مقالات

إعلامٌ خبيثٌ.. أم ثورةٌ ضلّت طريقها؟

ماسا الصبان

إعلامية سورية
عرض مقالات الكاتب

ضمن التصريحات التي أدلى بها الملازم “آفاق أحمد” مدير مكتب العمليات الخاصة بالمخابرات الجوية بعد انشقاقه عن النظام, تحدث في وثائقي الجزيرة عن الأسلوب الذي اتبعه الأمن السوري لتبرير قتل المتظاهرين، حيث قال:”اختار مكتب المخابرات الجوية منطقة مساكن الحرس الجمهوري لتنفيذ مجزرة جماعية ضد المتظاهرين الذين كانوا متوجهين نحو محافظة درعا لفك الحصار عنها، فجُلّ سكان هذه المنطقة من ضباط وأفراد ينتمون إلى الطائفة العلوية! وبذلك يقدم النظام تبريراً مقنعاً أمام الإعلام الدولي أن هؤلاء ليسوا متظاهرين؛ بل فرق سلفية إرهابية تريد مهاجمة مساكن الحرس واغتصاب النساء وخطف الأطفال بدافع طائفي!! ما يؤدي إلى زجّ الطائفة العلوية ضمن هذا الصراع، وبذلك يستطيع النظام تبرير قتل المتظاهرين أنه حفاظ على أمن البلد واستقراره”.

ربما لم يعرف العاملون تحت يد الأجهزة الإعلامية التابعة للنظام “نظريات الاتصال وأساليب التضليل الاعلامي” التي يتبعها الحكم الأسدي الاستبدادي، فهم كانوا مجرد بيادق لتنفيذها, لذا لو عدنا إلى يوم سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على الحكم في سوريا نجد أنه ألغى -من اللحظة الأولى- الأسس الديمقراطية الجنينية المتمثلة بالنشاط السياسي والثقافي المعتمد على تعددية الأحزاب السياسية والمنابر الإعلامية، حيث سيطر على الإذاعة والتلفزيون من خلال تحويلهم إلى بوق دعائي، وألغى كل المجلات والجرائد عدا الثورة والبعث التابعتين له, ثم أصدر جريدة تشرين في 1975.

لكي يبرر ممارسات قمع حرية التعبير ويتمكن من مقاليد الحكم بقوة، أصدر النظام ما سُمي بـ”قانون الطوارئ” مستندا إلى الحجة ذاتها: “حماية الثورة من أعداء الداخل والخارج، والحفاظ على صيرورة البلاد وبناء الدولة القوية”، ما قوّض حرية الإعلام التي تُعتبر العامود الفقري لنماء أي مجتمع ديموقراطي! وبقيت حرية التعبير في “إطار الإعلام الرسمي” التابع للسلطة السياسية، تحت الرقابة والقص والمنع حتى على مستوى الروايات والكتب الثقافية برعاية المكاتب الأمنية التابعة مباشرة للقصر الرئاسي، وبدلاً من المنابر الحرّة أنشأ “المراكز الثقافية” بوقًا يلمّع استبداده! ثم أوجد “الشبيبة” بديلًا عن الأندية والتجمعات الأهلية! بهدف تسطيح المعرفة لدى الجماهير وتحويل الرأي العام الإيجابي إلى “سلبي” يدعم ممارساته القمعية، ويثبت فساد مؤسساته، كآلية أساسية لأستمراره.

أتى عالم البث الفضائي غير المسيطر عليه يقضُّ مضجع حكم الأسد، ورغم محاولاته امتصاص حالة المعلومات المتدفقة دون رقيب! اضطر لمسايرة الموجة، فأطلق قناة “الإخبارية” عام 2004 التي كان صدى الاحتفال بافتتاحها أضعاف تأثيرها المهني والإخباري على أرض الواقع, ولأنها ابنة الاستبداد لم تستطع أن تشغل دوراً بديلاً عن قنوات أكثر انفتاحا كـ”الجزيرة” التي استطاعت الاستحواذ على أغلبية جمهور الوطن العربي, بسبب جرأة برامجها وحرفية كادرها.

رغم أن الديمقراطية بمفهومها العام كما يقول نعومي تشومسكي: “مشاركة الجمهور في وسائل الإعلام بشكل فاعل حتى تكون منفتحة وحرة” إلا أنه يعود ليوضح المعنى التطبيقي لهذا المصطلح، فيقول: ” الديمقراطية بمعناها الواقعي أن يُمنع العامة من إدارة وسائل الاعلام! حيث تبقى المعلومات المرسَلة تحت سيطرة النُّخبة”، ثم يشرح ذلك بأن الأيديولوجيا الدينية كانت توجه الجماهير وتؤثر على الرأي العام في الماضي فتدفعهم للانخراط في الحركات الكبرى أوالحروب، لكن بعد تحوّل أوروبا إلى النهج العلماني حلَّت السياسة محل الدين! إذ استعارت منه الخصائص النفسية ذاتها، فأصبحت السياسة دينًا مُعلمنا، وكما في الدِّين صار البشر عبيدًا لتصوراتهم الخاصة، إلا أن الفرق هنا يكمن بوجود مجتمع مدني ذي تعددية فكرية وانتماءات متباينة، تتنافس فيها الأيديولوجيات، في حين الإعلام الاستبدادي لا يقدم سوى قطب واحد لحزب واحد مستخدمًا بذلك الدين أداة لصقل الفكر التعصُّبي وإلغاء العقل التحليلي الذي يستطيع قبول الأفكار الجديدة المختلفة، من هنا يمكن فهم الفرق بين وسائل إعلام النظام الأسدي الاستبدادي ووسائل الإعلام الأوروبية المتباينة والمتنافسة في أجنداتها وسياساتها.

اعتماداً على الفرق بين النظري والتطبيقي يمكن فهم “العمل الإعلامي” نظرياً أنه: (نقل الأحداث كاملة بصدق وبأكبر قدر من الحيادية والموضوعية), لكن الواقع الطبيعي لهذا المصطلح مختلف تماما! فلا يوجد وسيلة إعلامية بلا تمويل ولا تمويل بلا أجندة سواء بالمفهوم “السلبي أو الإيجابي” للكلمة، لذا لا وجود لإعلام محايد وموضوعي! والوسيلة الإعلامية لا تنقل الصورة كاملة رغم أنها صادقة! إلا أنه صدق جزئي! بمعنى أنها تنقل أحد جوانب الحقيقة فقط, ذلك الجزء المتناسب مع سياسة الوسيلة التابعة لأجندة الجهة المموِّلة، ومن هنا فالوسيلة الإعلامية التابعة للنظام الاستبدادي تعتمد على تسطيح الوعي وتحويل فكر الجمهور نحو احتياجاته البدائية، من خلال نقل وقائع هامشية، أما أجندة إعلام النظام الديمقراطي تعمل على تحويل الرأي العام لدعم أيديولوجيتها مقابل أيديولوجية أخرى منافسة لها من خلال نقل الجزء الداعم لرأيها حول حقائق جوهرية.

ولأن النظام الأسدي يهمه الحفاظ على “السلطة” سعى للتحكم بفضاء المعلومات الذي غزا العالم، إلا أنه وقف عاجزاً أمام حاجة الناس الملحّة لمعرفة حقيقة الأحداث المهمّة حولها، لذلك عندما انفجر بركان الشارع السوري الذي كان يغلي تحت كومة برامج قناتي الفضائية والإخبارية السورية!

سلك هذا الإعلام ردّ فعل “إنسان بسيط” تجاه الصدمة، فأنكر الأحداث “بسلوك بدائي” مقابل تلك الفيديوهات المنتشرة عبر الانترنت والقنوات الفضائية التلفزيونية، ثم هاجم سلوك المتظاهرين فوصفهم بالعمالة والخيانة الوطنية، بعد ذلك لجأ إلى لعبة الأنظمة الفاشية المتآكلة بتبرير قتل واعتقال المتظاهرين، لكن لماذا أخذت بعض وسائل الإعلامية الدولية برواية النظام؟ وما كان دور القنوات الأخرى التي نقلت أحداث الثورة منذ ولادتها؟

عندما بدأ النظام يشعر بالعجز أمام المطالب المحقّة للناس، قرر إصدار “عفو عام” أطلق من خلاله سراح أصحاب السوابق الجنائية والمتطرفين الذين وجدوا في الفوضى الحاصلة بيئة خصبة! فانقسموا بين اللجان الشعبية المُنشأة من قبل “أفرع الأمن” كبديل عن وحدات الجيش في بعض الأحياء، وبين تنسيقيات الثوار التي كانت لم تزل مصرّة على سلمية حراكها، تزامن ذلك مع استغلال “حزب الإخوان المسلمين” للظرف والدخول بين صفوف المتظاهرين، حينها تحول مسار هذا البركان، فبدلاً من أن يصيب الهدف بإسقاط الاستبداد! تشعّب ليحرق ذاته، فهل كان الحراك الثوري ضعيفاً أو أعمى.. أم أنه كما يحلو للبعض اتهامه بأنها لم تكون ثورة حقيقية؟
إن هذا الانفجار البريء فقد الأعمدة الرئيسية التي يحتاجها لاستمراريته وثباته على الخط السليم نحو تحقيق هدفه الأساسي، تلك الحوامل المتمثلة بـ”القيادات السياسية الفعلية المنخرطة في الشارع السياسي، والأحزاب المتعددة”، فالعقول السياسية التي استبعدها النظام خارج البلاد سبعينيات القرن الماضي لم تستطع سوى تقديم تحليلات نظرية عبر وسائل الاعلام، ولم يصل خطابها إلى الثوار ليوعيهم بما يحيط بهم!!
أما النخب الجنينية في الداخل التي كانت تحاول تنمية الوعي السياسي سراً، لم تتمكن أيضًا من التحكم بهذا البركان، إنما انجرفت وتلونت بعفويته، لأنها في الأساس لم تمتلك الكثير من خبرة الفعل السايسي اليومي, بل إن براءة انفجار “الحرية” كان أقوى من كل فيتامينات التحليل السياسي التي تلقتها وتدرّبت عليها ضمن نشاطاتها الخجولة، فأنّى لشعب لم يرَ شيئاً من مظاهر المجتمع المدني أن يُنظّم نفسه ضمن حراك سياسي فاعل، دون أن يأتي من يمتطي أحلامه ويستغل آلامه.

الثورة السورية كانت بركاناً أغلق النظام فمه لأكثر من خمسين سنة، لكن لسانه انطلق أخيراً واستطاع أن ينطق كلمته الأولى “حرية” دون تشجيع أحد، بل وجد نيران النظام وإعلامه من خلفه، ورحى التدخل الخارجي عسكريًا وإعلامياً أمامه، فلم يبق له سوى بحر اللجوء بانتظاره، مع ضوء إعلامي مشوّه ومشوّش على معاناته، وعندما قبل بأحسن المساوىء وجد نفسه فريسةً لإعلام دول اللجوء، ووسائل إعلام تُسمي نفسها “إعلام الثورة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى