مقالات

فرنسا من أعظم الأمبراطوريات إلى دولة تحارب الحجاب!

محمد عماد صابر

برلماني مصري سابق
عرض مقالات الكاتب

قبل قرابة 200 عام من الآن وقف الإمبراطور نابليون بونابرت في عاصمته مدينة الأنوار باريس حاشدا جيشه لغزو العالم أجمع، والآن وبعد مرور قرنين من الزمان وفي ذات مدينة الأنوار وذاتها يقف من خلفوا نابليون في منصبه أو من يتنافسون على خلافته حاشدين أنصارهم وأتباعهم لشن حروب على حجاب النساء وملابس المسلمات فماذا جرى في فرنسا؟!، وكيف سقطت هيبة واحدة من أعظم أمبراطوريات التاريخ؟!.. عند الغوص في تاريخ فرنسا القديم فالرحلة قد تطول لشهور فالبلاد ضاربة في التاريخ، فإذا كانت بريطانيا الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس كانت فرنسا القمر الذي يحب شمس الانجليز في كثير من مناطق العالم.بعد الثورة على الملكية وبداية عصر الجمهوريات من الأولى وحتى الرابعة، أعاد الجنرال المحنك شار ديغول تموضع جديد للسلطة عام 1952 وبدأه بالانسحاب تقريبا من كافة المستعمرات، ووضع أسساً لمحاولة استعادة أمجاد فرنسا فيما عرف بالجمهورية الخامسة المستمرة حتى الآن، لكن كانت الهجمة على ديغول أقوى وأُجبر على التنحي من منصبه عام 1969 تاركا فرنسا لمصير غامض.” انطفاء الأنوار”عقب رحيل الجنرال شارل ديغول من السلطة تقاطر على حكم فرنسا 8 رؤساء آخرهم إيمانويل ماكرون الرئيس الحالى، وجميعهم بلا استثناء كانوا يبحثون عن شيئ ما فقدته مدينة الأنوار وهو “السطوع” وكان هذا بفعل عوامل عدة، فالعالم الذي سطعت فيه أنوار باريس تغير عقب الحرب العالمية الثانية، وخرجت للقمة دول كبرى جديدة من خارج القارة الأوروبية التي حكمت العالم في حقبة ما عرف بعصر النهضة، فبرزت الولايات المتحدة وبرز معها الاتحاد السوفييتي، وتراجعت بريطانيا لتصبح ذيلا لأمريكا في حين تاهت فرنسا وتمزقت ما بين رياح شرقية اشتراكية وهوى غربي رأسمالي، وتبخرت هويتها، فعادت لأدراج الماضي بحثا عن هوية جديدة علَّها تُعيد إحياء ما انطفأ فيها.”عوامل التراجع”التراجع طال كل شيئ تقريبا في فرنسا بما في ذلك مناطق نفوذها التقليدى، فالفرنسيون الذين ظلوا لعقود يعملون على فرنسة مستعمراتهم وتحديدا في أفريقيا التي كانت حديقة باريس الخلفية، انسحبوا فجأة من هذه المستعمرات التي باتت دولا مستقلة، لكن ظل فيها الحضور الفرنسي بارزا بفعل الثقافة الفرنكفونية، فعدة دول إفريقية هي ناطقة بالفرنسية أو اللغة الفرنسية فيها لغة رسمية، ورغم ما بذلته باريس من جهود لتأمين حضورها في القارة السمراء حتى بعد خروجها عسكريا؛ إلا أن نجمها بدأ بالأُفول تدريجيا، وذلك لعدة عوامل على رأسها ظهور ثقافات وتيارات فكرية منافسة مثل فكرة القومية التي أجهضت تقريبا ثقافة الفرنسيين هناك، كذلك نشأت دول وطنية عدة في القارة، وأيضا دخل الأمريكيون القارة السمراء وحضروا فيها عسكريا واقتصاديا، ثم تبعتهم دول أخرى كالاتحاد السوفييتي ثم الصين الحاضرة بقوة اقتصاديا، ومؤخرا أعادت روسيا الدخول لأفريقيا عبر ذراعها العسكري المعروف باسم الفاغنر فطردت فرنسا تقريبا من وسط القارة خصوصا في مالي ومازال الحبل على الجرار، فباتت فرنسا التي تعيش على أمجاد الماضي دولة بلا حديقة خلفية تسندها.”فرنسا ومحاولتها الفاشلة للخروج من العباءة الأمريكية”.بعد أن استيقظت فرنسا على خيبتها كما يقال سعى قادتها لاستدراك ما فقدوه فسعوا لاعادة بلادهم للواجهة؛ فكان عليهم في البداية الخروج من العباءة الأمريكية، وتحالفوا مع ألمانيا التي توحدت مطلع التسعينات لبناء كيان قادر على المنافسة وعلى أمل أن يحل مكان الاتحاد السوفييتي، فكانت ولادة الاتحاد الأوربي بشكله الحالي، وتزعمته كل من برلين وباريس، وفعلا نمى الكيان الجديد وكان قاب قوسين من المزاحمة على القمة، لكن خرج لهذا الكيان رجل من الشرق بدأ بتحجيم الأوربيين، ومعلنا أن القارة العجوز حديقة خلفية له ولبلاده، هذا الرجل كان فلادمير بوتين والذي افتتح حقبته بحروب عدة أعاد من خلالها توحيد روسيا ثم إلجام الدول المحيطة به والمحسوبة على القارة العجوز مثل جورجيا وأوكرانيا، وسعى الأوربيون بالمقابل للاستفادة من صعود روسيا والصين لمساومة الأمريكيين، فتركتهم أمريكا للمقامرة ليدركوا بعدها ألا حضن سوى أمهم واشنطن.الآن فى أعماق الفرنسيين غضب لا تبرده تحالفات الغرب وحلف الناتو، حتى وصل الحال بالرئيس ماكرون أن صرح بموت حلف الناتو سريريا، وكان قاب قوسين أو أدنى من الخروج منه، لتأتي أمريكا وتقرر إعادة تدجين فرنسا من جديد، على يد منافس لباريس غير متوقع، وهي تركيا التي صعدت من جنوب شرق القارة العجوز، حتى أنها دخلت في أكثر من مرة في صراع واضح وعلني مع فرنسا، وباتت فرنسا التي فكرت في مزاحمة واشنطن تزاحم أنقرة، وربما كانت هذه رسالة لإفهام الفرنسيين بحجمهم الطبيعي، لكن أبناء باريس لم يستسلموا ووقفوا سدا منيعا حال دون قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، كما سعت باريس لتعويض نفوذها العسكري بصفقات سلاح مع الدول التي اعتادت أن تشتري من واشنطن، فقال لهم الأمريكيون هذه حدود لا يمكن تجاوزها، فكانت الأزمة الفرنسية الأمريكية الأخيرة على خلفية إلغاء استراليا لصفقة غوصات بالملايين كانت ستشتريها من باريس عرفت بصفقة القرن، وعقدت استراليا صفقة بديلة عنها مع واشنطن لشراء غواصات نووية أمريكية، وعلى أثر هذه الأزمة سحبت باريس سفراءها من العواصم الناطقة بالانجليزية، ورد الناطقون بالانجليزية بتأسيس حلف أوكوس ( أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا)، وكادت تصعد فرنسا لولا رصاصة الرحمة التي أطلقها بوتين على القارة العجوز والمتمثلة في حربه على أوكرانيا، والتي نشط في بدايتها ماكرون للملمة الأزمة، لولا أن بوتين أهانه علانية وأمام الجميع ، حينها ارتعدت فرائس الأوروبيين وعادت ماما أمريكا هي الحامية لهم، وفجأة عاد حلف الناتو الميت إلى الحياة، وعادت واشنطن هي قِبلة الغربيين.”بطولة من ورق ومعارك وهمية”من فرنسا العظيمة إلى التائهة ثم المتمردة على ماما أمريكا وصولا للخاسرة، هكذا يمكن تلخيص تاريخ فرنسا القديم والمعاصر, ونظرا لأن الفرنسيين لن يقبلوا بالهزيمة فقد سعوا لاختراع حرب جديدة على أمل تحقيق انتصار فيها يعيد لهم شيئا من الهيبة، فكانت حربهم على الإسلام، فتحت شعار العلمانية وحماية الثقافة الفرنسية من خطر المهاجرين، انطلقت حملات ضد مظاهر الإسلام فكانت الرسومات المسيئة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.. كذلك قامت أحزاب بكاملها على أفكار تتعلق باللباس، فيخرج زعيم حلف يميني يعد بطرد المسلمين من فرنسا فيجد له أنصاراً وشعبية، وتخرج قائدة يمينية متطرفة تعد بخلع حجاب المسلمات فتجد نفسها أقوى مرشحة لحكم الإليزيه.. لهذه الدرجة تبخرت أحلام الفرنسيين بالمجد والقوة والعظمة والهيمنة على العالم حتى باتت تخوض حروبا وهمية على أعداء مفترضين لتحقيق بطولة من ورق، وهذا يدل على ما يعانيه الفرنسيون من تراجع، لتتحول البلاد التي كانت أحد قطبي العالم فيما مضى إلى وضع تخرج فيه من التاريخ.. يكفي أن ترى مرشحا للرئاسه جل برنامجه الانتخابي يقوم على أساس طرد المسلمين وحظر الحجاب أو منع دخول المسلمين لفرنسا بعد أن كان المرشحون يوما ما يقدمون خطة وطموحاً باحتلال العالم بأسره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى