مقالات

شكل العالم بعد الحرب الأوكرانية!

محمد عماد صابر

برلماني مصري سابق
عرض مقالات الكاتب

أولا: حرب ظاهرها بين دولتين، وفي باطنها أكثر من ذلك بكثير، جوهرها حرب كونية، إنه الشكل الجديد للحروب و الذي ربما علينا أن نعتاده مستقبلاً، عندما ستذوب ثلوج عام 2022 على الأراضي الأوكرانية سينبعث من تحت رماد الحرب تاريخ جديد لهذا العالم بعد نزال مسلح دموي سيرسم ملامح النظام العالمي الجديد.. لم يعد سراً أن بوتين يسعى للإطاحة بالنظام العالمي القديم، فأراد الحرب في أوكرانيا لتكون مجرد ضربة البداية، رغم أن فيها كل أدوات الحرب من إلتحام الجيوش ودبابات وطائرات ومدفعية وصواريخ صوتية وفوق صوتية وحتى ربما أسلحة نووية تكتيكية بمدى محدود، إلا أن الجيشين المتحاربين على الورق هما روسيا وأوكرانيا، ولكن فى الجوهر هي حرب كونية بين روسيا وأمريكا، امتدادات روسيا صينيا ونحو معسكرات ديكتاتوريات الشرق الأقصى كوريا الشمالية، أما تشعبات أمريكا بريطانياً وغربياً فليست أقل شأنا مما يقدمه الحلفاء لبعض في الحروب.

ثانيا: ستكون نهايتها ليست كأى حرب أخرى، وربما من سيعلن النصر أخيرا جميع المتحاربين، فيقول الروس هذا انتصارنا وهذه أهدافنا تحققت، وتقول أوكرانيا انتصارنا، ألم تشاهدوا صمودنا؟ وفي النهاية تبقى حقيقة واحدة أن العالم الذي سيخرج من تحت رماد الحرب لن يكون أبدا كالعالم الذي عشناه قبل هذه الحرب، ربما عالم آخر بنظام لايمنح أمريكا وأوروبا سوى ثلث عجلة القيادة التي تتحكم في مصير الكوكب، عالم يعترف بقوة روسيا العسكرية والسياسية وبالصعود الصيني الاقتصادي والعسكري، عالم تسوده القطيعة بين دول المعسكرات المتناحرة.

ثالثا: لو انتصرت روسيا في الحرب فإن الكريملن بلا شك يسيرنحو المشاركة في حكم العالم، لأن الأزمة الأوكرانية تجسد من وجهة نظر بوتين سعيا لاعادة رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة، واستعادة نفوذ موسكو على نصف أوروبا، ما يعني أن عقيدة وفكر بوتين باقيان ربما حتى بعد رحيله، ما سيلقي بظلاله على العالم لفترة طويلة، خاصة إذا ما نجحت استراتيجية بوتين على المدى البعيد بفك ارتباط دول البلطيق( استوانيا، لاتفيا، ليتوانيا) بحلف شمال الأطلسي، من خلال إثبات أن الحلف عاجز عن تقديم الحماية لها، ومع وجود بولندا والمجر و خمسة أعضاء آخرين في الناتو يتشاركون الحدود مع روسيا الجديدة المُوَسَّعَة، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلف الناتو في الدفاع عن الجناح الشرقي للحلف سوف تتضاءل بشكل كبير، ومع إضعاف التحالف الأطلسي “الناتو” سيبدو الطريق ممهداً لبوتين نحو هدفه النهائي للإطاحة بالنظام وتكريس روسيا كقوة عظمى مجددا، في عالم ثلاثي الأقطاب.

رابعاً: الحرب الروسية الأوكرانية ستنتج علاقات جديدة بين أمريكا وأوروبا، بحيث تصبح القارة العجوز مركز التحرك الأمريكي، إذ أنه مع هيمنة روسيا على أوكرانيا سيغيب الأمن والاستقرار عن أوروبا كما عهدته من قبل، وذلك في منطقة واسعة تبدأ في أوستوانيا لتشمل بولندا حتى رومانيا وتركيا، خاصة وأن جيران أوكرانيا سينظرون إلى وجود روسيا كعدو يهدد الأمن ويتربص اللحظة للانقضاض، كما أن كل أوروبا ستواجه تحديات شديدة وعلى رأسها ألمانيا التي لا تملك جيشا قويا يمكنها من الدفاع عن نفسها أو عن جيرانها بعد التقدم الروسي غرباً، ما يضع المسؤلية الأكبر على فرنسا وبريطانيا اللتين ستخوضان الجهود العسكرية بفضل قواتهما المسلحة القوية نسبيا، إلا أن كل هذا لن يؤدي إلى تراجع محتمل لحلف الناتو، ستبقى الولايات المتحدة هي صاحبة الكلمة العليا في أوروبا وستعطي من قوتها للحلف الذي سيحاول تجاوز نكسته في أوكرانيا، ليطمئن دول شرق أوروبا القلقة والمعرضة للخطر على طول حدودٍ مترامية الأطراف وغير مستقرة مع روسيا، ما سيعني ببساطة أن الولايات المتحدة ستحضر في أوروبا أكثر من أي وقت مضى، وستتخذ من القارة العجوز محورا لها عبر حلف الناتو رغم أن الأوروبيين يعلمون جيدا أن هذا الحلف لن يكون مظلة الأمن المطلقة .

خامساً: الصين واستراتيجية الذئب المحارب، تتحول تدريجيا من تنين الاقتصاد إلى تنين محاربٍ أكثر جرأة بعد المغامرة الروسية، ماسيحقق أهداف الصين التي وضعتها منذ ردح من الزمن وعلى رأسها إبقاء الحزب الشيوعي الصيني في السلطة، واحتلال تايوان وضمها إلى البر الصيني الرئيسي، والسيطرة على شرق الصين وبحر الصين الجنوبي، مع تمكين الصين إلى مكانة تجعلها قوة مهيمنة في آسيا وأقوى دولة في العالم. وفي أسوأ السيناريوهات لأمريكا والغرب قد تستفيد الصين من إصرار روسيا في أوكرانيا وتغزو تايوان فعلا لتصبح واشنطن بين خيارين مجددا إما مواجهة الصين بحرب عالمية أو اعتماد الصيغة الجديدة للحروب العالمية عبر الدعم والإسناد والتسليح لتايوان. وفور تحقيق بكين مكاسب في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ فسوف يبشر ذلك بنهاية النظام العالمي الحالي.

سادساً: أمريكا ستظل قوة عظمى مع تغير وحيد بأنها لن تبقى القطب الأوحد، لم تتوقف تقارير إعلامية عن إتهام أمريكا بعزمها على بقاء الصراع في أوكرانيا لأمد بعيد، خدمة لمصلحتها الجيوسياسية الخاصة وخدمة لمصنعي الأسلحة الأمريكيين، إضافةإلى أن واشنطن تستخدم الفوضى لأجل التلاعب بأوروبا والناتو تحت غطاء التهديد الروسي، ما يعني أن أمريكا لن تخرج خاسرة في كل الأحوال من حرب أوكرانيا وروسيا، وأن النظام العالمي الجديد لن يقوم على أنقاض النظام المحتضر، لأن أمريكا ستظل قوة إلا أنها ستواجه التحالف الروسي الصيني بإبقاء الناتو محاصِرا لغرب روسيا تقريبا مع ضم المزيد من الدول للحلف الذي يقض مضجع بوتين، كما ستدفع مضطرةً إلى زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي بالتزامن مع فرض المزيد من العسكرة والتسليح وبناء القواعد العسكرية في دول أوروبا الشرقية بهدف جعل روسيا أشد عزلة عن الاقتصاد العالمي.

سابعاً: دول الخليج ستعيد تشكيل العلاقات مع الولايات المتحدة وتنفتح أكبر على القطبين الجديدين روسيا والصين.. ففي وقت يتحدث كل الكوكب عن الطاقة البديلة والمتجددة، جاءت الحرب لتضع مصادر الطاقة الأحفورية على عرشها مجددا، ففي وقت كبلت فيه روسيا أيادي أوروبا بمجرد التلويح بإغلاق صنبور الطاقة عنها، وجدت الدولة العربية المنتجة للنفط والغاز نفسها في انتعاشة كبيرة مع تحسن صناعة النفط والخام بالتزامن مع ارتفاعات كبيرة في أسعارها، إذ صعد سعر برميل النفط أعلى مستوياته منذ 14 عاما، بينما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي إلى أكبر سعر في تاريخ القطاع، ما أبرز دول الخليج العربية كدول إقليمية كبرى، خاصة مع إعلان الولايات المتحدة حظر النفط الروسي من دخول البلاد، واتخاذ بريطانيا القرار ذاته، وفي وقت يرجح فيه تأخر عودة النفط الخام الإيراني إلى الأسواق جراء عدم التقدم في مفاوضات الملف النووي، واستمرار العقوبات على طهران.

ثامناً: روسيا والصين وعالم اقتصادي جديد خارج عالم الدولار و “سويفت”، تذهب معظم المراكز البحثية بعد الحرب الذهاب الى عالم اقتصادي خارج عالم الدولار و ( “سويفت” جمعية الإتصالات المالية العالمية بين البنوك)، وهو عالم بدأ يتشكل فعلا أثناء الحرب في أوكرانيا للانتصار على سكين العقوبات الغربية، حيث بدأت روسيا والصين تقدمان حلولا اقتصادية لكسر الاحتقار الذي يمارسه الدولار على التجارة والتبادل العالمي عبر فرض التبادل التجاري وبيع الطاقة بالروبل الروسي واليوان الصيني، وبات من المؤكد أن العالم الاقتصادي الروسي الصيني الجديد سيجتذب دولاً كثيرة ترزخ تحت عقوبات اقتصادية أمريكية لكسر السيطرة الأمريكية في احتكار التعامل بالدولار والتحكم بسويفت العالمي، إذ بدأت الصين وروسيا بالفعل التعامل ببطاقات موازية للفيزا والمستركارت، ما يؤسس لنظام عالمي اقتصادي موازي يقسم العالم إلى فسطاطين ويجعله أمام نظامين اقتصاديين يحمى كلا منهما قوى عسكرية موازية أيضا؛ ما يعني أن موازين القوى الجديدة في عالم ما بعد حرب أوكرانيا و روسيا سيتضمن نشوء سوق عالمية موازية تفرض أمريكا قطيعة عامة عليها، مع بقاء احتمال نشوء اقتصاد ثالث بينهما يشق طريقه إلى العالمية، وبالتالي دخول مرحلة عالم متعدد القطبية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وما أن تضع حرب روسيا وأوكرانيا أوزارها بأي مسارات أو نهايات كانت فإن قيادة العالم إما أنها ستصبح ثلاثية بالفعل، أو ربما سيكون عالما بلا أقطاب يشبه جزر إقليمية منعزلة من التحالفات والخصومات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى