بحوث ودراسات

محبة الله لرسوله ودفاعه عنه في القرآن الكريم 29 من 35

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

(وأعد لهم عذابا مهينا): هؤلاء الملعونون لهم وضع خاص, ومراسيم خاصة, وعقاب خاص يليق بهم, وقد أعده الله بنفسه لهم, وانتظر ساعة وصولهم ومجيئهم, ليقدمه لهم, عذاباً خاصاً معداً إعداداً جيداً, سداه الحرق الشديد بنار جهنم وبأسفل وأحر الدركات, وبمكان محجوز ومعدٍ لهم إعداد سابقا وخاصا. ولحمته الإهانة والإذلال, والضرب والشتم, والسحل والانتقام.. {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}الأنفال50. وهذا كله يجري أمام الناس أجمعين, لتكون العقوبة اشد, والإذلال أكبر, والعذاب أمر وأقوى وأدهى, فقد كانوا في الدنيا سادة القوم وعليتهم, وأعزة القوم وولاة أمورهم.. انظروهم اليوم ماذا حل بهم, وكيف صار حالهم, وما هو مآلهم ومصيرهم وجزاؤهم وعقابهم.. تفنن في العذاب, وتمتع في العذاب, وإمعان في الإذلال والإهانة. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}الأحزاب58: هنا الوضع يتغير, والخطاب يختلف, والنبرة تخف, والحدة والشدة تهدأ.. فإيذاء رسول الله شيء, وإيذاء غيره شيء آخر.. فلا قسم, ولا توكيد, ولا إنّ, وكذلك فإن الإيذاء هنا ينقسم إلى قسمين: إيذاء بسبب ذنب اكتسبوه, فهذا لا بأس به, شرط أن يتناسب مع الذنب المقترف ويساويه, ويكون رادعا وعقوبة, والصفح والمسامحة خير.. وإيذاء بغير اكتساب ذنب, وهنا يكون المؤذي قد احتمل على ظهره بهتانا, وأضاف إلى حمله ذنباً جديداً, وإثماً جديداً, سيحاسب عليه لاحقاً, وينال عليه جزاءه في الآخرة, إن لم يتب ويعتذر ويحصل على المسامحة والعفو والصفح والغفران في الدنيا.. ولكن هذا الإثم شيء, وذاك الإثم شيء آخر.. هذا بين البشر, وذاك مع الله والرسول, وهذا قابل للنقاش, والأخذ والرد, والمسامحة والعفو, أما ذلك فلا نقاش فيه ولا مراجعة, فإيذاء المؤمنين والمؤمنات شيء, وإيذاء الرسول شيء آخر.. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}الأحزاب59 . هنا يتوجه الحديث إلى شيء آخر, ويقدم درساً وعبرة ونصيحة وحكمة, وهي تجنب التعرض للإيذاء, والابتعاد عن المؤذين وتحاشيهم, وسد الذرائع أمامهم, وعدم إعطائهم الفرصة المناسبة, وقطع الطريق عليهم, بالاحتشام وعدم الظهور بمظهر يثير الفضول, ويفسح المجال لهؤلاء المؤذين أن يستغلوا الفرصة, ويبثوا سمومهم, ويباشروا إيذاءهم, ويفعلوا فعلتهم.. نداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه, وأمر له, وللمؤمنين من خلاله, أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين, بالستر والاحتشام, وأن يبتعدن عن التبرج, وعن لبس الملابس البراقة الشفافة الضيقة التي تبرز المحاسن, وتلفت الانتباه, وتثير الغرائز, وتؤدي إلى الفتنة, ويطمع الذي في قلبه مرض. فالاحتشام والحياء والابتعاد عن الأشرار, أمر واجب التنفيذ, حتى لا يعرفوهن فيؤذوهن بكلام أو فعل أو تصرف, أو إشاعة كاذبة, أو دعاية مغرضة, فقد يكن مقصودات لذاتهن, أو لأزواجهن أو لأهليهن, ولكن بالإقناع وبالموعظة الحسنة, واللين والكلمة الطيبة, والمنطق المقبول, دون قسوة أو شدة. فالإيذاء مرفوض منكم ومن أعدائكم لهن, وسامحوهن على ما فات ومضى, ونبهوهن إلى ما هو آت وقادم من الأيام, برحمة وشفقة ومحبة ومودة, والتزموا الرحمة مع نسائكم في دعوتهن إلى الاحتشام, وإقناعهن بذلك, وعدم الإساءة إليهن, واستغلال هذه الأمور لممارسة القمع والقهر والاضطهاد بحقهن, فالله رحيم بهن, ويغفر لهن ويسامحن إن اخطأن, وهو أعلم بهن, وبإيمانهن وبدينهن وبمحبتهن لله ورسوله, وغيرتهن على عرض الله ورسوله والمؤمنين, وهن أحرص ما يكن على تجنب غضب الله ورسوله والمؤمنين, ومثلكم غيرة على الدين والشرف والعرض, وربما أكثر منكم حرصاً على أنفسهن, من أن ينالهن أحد بسوء أو أذى.. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً), فالله سبحانه وتعالى غفر لكم ولهن ما مضى, في هذا الباب, وهو يغفر الخطأ والسهو والذنب عند التوبة, والرجوع عن الذنب إن حصل لاحقاً, شرط ألا يكون متعمداً مقصوداً, فالله هو الغفور الرحيم, وهو الرحمة كلها, وكل هذه الأشياء والأوامر والنواهي هي رحمة بكم, وإشفاق عليكم, ومحبة لكم, وهي لخيركم ولراحتكم وسلامتكم, وتجنبكم الإيذاء, من ألسنة السوء, وأيادي الشر, وكل هذا لمصلحتكم, وفيه الخير كل الخير لكم.. {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً }الأحزاب60 (لئن لم ينته المنافقون): اللام موطئة للقسم, وإن: شرط, ولم: جزم وقطع, وينته: مضارع مجزوم بحذف حرف العلة, قسم وشرط وجزم وحذف لحرف العلة, استهلال خطير, وقسم عظيم, يخفي وراءه غضباً كبيراً, وتوعداً مخيفا, وعقاباً شديداً للمنافقين الذين يظهرون للنبي وللمسلمين المودة والإيمان, وهم يطعنون بأعراضهم, ويتربصون بهم, ويبثون الدعاية ضدهم, ويحرضون عليهم, ويعملون على محاربتهم, والنيل منهم. (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ): (الزناة) من قوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}الأحزاب32, هؤلاء الذين لا شغل لهم إلا تتبع عورات الناس, ونهش أعراضهم, والتربص بالنساء, ومحاولة إيقاعهن بحبائلهم, بشتى الطرق, وكل وسيلة. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ): وهم الذين كانوا يبثون أخبار السوء, عن سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم, فيقولون هزموا وقتلوا, وجرى عليهم كذا وكذا, فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين, يقال أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقته, لكونة خبراً متزلزلاً غير ثابت, من الرجفة, وهي الزلزلة, وهي ما نسميه اليوم: الحرب الدعائية أو الإعلامية المغرضة, أو الحرب النفسية, أو الطابور الخامس, وهؤلاء الذين يبثون الإشاعات الكاذبة, ويختلقون الأقاويل المزيفة, والقصص الملفقة, والأحداث الموضوعة, والحوادث المصنوعة, لزعزعة صفوف المسلمون, وإدخال الشك والريبة إلى نفوسهم, وخلق الفتنة فيما بينهم, وتدمير معنوياتهم, وتخريب بيوتهم من الداخل, بعد أن عجزوا عن مواجهتهم في ساحات القتال, أو محاربتهم في عقيدتهم, والنيل من إيمانهم , فليجأون إلى هذا الأسلوب الرخيص, والعمل الجبان, والتصرف الدنيء, لخلخلة صفوف المسلمين, وإدخال البلبلة والاضطراب, والحيرة والخوف, والغيرة والقلق, والشك والريبة.. فماذا كان رد الله عليهم, وطريقة معالجته لشرورهم, وهو الأعلم بالنفوس, والأعرف بخبايا الأمور, والأدرى بمواطن الضعف, والأحرص على وحدة صفوف المسلمين, وتماسكهم وصلابتهم وقوتهم, والأحب لهم من أنفسهم لأنفسهم, ولأزواجهم ولأبنائهم ولعشيرتهم, والأغير منهم على أعراضهم وشرفهم, وكبريائهم وشموخهم وعزتهم.. (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ): أي لنحرضنك عليهم, ولنسلطنك عليهم, ولنأمرنك بمحاربتهم بلا هوادة, وقمعهم بشتى الطرق, وبأقصى عقوبة, وأنجح وسيلة, للخلاص من شرورهم, وهي إنذارهم بالخروج من المدينة فوراً, وإخلائها خلال مدة قصيرة جداً, ومحددة بالساعات والدقائق, وإلا سينزل بهم الغضب, ويحل عليهم السخط, وتحق عليهم العقوبة, ويقع فيهم الدمار والقتل والتنكيل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى