مقابلات

آيات وأحاديث القتال…نحو فهم فقهي

الدكتور أحمد كافي

أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية
عرض مقالات الكاتب

لم يكن مقالي عند الرد على الدكتور عطية عدلان منصبا حول الأفكار التي قررها في هذا المقال الأخير له (آيات الجهاد نحو فهم مقاصدي)، وذكرني بالاسم أني وصفته بالشطط. فإني إن فعلت بالطعن في أفكاره، أكون قد سلكت السبيل مثله في إنكار الشيء وفعل نظيره. ولكن العتبى لي عليه في مقاله يتركز حول أربعة أمور، وهي:

1ـ تركه الموضوع والدخول في موضوع لم يكن سبب التنادي للاجتماع عليه. فقد اجتمعنا على آيات القتال لا على التصرفات النبوية. فإن أهمك أمرها فاعرض على المنتدى مقترحك في أن تكون هي القضية العلمية المقبلة، بحضور لفيف من أهل العلم ومن تنكر عليهم حتى وصفتهم بالعلمانيين في التفكير.

هذا إذا كنت تعترف بها المنتدى. فإن استصغرت شأنه، فـأنت معفي من هذا الاقتراح.

2ـ أنك صورت المسألة في موضوع اللقاء أنها إجماعية لا حق لعلماء العصر مخالفتها. وحيث فعلوا، فالأمر أكبر ممن أنكرت عليهما، وطالبت بسحب رئاسة الاتحاد من أحدهما. وأنت تعرف جيدا هؤلاء العلماء المعاصرون الذين قالوا بأن جهاد الطلب ليس فرضا. ودينهم أعز عندهم من مخالفة شريعتهم، فقد نشأوا في أحضان الإسلام والانتصار له، والدفاع عن معالمه. ولن يجتمعوا على الباطل والبوار والخطر ومخالفة الإجماع، وليسوا معصومين، ولكنه رأي منهم أبدوه اعتقدوا رجحانه ديانة، فصدعوا به للناس.

3ـ ترتيب الحكم الغليظ على مسألة خلافية تعلم أنت قبل غيرك أن جمهورا عريضا من علماء العصر يخالفون رأيك الذي تذهب إليه. فهل حق الرأي العلمي عند وجود المخالفة المعتبرة تستدعي منك سيدي أن تتطاول على رأي غيرك، فتصفه ب: البائر، والخطير، والباطل، والمخالف للإجماع؟؟

4ـ التحريض على الدكتور أحمد الريسوني في مسألة علمية وصلت حدا عندك أن تعتبرها من أركان الدين التي سوف تهي بهذا القول، فطالبته بالاعتذار أو إعمال مسطرة إقالته. وليذهب على حيث ألقت رحلها ام قشعم، وليقل ما بدا له. وطالبت أعضاء الاتحاد بالإفصاح عن رأيهم، ولم أعلم على حد كتابة هذه المقالة من وافقك الرأي، وهم بحمد الله أهل علم من بلاد شتى.

هذه هي مفاصل العتبى عليك.

الانتصار للرأي:

ومقالك اليوم: آيات الجهاد نحو فهم مقاصدي، جهد منك طيب ومشكور، وبيان لهذا الرأي الذي نعترف به ونعتز بوجوده. ولم تزد على أن انتصرت له، وناضلت في فسطاط ترجيحه.

لكن، اعلم أن جميع ما تذكره لم يخف على العلماء وطلبة العلم، وليس الخلاف في إنكاره حتى تسرد نصوص علمائنا علينا صردا. فإننا لا نتنكر لتراث أمتنا المجيدة في الفقه الإسلامي. ولكن ابذل جهدا في معرفة ما عند الاخرين، وائت بآرائهم ورد عليها. وبين لنا بطلانها وبوارها وخطورتها ومخالفتها للإجماع، حتى نأتسي بك في هذا العمل، فننهض جميعا إلبا على هذا المنكر.

وإن كنتَ قد اجتهدت على احتشام في الرد على ما ذكرتها شبهات، وهي في بعض منها أقوال للعلماء حولتها شبهات دون الإتيان بنصوصهم. وإيرادها لك دليل على وجود الخلاف، تعفينا من تكلف الرد عليك لو أنك أتيت بها ونسبت تلك الأقوال إلى أهلها، حتى يتبين للقراء والمتابعين أن هناك من أهل العلم من له نظر آخر في الموضوع.

لكنك لم تفعل، ولا تزال مصرا على المضي في طريقةٍ لا تنجدك ولن تنصرك، لأن ما تبذله إنما هو رأي ابتداء وانتهاء. وقد قال ابن الخطاب رضي الله عنه قديما لرجل وقد قال له: فما منعك (من إلزامي برأيك الفقهي المخالف لعلي وزيد) والأمر إليك؟: لو كنت أردُّك إلى كتاب اللَّه أو إلى سنة نبيه صلى اللَّه عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيٍ، ‌والرأي ‌مشترك. فلم يَنْقُضْ ما قال علي وزيد»(إعلام الموقعين: 2/ 122).

 بالإجمال:

ليس المجال في هذه العجالة أن أتتبع كل آية آية في بيان وجود تأويل آخر لها غير الذي ذكرته فيها. وأن لك ولغيرك مندوحة في الترجيح لا يؤاخذك عليه أحد. وإنما نؤاخذك على اعتبار التأويل المخالف لما ذهبت إليه أنه باطل، وبائر، وخطير، ومخالف للإجماع.

فانتبه لأساس الخلاف، حتى لا ترهق نفسك في الأنقال التي توافق ما انتهيت إليه. ونحن نحترمها على كل حال.

وحتى لا أقع أنا بدوي في تتبع الأنقال، وأكثر عليك وعلى القراء منها نسجا على منوالك، فسأختار من الآيات والأحاديث التي اعتمدتها في بيان ما لم تورده من تأويلات أخر لهان وأدلة لم توردها:

آيات السيف:

استدللتم بجملة من الآيات لتقرير رأيك، منها:

قوله تعالى:﴿ فإذا ‌انسلخ ‌الأشهر ‌الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم﴾[التوبة:5].

وقوله تعالى﴿ ‌قاتلوا ‌الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾[التوبة: 29].

هكذا أوردتهما وقررت من خلالهما حكم الحرب ابتداء حتى يخضعوا لسلطان الدولة الإسلامية وقانونها الإسلامي.

وهذا منك في هاتين الآيتين بالضبط عجيب. وإنما أوردت هاتين الآيتين بالضبط في الرد عليك لأن الخلاف فيهما مشتهر بين أهل العلم، حتى إن بعضهم ليعدهما آية السيف التي نسخت 140 آية قاطعة الدلالة، ونسخت أخبارا، ونسخت قيما وآدابا. ومهما يكن من حال ما انتصرت له، فإن آيتا السيف هاتين من أظهر الآيات التي وقع النزاع فيها قديما وحديثا. وغرضي هاهنا من ذكرهما هو بيان ضيق صدر دكتورنا الفاضل عن تفهم الخلاف وإن كنت ملزما به. لكن أن تفرض وجها من الخلاف على غيرك فهذا مما لا يستساغ بموازين العلوم الشرعية.

قوله تعالى:﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم﴾

صحيح أن هذه الآية لم تأت بها، ولكنها نافعة في بيان الخلاف في موضوع القتال، وهي بحسب رأيي يمكنها أن تضاف إلى ما أوردته من الآيات. ووجه إيرادي لها كون بعض أهل العلم قد قرر منها أن القتال الذي أوجبه البعض منها، مخالف بقول آخرين يقررون أن الآية لا تعني المسلمين، وإنما هي من الخطاب الخاص المعني بأحكامه هم أصحاب محمد صلى عليه وسلم فقط.

والخطاب الخاص في النصوص الشرعية معترف به وكثير، وقد حذر أهل العلم من قلب الأحكام الخاصة بزمان أو مكان أو أشخاص أو…وجعلها عامة في الزمان والمكان والأشخاص…قال ابن القيم:” فلا تجعل ‌كلام ‌النبوة الجزئي الخاص كليا عاما، ولا الكلي العام جزئيا خاصا، فيقع من الخطأ، وخلاف الصواب ما يقع، والله أعلم»(«زاد المعاد:4/ 101).

ماذا نقل الرازي عن الآية؟

قال رحمه الله تعالى:” واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم: إنها تقتضي وجوب القتال على الكل، وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب، ونقل عن ابن عمر وعطاء: إن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط»(تفسير الرازي:6/ 384).

فها أنت ترى أن هذا الآية مختلف في دلالة حكمها، وأن من السلف من قال بأنها خاصة بالجيل الفريد من أصحاب النبي الكريم فقط لا يتعدى حكمها غيرهم.

ومهما يكن فإنه قولٌ له أهله، ولا ينفي القول الآخر.

وخلافي معك ليس فيما تنقله أو أنقله، ولكن في الإيحاء الذي توهم به أن الأمر ليس له إلا حكما واحدا مجمعا عليه، وأن القول المخالف بائر وخطير وباطل ومخالف للإجماع.

هذا هو مكمن الخلاف.

سيف الإجماع:

نعم، نقل خطيب الري وغيره ممن ذكرتهم وجود الإجماع على فرضية جهاد الطلب، وعول على هذا الرأي الدكتور عطية من غير الرد عليه من خلال بقية كلامه.، فقال في تفسيره:« والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات»( تفسير الرازي:6/ 384). وهو اختيار فقهي لا شك أنه غير سديد. لأن وجود الخلاف يرفع القول بالإجماع وقد قرر في البداية هو نفسه هذا الخلاف. ولذلك نجد الجصاص يعتبر أصحاب هذا الرأي محجوجون بمن نقل القول عنهم أنه خاص بذلكم الزمان. ومحجوجون بالمروي عن بعض السلف أن حكم جهاد الطلب هو الاستحباب لا الوجوب. فقال رحمه الله تعالى:” وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد. فحكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين، أن الجهاد تطوع وليس بفرض. وقالوا:﴿ كتب عليكم القتال﴾ ليس على الوجوب بل على الندب، كقوله تعالى:﴿ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين﴾ وقد روي فيه عن ابن عمر نحو ذلك، وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه»( أحكام القرآن للجصاص: 4/ 311).

هكذا مرة أخرى نجده يصرح بابن شبرمة والثوري وآخرين قالوا بأن الطلب ليس واجبا وجوبا حتما على كل مسلم، ولا وجوبا كفائيا على البعض يسقط به الإثم عن الجميع. بل هو تطوع ليس من الفرضية في شيء.

وهذا النص يؤكد على ما وصفت به مقالة أخي عطية عدلان بالشطط، إذ كيف يصل القول بالمسلم إلى عد رأي ابن شبرمة والثوري وآخرين، ومن يصحح النقل عن ابن عمر، كيف يعقل أن يقال عن رأي هؤلاء: إنه رأي بائر وخطير وباطل ومخالف فلإجماع.

أوكلما اختلفنا بحثنا عن أدوات القصف الثقيلة؟؟؟

أمرت أن أقاتل الناس:

لقد أوردت الحديث مكررا في الدليل الأول والثاني، حتى يخيل لمن ليس علم أنها أحاديث متعددة. فيعدها أكثر من دليل، وهي في جميعها دليل واحد بروايات مختلفة أوردتها سيدي، وأعني هاهنا حديث:” أمرت أن أقاتل الناس…فهذا المضمون المشترك وإن روي عن أكثر من راو، وأخرج في أكثر من مصنف، لا يخرجه عن كونه حديثا واحدا.

ولسنا نوافقك القول في أن حكمه هو وجوب النهوض لقتال الناس والبحث عن دمائهم، لا يعصمهم منا إلا الإسلام أو الجزية.

فقد قال بعض أهل العلم إن هذا الحديث لا يتعلق بما قد تعلقتم به يا دكتورنا العزيز، وإنما هو حديث عن ساحة القتال حين تلتحم الصفوف، هُنا أُمرنا أن نقاتلهم، وان نشد الوثاق عليهم. لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: أمرت أن أقتل، وإنما قال: أن أقاتل…والمقاتلة هاهنا لغة لا يفهم منها صاحب اللسان إلا الالتحام ووجود طرفين يقتتلان، يسعى كل واحد منهما بما عنده من الوسائل والحيلة أن يحقق الغلب على صاحبه. فالصيغة: أقاتل، صيغة مفاعلة واشتراك في القتال.

وقد اعتبر ابن دقيق العيد أن من فهم من هذا الحديث الأمر بالقتال إلى تلكم الغاية المحددة(حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ….) فقد وهل وسها؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، إذ ” المقاتلة ” مفاعلة، تقتضي الحصول من الجانبين، ولا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل(إحكام الأحكام:2/ 219).

من مات ولم يغز:

وهذا الحديث الذي عولتم على دلالته في وجوب القتال، قد عده عبد الله بن المبارك من الأحكام الخاصة بزمنه صلى الله عليه وسلم، حيث قال:” فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم”( شرح النووي على مسلم:13/ 56)، وعلق النووي عليه بالقول: وهذا الذى قاله ابن المبارك محتمل»”(شرح النووي على مسلم: 13/ 56).

فلم ير شرف الدين النووي هذا القول بائرا ولا خطيرا ولا باطلا ولا مخالفا للإجماع، بل هو رأي تحتمله دلالة النصوص الشرعية.

فإن سلمنا لك جدلا بوجود ما ذهبتم إليه، فهو ظني محتمل، لا يلغي التأويل الآخر الذي قررته كتب أهل العلم ونقلته. وهذا هو خلافي معك، ليس في نقل الرأي وتعداده، فإني لا أنفي ما تنقله، ولكن أعترض على إنكار الرأي الآخر، ووصفه بأنه باطل وبائر وخطير.

على منواله:

وانسج على منوال ما بينته في الآيات والأحاديث بقيت ما أوردته في مقالتك، فستجده نافعا لك في عدم إسقاط قولك، ومسددا لك في عدم إسقاط قول غيرك من أهل العلم في الموضوع واتهامهم.

وفي الوقت الذي تتسارع الدول لعقد المعاهدات كي تكون دول عيال الله أرضا للأمان، نقول لهم نحن: نعم، ولكن عندما نعد العدة فانتظرونا. لقد مدت الأمم الأيدي لهذا الغرض الذي لو شهده سيد الخلق، لقال فيه مثل ما قال في حلف الفضول الذي جمعه مع المشركين: لو أني به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. وهذا ما دفع بعض المجامع أن تعد جهاد الطلب اليوم لا يمكن قبوله، وذلك بعد المعاهدات جاعلة الدول دول عهد لا دول حرب.

ولا يفهم من قولي هذا تنويم المسلمين وتخديرهم بمعسول السلام الذي يكثر المجرمون اللغط حوله وهم أعداؤه، فإن هذا لا يعفي دولنا من إعداد العدة في جميع المجالات حماية للبلاد والعباد من أي عدوان وبغي.

والله أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى