بحوث ودراسات

محبة الله لرسوله ودفاعه عنه في القرآن الكريم 27 من 35

أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

سياسي وأكاديمي سوري
عرض مقالات الكاتب

ويسعون: السعي هو المشي الحثيث, المقرون بالجري والهرولة, وفي كل الاتجاهات, وفي الليل والنهار, وفيه المزاحمة والمعاضلة والمخاشنة وتجشم الصعاب والمخاطر, وله غاية كبيرة وهدف واضح..

       وسعي هؤلاء وهدفهم المعلن هو محاربة الله ورسوله, ونشر الفساد في الأرض, وإفساد كل شيء فيها.

 وقال يسعون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون, لأنه من الأفعال الخمسة, وفيه توكيدان, مضارعته للاسمية, وثبوت النون, الدالة على التوكيد, وهي عوض عن التنوين بالاسم المفرد, والتنوين توكيد.

ويسعون: قالها بالفعل المضارع للدلالة على الفعل والحدث والشغل والاجتهاد وبذل أقصى الجهد, والعمل البحث الدؤوب المستمر نشر الفساد.

      وواو الجماعة ضمير متصل فاعل, تدل على عموم الجمع, وهي هنا تتضمن الواحد والجماعة والجماعات, وفيها دلالة على أن محاربة الله والرسول, سواء أقام بها أفراد أو جماعات مهما كان عددهم, فيجب أن تنفذ بهم هذه العقوبة, ولو بلغوا الآلاف.

في الأرض: في الدالة على الظرفية المكانية, الأرض: اسم مجرور وظرف ومكان الفساد, وقال الأرض بالتعريف, قاصدا عموم الأرض المعروفة, أو أرضا معينة محددة, فالفساد هو الفساد, والدين هو الدين والرسول هو الرسول, والله هو الله, في كل زمان ومكان وأرض, وعباد الله هم عباد الله, المصلحون المجاهدون المؤمنون المضحون في سبيل الله, الذائدون عن حماه, والمفسدون هم المفسدون, والصراع بين الإصلاح والفساد معركته مستمرة على مساحة الأرض كلها, وعلى المؤمنين المصلحين, محاربة المفسدين, أينما كانوا, وحيثما حلوا, ومهما كان نوع الفساد, وشكله, ودرجته.

وقال: في الأرض: فاستخدم في الظرفية, ولم يقل ويسعون على الأرض, لماذا؟ ليشمل المعنيين, فهم يفسدون ما على الأرض, وما تحت الأرض وما بينهما, ويريد أن يقول: بأن تحشدهم وإفسادهم في كل الاتجاهات المختلفة, وبكل الأشكال والألوان والأنواع المتعددة, فمنه إفساد العلاقة بين الخالق والمخلوق, أي بين العبد ربه, وقطع الصلة والتواصل بينهما.

        وإفساد آخر يتمثل بتخريب العلاقة بين الناس أنفسهم, وبث الفرقة والعداوة والبغضاء بينهم, وقطع وإنهاء كل أسباب الصلاح والإصلاح في المجتمع..

        وقال فسادا: حال منصوبة, عن فاعل يسعى, وفسادا: اسم مصدر, بمعنى اسم الفاعل مفسدين, للمبالغة, ومنه إفساد العلاقة بين الناس, بعضهم بعضاً, فهؤلاء المفسدون يعملون على قطع حبال المودة والمحبة بين الناس وتحويلها إلى احتراب دائم وشقاق وصراع وقتال, ونتيجتها تخريب المجتمع وإفساده وتدميره..

        فهم يسعون في الأرض فساداً,: في كل الأرض, وفي كل الاتجاهات, وكل الشعاب والبوادي والحواضر, وعلى كل الأصعدة وشتى المجالات.

فساداً: قالها بالاسمية المصدرية الصريحة الثابتة, ولم يقل: ويفسدون في الأرض بالفعلية الحدثية الزائلة المتبدلة المتغيرة, فغايتهم النهائية نشر الفساد, ودوام واستمرار واستقرار وثبات الفساد, وسيدة الفساد, وسيطرته على كل شيء. وقال: فساداً: بالمصدر الصريح المنصوب النكرة, على سبيل المفعول لأجله, أو المفعول المطلق, أو الحال, أو التميز..

       فهم يعملون كل شيء لأجل الفساد ويفسدون فساداً شديداً كبيراً مؤكداً, وحالتهم الدائمة وسمتهم ومنهجهم وظاهرهم وباطنهم الفساد, وعملهم المتميز الذي يبرعون به ويتقنونه, الفساد.. ولا شيء غير الفساد.

فما جزاء هؤلاء المفسدين؟:

        جاء رد رب العالمين عليه مباشراً وعقابه  لهم قاسياً رادعاً قاطعاً مانعاً غليظاً مغلظاً, فقال:(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)

أن يقتّلوا: قالها بالفعلية الحدثية, وبـ أن والفعل, المصدر المؤول بمفرد كخبر للمبتدأ فيكون قتلهم بالفعلية والاسمية, فقتلهم متجدد وقتلهم دائم, وهذا قانون ثابت, وقاعدة شرعية لا تتبدل ولا تتغير ولا تخفف مهما كانت الظروف والأسباب..

وقال: يقتّلوا, بالتشديد والتثقيل والمبالغة والشدة معهم وعدم الرحمة بهم, وقتلهم شر قتلة, والمبالغة بقتلهم, والتمثيل بهم, والتنكيل بهم, وأمام الناس وعلى عيون الأشهاد وجعلهم درساً وعبرة لمن يعتبر.

أو يصلبوا: لكم الخيار في طريقة القتل تقطيعاً بالسيف أو رمياً بالرصاص, أو بالتعذيب النفسي والجسدي, أو بالصلب, وهي العادة القديمة المتبعة في القتل والتعذيب.

أو تقطع أيديهم وأرجهلم من خلاف: ولكم أن تختاروا عقوبة أخرى وهي قطع اليد اليمني مع الرجل اليسرى, أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى, وتتركوهم مشوهين  أمام الناس, فيكونون مثاراً للسخرية والتندر والفكاهة…

أو ينفوا من الأرض: وأمامكم الخيار الرابع والأخير, وهو أن ينفوا من البلد ويطردوا خارجه, لتخلصوا من شرورهم, وتخلصوا الناس منهم, ويسلم البلد بكل مافية من آثامهم ومفاسدهم ومصائبهم, ويتطهر من بلائهم..

ونستشف من هذا  التعدد والتنوع في العقوبة ما يأتي:

      إن الخيار لكم في نوع العقوبة, وطريقة تنفيذها, ولكم أن تختاروا واحدة من هذه العقوبات الأربع, وتنفذوها بحق هذا المجرم, أو هؤلاء المجرمين, أو أن تطبقوا العقوبات الأربع بحقه, أو أن تبدأوا بما تشاؤون, وأيها تريدون, بحسب درجة جريمته, ومدى إفساده, مع التأكيد على التشدد بالعقوبة, والقسوة في تنفيذها, وعدم الرأفة والرحمة بهم.

ذلك لهم خزي في الدنيا: ذلك: إشارة إليهم, وعلامة فارقة يعرفون بها من بعيد, وسمة تسمهم, وعنوان دائم يعرفون به, وصفة بارزة يتصفون بها, وميزة تميزهم من بين البشر.

الخزي: العار والمذلة والمهانة والصغار, والنقمة والبغض والكره من كل الناس, وكل شيء حولهم, وفي كل الأوقات وكل الظروف والأحوال.

        إنهم الفاسدون المفسدون الذين يتطير منهم الناس ويتعوذون ويبتعدون ويفارقون وينأون بأنفسهم عنهم.. كل ذلك في الدنيا, أما في الآخرة.

ولهم في الآخرة عذاب عظيم: في الآخرة ينتظرهم ما هو أهم وأعظم وأكبر وأشد.. ينتظرهم الويل والثبور وعظائم الأمور, وكل ما سبق من قتل وصلب وتمثيل ونفي, هو جزء يسير من العذاب الأكبر, وهو مقدمة للعذاب, وبداية العذاب, وأهون العذاب..

         أما العذاب الأكبر فهو أمامهم وينتظرهم بفارغ من الصبر, ومهيأ لهم خصيصاً, ومعد لهم إعداداً جيداً, عذاب ليس كمثله عذاب.. إنه العذاب الأشد الأمر, الأقسى, الأعظم..

والعظيم: هو المتفرد الذي لا نظير له, فعذابهم لا نظير له, ولا مثيل له, ولا يطاق ولا يحتمل, ولا يتصور ولا يتخيل, فإذا كان العذاب في الدنيا بهذه البشاعة والصعوبة والقسوة والتنوع, فما بالك بما ينتظرهم من عذاب في الآخرة؟..  

             اللهم أجرنا من عذابك, وارحمنا برحمتك, وعافنا واعف عنا واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى