مقالات

قرية النور.. بلدة نموذجية خاصة للمكفوفين في إدلب

“لا أنسى ذلك اليوم الذي تهت فيه فسقطت في ساقية ماء بذلك المخيم.. كان مشهداً مضحكاً ومأساوياً بنفس الوقت.. “

بقي ذلك المشهد محفورًا في ذاكرة “وسيم رياض” الذي عاش مرارة مخيم بابسقا غرب باب الهوى، قبل أن ينتقل قبل أيام إلى شقة سكنية مجهّزة تناسب وضعه الصحي.

“وسيم رياض” كفيف متزوج ولديه ثلاثة أطفال، انتقل إلى قرية للمكفوفين في منطقة الكمونة شمال إدلب.

لا يُخفي وسيم فرحته في حديثه لموقع “نون بوست”، إذ يقول: “لا يمكن أن أصف فرحتي، جمعتْ أسرتي حوائجنا من الخيمة التي طالما أرهقتني وأسرتي صيفًا وشتاءً وسننتقل إلى شقة سكنية من أسمنت وجدران تقينا ذلك الصقيع الذي نخر عظامنا”، مضيفًا، “العيش في الخيمة مرهقٌ للبصير فكيف لمثل هو بمثل حالتي، إذا ما تذكرنا وضع المخيم ككل وخاصة في الشتاء والطين والطرق المحفورة الوعرة التي كانت تسبّب لي مشاكل كثيرة حال رغبتي في الخروج من خيمة أو التنقل في المخيم”.

ولعل أهم ميزات القرية تصاميم الطرق المستقيمة والأرصفة والكتابة على جدران المنازل والأماكن بطريقة برايل ( نظام كتابة بحروف نافرة يمكن للكفيف تلمسها ومعرفة وجهته) ولتمييز كل شقة عن غيرها، إضافة إلى الأرصفة المتنوعة التي تميّز كل كتلة سكنية وشقة وشارع وهو ما أعجب وسيم الذي رأى أن تلك المواصفات تساهم بشكل كبير في اعتماد الكفيف على نفسه في التنقل دون معوقات، حتى داخل شقته التي تتميز كبقية الشقق بممرات مختلفة خاصة ضمن البلاط حيث ترشده إلى أركان شقته بكل أريحية، ولم يغب ذلك التصميم عن مسجد القرية الذي تميّز برصيف ذي نقوش خاصة، وأرضية مختلفة يعرف الكفيف من خلالها أنه أمام المسجد، إضافة إلى تصميم منبر المسجد المنخفض الذي يتلاءم مع حالة الكفيف، حسب وصفه.

رعت جمعية الضياء الإنسانية هذا المشروع “مشروع بصائر لإسكان المكفوفين” منذ البداية، وانطلقت الفكرة لتصميم قرية “النور المتكاملة” وهي مخصصة لفئة المكفوفين، لتكون الأولى من نوعها شمال غرب سوريا بمساحة 27 دونم، تقدّم خدمات متنوعة تراعي وضعهم الصحي وتساهم في تهيئة فرص عمل تناسبهم وتُسرّع عملية دمجهم، خاصة مع أعدادهم الكبيرة الموثّقة في الجمعية العامة للمكفوفين، وهذا ما أكده “محمد سميع” رئيس مجلس إدارة جمعية الضياء الإنسانية للإغاثة والتنمية، لموقع نون بوست: “وجدنا أن عدد المكفوفين كبيرٌ في المخيمات ولم يلتفت اليهم أحد، وبالتالي قمنا بتوجيه اهتمامنا إليهم، كونهم أشد الناس تضررًا ومعاناةً وفقداناً للخدمات الخاصة بحالتهم المرضية، فأنشأنا “قرية النور” التي تتوفر فيها أغلب الخدمات الخاصة بهم.

ويتابع سميع: “بدأنا بتجهيز الأرض المناسبة واستصلاحها بعد أن كانت وعرة، ثم أنشأنا شبكات المياه والصرف الصحي، وجهّزنا لكل الكتل والشقق والمرافق الخدمية التي استغرق إنشاؤها أربعة أشهر ألواح طاقة شمسية متكاملة، كما قمنا بإنشاء سورٍ حول المشروع بحيث يكون عازلاً للقرية من العوامل الجوية وأكثر تنظيمًا، ولها باب واحد، وغرفة حراسة لتأمين القرية بالكامل.

وتضمّن مشروع “قرية النور” 182 شقة سكنية 60 شقة سكنية كبيرة (غرفتان وفسحة) و122 شقة صغيرة (غرفة واحدة وفسحة) كما حوتِ القرية مسجداً ومدرسةً خاصة بالمكفوفين (داخلها مطعم) ومستودعاً ومركزاً طبياً وغرفتي حراسة وسوقاً تجارياً وملعباً وحدائق، بالإضافة لشوارع مصمّمة بشروط الهندسة العالمية المتكاملة، ومكتبًا إعلامياً ينقل أخبار ونشاطات المكفوفين، فضلاً عن ممشى خاص للكفيف يتميّز بخطوطٍ ونقوشٍ وزخارفَ ورسوماتٍ نافرةٍ توجّهه إلى وجهته.

وعن أهم خدمات القرية التي تساهم في تهيئة فرص عمل وتناسب إمكانيات ومهن المكفوفين، لفت سميع، أن “هناك كادراً متخصصاً ذا خبرة واسعة للتعامل مع المكفوفين وتعليمهم سيشرف على القرية، بالإضافة لطرح مشاريع تنموية ضمن القرية، تنطلق من السوق التجاري الذي يضم محلات ستوزّع على المكفوفين خلال المرحلة القادمة ليبدؤوا من خلالها مشاريعهم المتناسبة مع إمكانياتهم وخبرتهم في المهن المحبّبة لهم، بغرض دفعهم للاعتماد على أنفسهم في تحصيل قوت يومهم وإعالة أسرهم ودمجهم في سوق العمل”، كما أشار سميع لإمكانية استفادة المكفوفين من وجود حدائق صديقة للبيئة ضمن القرية يستطيعون من خلالها ممارسة مهنة الزراعة، فضلاً عن إمكانية تربيتهم بعض الدواجن والمواشي في الفسحة المصممة أمام كل شقة، ما يوفّر عيشاً كريمًا لهم.

وبلغ عدد المستفيدين 182 عائلة كفيف، تمّ اختيار المستفيد بناءً على معايير متفقٍ عليها مع الجمعية العامة للمكفوفين، بعد تقدّيمهم قوائم رسمية تراعي حالة الكفيف الأكثر احتياجًا، وما إذا كان رَبّ أسرة مثلاً أو وجود أكثر من كفيف ضمن الأسرة الواحدة، حسب سميع.

وختم سميع حديثه بدعوة المنظمات الفاعلة لاتخاذ خطوات مشابهة لدعم هذه الفئة، قائلاً: “آن الأوان أن نستبدل الخيام بقرى سكنية تليق بالإنسان شمال غرب سوريا سواء لذوي الاحتياجات الخاصة أو لغيرهم، لأن الأعداد كبيرة والاحتياج موجود”.

يعاني المكفوفون بشكل عام شمال غرب سوريا ظروفاً اجتماعية وصحية ومعيشية صعبة وخاصة في المخيمات، وسط غياب المشاريع التي تنمّي مواهبهم وتدخلهم سوق العمل وتساعد على إعادة دمجهم في المجتمع، ويوجد مركزان فقط لتعليم المكفوفين بطريقة برايل شمال غرب سوريا، مركز لجمعية IHH بمدينة إعزاز، ومركز جمعية رفع المستوى في مدينة إدلب.

يؤكد محمد جبارة رئيس الجمعية العامة للمكفوفين و(هو من فئة المكفوفين) في حديثه لنون بوست: أنه “وفقاً لإحصائية مبدئية أجرتها الجمعية، هناك 3200 مكفوف بحاجة لرعاية ومساعدة من حيث إنشاء مراكز تعليّميّة لهم وتأهيلهم ببرامج عمليّة ليصبحوا قادرين في الاعتماد على أنفسهم، ونقلهم من فئة الاستهلاك إلى فئة الإنتاج.

لافتا، أن “هناك مئاتٍ من أصحاب المواهب الذين يحتاجون دعماً وتشجيعاً من الجهات المانحة لتطويرها والارتقاء بها، وإطلاق مشاريع إنتاجية خاصة بهم لدخولهم سوق العمل ضمن حِرَفٍ ومهنٍ كصناعة القش أو صيانة الهواتف النقالة وغيرها.

ونوه جبارة، أن الجمعية العامة للمكفوفين حملت على عاتقها مساعدة فئة المكفوفين في شمال سوريا، إلا أنها تعاني من قلة الدعم المُقدَّم، وبالتالي غياب دعم هذه الفئة على الصعيد العملي والعلمي والمالي لإطلاق مشاريعهم الخاصة التي يتميزون بها أو على الأقل تنمية مهاراتهم المهنيّة والحرفيّة والرياضيّة.

وتعمل الجمعية على دمج المكفوفين، ونقل صورة حقيقية لقدراتهم التي ما زال المجتمع غافلًا عنها، كما تعمل على تعليمهم مهارات تزيد من قدرتهم على الإنتاج، إلا أن الدعم المحدود وغياب الجهات المهتمة بذوي الإعاقات البصرية ما تزال تشكّل عائقاً وحيداً أمام إبراز قدراتهم وتحسين حياتهم وتقديم إنجازات يستطيعون خلالها أن يغيّروا نظرة المجتمع تجاههم ولو بشكل بسيط.

المصدر: نون بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى