الجسم الصحافي والإعلامي العربي والدولي؟لماذا تتخوف الدولة اليهودية من الصحافة ونقل الحقيقة؟ لمعرف أسباب اغتيال الاحتلال الإسرائيلي للصحفيين، والمراسلين العُزَّل. لا بدّ من معرفة كيفية تفكير هذا الاحتلال الصهيوني الاستيطاني، ونستحضر هنا تفكيكية المفكر المصري عبد الوهاب المسيري للصهيونية، فهو أكبر من خَبر بنية الصهيونية وطبيعة مشروعها عبر دراساته الرصينة، ذلك من خلال دراسته للمجتمع الإسرائيلي، ووعيه المعرفي بطبيعة المشروع الصهيوني وإدراكه العلمي لآليات اشتغاله ونفسيته وسوسيولوجيا استيطانه.فقتل واغتيال المراسلين إثر تغطيتهم للمواجهات بين قوات الاحتلال والمقاومة، هو طمس للحقيقة أمام المجتمع والرأي العام الدولي، الحقيقة الأولى التي تبيّن أن الدولة اليهودية المزعومة هي دولة آبرتايد وفصل عنصري يسعى لإبادة الشعب الفلسطيني  ويستعمل في ذلك كلّ الأساليب الوحشية المحظورة دوليا، وهي بهذا لا تسعى للسلاّم الذي تروّج له أمام الأمم المتحدة، والحقيقة الثانية هي وجود مقاومة فلسطينة مسلحة صامدة، لا تكِلّ ولا تمِلّ من المقاومة، فهذا دليل على وجود شعب فلسطيني له تاريخ حضاري يوجد على أرض الميعاد، وهذا يفنّد الأسطورة الصهيونية المعروفة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. فهذا الخوف من تصوير الحقيقة للعالم؛ هو خوف نابع من هاجس نهاية الدولة اليهودية الذي يعشش في الوجدان الإسرائيلي، حيث يقول المسيري رحمه الله في إطار تفسيره لهذا على “أنهم محقون في ذلك، إذ يجب ألا ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية-الجيب الاستيطاني الفرنسي في الجزائر- دولة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا) قد لاقت نفس المصير، أي الاختفاء”.فهكذا يعمل الاحتلال دائما على اغتيال الصحافة لطمس الحقيقة، ولكن الحقيقة لا تقبل سوى الانتشار والظهور، ولا يمكن طمسها ما دام هناك إعلاماً حراً مستمراً حتى النهاية مع الإنسان خطاً ورسالة وصوتاً. فشيرين أبو عاقلة رحمها الله على حدّ تعبيرها، قد اختارت الصحافة كي تكون قريبة من الانسان. هكذا تحدثت الصحافية المقتدرة شيرين أبو عاقلة رحمها الله تعالى، فقد كانت تنتصر للإنسان في مفهومه المركّب الذي يحمل مفاهيم أخرى أكثر تركيبية ك “المقاومة” و “التضحية”، التي لا يمكن أن يرتبط بها سوى الإنسان الحضاري كالإنسان الفلسطيني الذي دائماً تسعى الجماعة الوظيفية الصهيونية/ الاستيطانية/الإحلالية إلى تفكيكه.هؤلاء هم أصحاب المعارك الأخلاقية بصدق، فالصحافة رسالة أخلاقية عظيمة، لا يمكن أن يوصلها إلاّ من ينتصر للإنسان ولن يعرف بحقها بغايا الصحافة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى