بحوث ودراسات

محبة الله لرسوله ودفاعه عنه في القرآن الكريم 33من35

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب


الضحى(مكية)11
} وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} صدق الله العظيم.
قيل في سبب نزول هذه السورة أن امرأة جاءت إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم , وقد تأخر جبريك عليه بالنزول بالوحي فقالت له:(ما أرى شيطانك إلا قد قلاك) فآلم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً وأحزنه حزناً شديداً فنزلت هذه السورة.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله قوم من اليهود أو من المشركين عن مسائل معنية فأجابهم بانهم سيجدون الجواب غداً. دون أن يقول: (إن شاء الله), فانقطع عنه الوحي ستة أشهر, فقال المشركون واليهود وغيرهم: (إن محمداً ودعه ربه وقلاه), فنزلت هذه السورة.
وآياً يكن الأمر الذي قالوا, والسبب الذي ذكروا, فإن السورة تنفي كل الأسباب, وتنسف المسألة من جذورها, وتبرهن على أن العلاقة بين رسول الله وربه هي أقوى وأعلى وأجل وأمتن وأسمى.. وهي في أوج قوتها, وأعلى درجاتها من المحبة والمودة والألفة والوصال والتواصل.
(والضحى والليل إذا سجى): يقسم الله عز وجل بهذين الوقتين الجميلين, أحلى ساعات الصفاء والنقاء, فبضياء الضحى, وإشراقة شمسه, وحلاوة ساعته, وبهدوء الليل وساعات انسدالة وسكونه وهدأته, هي العلاقة بيني وبين حبيبي محمد, لا تشوبها شائبة, ولا يعكر صفوها معكر.
(ما ودعك ربك وما قلى): يا محمد بمحبتي لك ومحبتك لي ما ودعتك وما تركتك وما صددت عنك وما أعرضت عنك وما بعدت عنك وما نسيتك وما غبت عني لحظة, وما تجاهلتك أبدا, وما تقصدت تركك عامداً تتقلى على نار الشوق, وتتقلب على الجمر؛ تحترف شوقاً لوصالي, واحتراقاً للقائي, وحنيناً لاتصالي, وأنيناً لانفصالي عنك.
وهنا وبعد هذه الجفوة أراد الله أن يزيل ما في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم من ألم عميق, وعتب رقيق, ويذكره بأن لقاءات الدنيا كلها التي تتم بالواسطة ومن بعيد لا تساوي لحظة واحدة, ولقاء واحداً من لقاءات الآخرة, فقال: (وللآخرة خير لك من الأولى).
لا تهتم ولا وتغتم ولا تأس ولا تأسف ولا تحزن على ضياع موعد لقاء في الدنيا, فكل الدنيا ولقاءاتها لا تستحق منك أن تغتم وتهتم, وإنما الفرصة الكبرى بانتظارك, والأشياء الجميلة مخبأة مؤجلة, والهدايا العظيمة, والعطايا الكريمة تناديك وتنتظرك.
(ولسوف يعطيك ربك فترضى) صحيح أنك غير راض على أنقطاع الوحي عنك, وأن هذا الأمر أزعجك وأغضبك وحز في نفسك وأقلقك؟ لا بأس سنرضيك يا محمد, والله يا محمد لنعطينك عطاءً ما أعطيناه أحداً سواك, ولنكرمنك كرماً ما أكرمناه لأحد غيرك, بل سنعطيك ونعطيك ونعطيك حتى ترضى, فزعلك يعز علينا, ورضاك تهون دونه كل المطالب.
قيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه الآية قال: (إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار) صلى الله عليك يا حبي يا محمد, حتى وأنت في أحلى لحظات اللقاء مع ربك, ومع حبيبك لا تنسانا, وعندما يقدم لك ربك أعظم هدية, وأجمل عطية تقدمها لنا, وعندما يريد ربك منك أن تطلب لنفسك حاجة, تنسى نفسك وتهتم بأمرنا, بل بامر مسيئنا إليك وإلى نفسه وإلى ربه وإلى إخوانه..
فتطلب له الشفاعة والمغفرة والمسامحة والعفو والصفح عنه, فما أعظمك وما أعظم خلقك.
وحتى يستمر اللقاء, ويحلو اللقاء, ويزيل المحب ما في نفس حبيبه من أثر يذكره بما فعله له ويبرهن له على عمق حبه له وصدق حبه له: (الم يجدك يتيماً فآوى)؟ ألم تكن يا محمد يتيماً في كل شيء؟ وحيداً في كل شيء؟ مقطوعاً من كل شيء؟ فآوتيك واحتضنتك وملأت عليك حياتك؟ وعوضتك عن حنان الأم وعطف الأب وحب الجد ورحمة العم وإشفاق الخال, فكنت لي كل شيء, وعوضتك عن الأب والام والخال والعم والجد والأب, واتخذتك لنفسي خليلاً وحبيباً.. وهيأت لك كل ما يملأ عليك حياتك, ويسعد أيامك ولياليك.
(ووجدك ضالاً فهدى) ألم أجدك تائهاً في صحراء الفكر, تجول ببصرك تبحث عن الحقيقة, وتنشد الخلاص, وتهيم على وجهك يميناً وشمالاً وشرقا وغرباً تطلب ضالتك, وتريد هدايتك, فهديناك إلى سواء السبيل, وأرحنا ضميرك, وملأنا عقلك وقلبك, وجعلناك الهادي والمهدي والمهتدي ورسول الهداية للعالمين..
(ووجدك عائلاً فأغنى): وجدك تحتاج إلى من يعيلك فأعالك الله, وهيأل لك من يعيلك, وأغناه الله بفضل إعالته لك, لتفرغ أنت إلى التفكر والتدبر والعبادة والدعوة, ويكون لك خير معين, وخيرأنيس..
ووجدك تحب العائلة, فأكثر الله العائلة من حولك, وجعلك رب أكبر عائلة, وأكبر أسرة في تاريخ البشرية, ووجدك تحب أن تكون قدوة لأسرتك, ومثلاً أعلى في حسن التربية وحسن القيادة وحسن التصرف وحسن المسؤولية, فجعلك مربياً وعائلاً ومعيلاً ومعنياً وقائداً وزعيماً لأكبر وأعظم أمة في تاريخ البشرية.
أغناك وأغنى بك, وأثراك وأثرى بك, وأكرمك وأكرم بك, وأعزك وأعز بك, ونصرك ونصر بك, وهداك وهدى بك, وحفظك وحفظ بك.
غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وغفر لهم بك, وأدخلك الجنة وأدخلهم الجنة رحمة منه وتكريماً وحساباً وجزاءاً وثواباً لك ولكل من تبعك وعزرك ووقرك وأجلك وأحبك وآمن بك إلى يوم القيامة.
والذي يجعلنا ننطلق في التأويل هذا الإطلاق, في آخر الكلمات:(وما قلى-فترضى, فآوى- فهدى, فأغنى) والذي يجعلنا نقول ما نقول, هو هذا الإنعام الكبير على الأمة بفضل هذا الرسول العظيم, فهي أمة الغنى في كل شيء؛ في المال وفي العلم وفي الثروات الظاهرة والباطنة, المكتشفة وغير المكتشفة, وأمة القناعة وأمة الكرم وأمة الهدى وأمة الإيمان وأمة التضحية, وأمة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
(فأما اليتيم فلا تقهر): هنا التفاتة إنسانية عظيمة, ودرس بليغ, وعبرة كبيرة؛ بألا ينسى أيام يتمه, وينقلب على ماضية, ويتنكر ـ كما يفعل بعض الأيتام ـ ومن كرمه أن يحن على اليتامى ويعطف عليهم, ويرفع الظلم عنهم, ويحيطهم بعنايته ورعايته.
وأما السائل فلا تنهر: المحتاج والفقير وابن السبيل له حصته, وله المساعدة, وإلا فقول معروف خير من صدقة يتبعها أذى.
(وأما بنعمة ربك فحدث) تكلم عن نعم الله العظيمة عليك, وتحدث بها وحدث بها الركبان, فإن نعم الله عليك لا تعد ولا تحصى, ولا ينتهي فيها الحديث؛ فحدث ولا حرج..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى