مقالات

رسالة إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

يسعدني أنّني أنتمي إلى هذه الهيئة المباركة (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، تلك التي تبسط جناحيها على عدد كبير من صفوة علماء الأمة ودعاتها، ولا تفتأ تُحَلِّق بهم في سماء العلم والدعوة والعمل للإسلام، ويحزنني أنّ رئيسها فضيلة الشيخ الدكتور الريسوني يبسط جناحه الخاص ويظلل بعنايته الخاصة مدرسة مغاربية لا تفتأ تمخر في جسد الشريعة بما تثيره من قضايا تنتهي في مجملها إلى علمنة الإسلام وإرغامه على الدخول تحت هيمنة الفكر الغربي؛ وذلك كله باسم الدراسات المقاصدية وباسم التجديد.

    من حق فضيلة الدكتور أن يعتنق من الفكر ما شاء، وأن يناصر من المفكرين من يريد، ومن حقنا في المقابل كأعضاء في هذا الاتحاد، أو – حتى – كمسلمين يمثلهم هذا الاتحاد؛ أن نعرف موقف الاتحاد من مواقف رئيسه ومن الأفكار التي يروجها؛ لأنّ موقع رئيس الاتحاد يعطي لتصريحاته ومواقفه ثقلا ووزنا، فإن كانت موافقة للشريعة كان أثرها عظيمًا في نصرتها، وإن كانت مخالفة للشريعة كان لها ذات الأثر في خذلانها، فليس من تحديد الموقف وإعلانه مهرب ولا مفرّ.

    وقد سبق للشيخ – حفظه الله – أن أدلى بتصريحات شرعية وأخرى سياسية على درجة كبيرة من الخطورة، وقمت بالرد عليه في حينها في مقالات مختلفة، لكنّها في النهاية مسائل – برغم خطورتها – يمكن سحبها ولو بصعوبة إلى دائرة المختلف فيه بين أهل السنة، أمّا هذه المرة فالأمر جِدُّ مختلف؛ لأنّه يمس ثوابت منهج أهل السنة، ويمس كذلك ثوابت العمل الإسلامي والصحوة الإسلامية التي ينتمي إليها أغلب المنتسبين لهذا الاتحاد المبارك، ويعدّ خرقا واضحا لثوابت الدين الإسلاميّ.

    وقد استمعت لندوة نظمها ما يسمى ب “منتدى الريسوني للحوار العلميّ” لمحاضرة ألقاها الدكتور سعد الدين العثماني، تحدث فيها عن آيات الجهاد؛ مفادها أنّ جهاد الطلب لا وجود له في الإسلام، وأنّ الجهاد إنّما شرع فقط للدفع، وبرغم أنّ هذا الكلام مخالف لإجماع العلماء فلن نَعْتَدَّ بإقرار الشيخ له ضمنا؛ لا لشيء إلا لأنّ بعض العلماء المعاصرين قال بقريب مما قاله العثماني، فبرغم بطلان هذا الطرح وبواره وخطره الكبير رأيت أن أتجاوز عن إقرار الشيخ له، إلا أنّ ما لا يمكن التجاوز عنه شيء آخر.

    فبعد أن أنهى الدكتور العثماني محاضرته تلك قام معالي رئيس الاتحاد بالتصريح بأنّه يؤيد ما تقدم به المحاضر من آراء أدلى بها في كتبه ومحاضراته بما في ذلك “تصنيفه للتصرفات النبوية”، ولعل السادة الأعضاء لا يجهلون ما سطره الدكتور العثماني في كتابه “تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة” ولعلهم كذلك لا يفوتهم أنّ ما ذهب إليه العثماني في هذا الكتاب وغيره هو إخراج التصرفات النبوية بالسياسة من دائرة الحجية، دون تفريق بين ما كان من قبيل الأدوات والأمور الفنية وما ليس كذلك.

    فهل هذا هو ما يدين به الاتحاد وأعضاؤه؟ وهل هذا توجه عام في الاتحاد؟ وهل هذه – بتقدير الاتحاد – مسألة من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف؟ بحيث يعلن رئيس الاتحاد بلا غضاضة مناصرتها، في الوقت الذي يُعَدُّ فيه الممثل الأول لهذا الاتحاد والمتحدث الرسمي باسمه؟ فإن كانت الإجابة بنعم – لا سمح الله – عَلِمْنا هوية هذا الاتحاد وحَدَّدْنا موقفنا منه كأعضاء، أو على الأقل كمسلمين يتشوفون لكيان يعبر عنهم، وإن كانت الأخرى – وأظنّها كذلك إن شاء الله – فما الموقف الذي اتخذه الاتحاد من رئيسه الذي اختاره بما يشبه الإجماع؟! أم إنّنا إذْ ننفر من الاستبداد نكرسه بتقديس الأفراد؟!

    إنّ أول ما يجب على الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين الحفاظ على المنهج وجمع كلمة المسلمين عليه، أي العمل بقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، ومن المؤكد أنّ تَبَنِّي قولا شاذا وتحبيذه وتقديمه – ولاسيما من القيادات المسئولة – ضد سلامة المنهج وضد اجتماع الكلمة أيضا؛ لأنّ أول ما يضر به هذا السلوك هو الاجتماع، حيث لا يمكن الاجتماع مع شيوع الأقوال الشاذة والمذاهب المنحرفة وتقديمها والعمل على رفع شأنها، ومما لا شك فيه أن ما ذهب إليه الدكتور العثمانيّ قول شاذ ومخالف لما عليه جمهور المسلمين من كافّة مذاهب أهل السنة، هذا أقل ما يقال فيه.

    وقد اتكأ الدكتور العثماني في هذه البدعة المنكرة في أصول الدين، على أقوال لبعض الأئمة العلماء حَرَّفَها عن مواقعها، فمن أهم ما اعتمد عليه تقسيم الإمام القرافيّ رحمه الله لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تصرفات بالفتوى وتصرفات بالقضاء وتصرفات بالسياسة، لكنّ الإمام لم يقصد قط إخراج التصرفات النبوية بالإمامة والقضاء عن دائرة الحجية، وإنما الذي قصده تحديدا هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها، فما كان من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء فلا يوكل إلى آحاد الناس التصرف بها إلا عن طريق قاضي الوقت، فلا يصح أن يقوم آحاد الرعية – مثلا – بإقامة الحد على الزاني أو السارق، وما كان منها بالسياسة فلا يصح لآحاد الناس أن يتصرفوا فيها إلا عن طريق الإمام في الوقت، فلا يصح لآحاد الرعية – مثلا – أن يعقدوا هدنة مع دار الحرب، أما ما كان بطريق البلاغ أو الفتيا فموكول إلى كل فرد التصرف به مباشرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقف على إمام أو حاكم، فيصلي المسلم ويصوم ويمتنع عن تعاطي المحرمات وغير ذلك دون توقف على حكم حاكم أو قضاء قاض.

    وهذه بعض أقوال الإمام أسوقها هنا للتأكيد على هذا المقصد، يقول الإمام القرافيّ: “فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الأقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرِّراً لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون). وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود … فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر … وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا نظر إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكم بذلك السبب، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم”([1]).

    وهكذا وبهذه الطريقة المريبة تعامل الدكتور العثماني مع أقوال العلماء كالعز بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، وقد قمت بالرد عليه في مقال مطول نشر منذ عام أو يزيد”([2])، ثم لمّا قام هو بالرد على مقالي قمت بالرد عليه في مقال آخر”([3])، وكنت قد كتبت من قبل كتابا في نقض نظريته في السياسة والحكم نشر في دار الأصول العلمية باسطنول”([4])، هذا بالأضافة لمعالجات أخرى لذات القضية في سياق آخر، مثل “السنة غير التشريعية والغلو العصراني”([5]).

    ويبقى ذلك السجال كله خارج منطقة الخطر حتى تقوم هيئة علمائية بتبني الرأي الشاذ أو يقوم بذلك رئيس هذه الهيئة، وهذا ما وقع؛ لذلك لا يكفي أن أقوم بالرد عليه، وإنّما يستلزم الأمر عرض الموضوع على الهيئة لاتخاذ قرار: إمّا بتأييد قوله وإعلان هذا مذهبا للاتحاد؛ فيعرف الناس إلى أين يذهبون وراء هذا الاتحاد، وإمذا أن يكفوا الشيخ الذي يترأس الاتحاد عن تلك التصريحات المزعجة، ثم هو بعد ذلك له كامل الحق في ان يعتقد ما شاء، أو يتنحى ليصرح بما يحب ويهوى. والسلام ..


([1]) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام – للإمام القرافيّ – تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – ط ثانية 1995 – دار البشائر الإسلامية بيروت صــــــ  108

([2])  مشروع علمنة الإسلام – المعهد المصري للدراسات – بتاريخ 8 يناير 2021م

([3])  علمنة الإسلام في التعقيب على تعقيب د. العثماني – المعهد المصري للدراسات – بتاريخ 21 يناير 2022م

([4]) نظرية الدكتور سعد الدين العثمانيّ في السياسة والدولة في الإسلام عرض ونقض – دار الأصول العلمية – اسطنبول – ط أولى 2017م

([5]) منتدى العلماء بتاريخ 4 – 9 – 2021م

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين” رواه الإمام أحمد، الحمد لله أن جعل الخير باقيا في هذه الأمة، لا ينقطع حتى تقوم الساعة، حتى وإن بعد أهل الزمان عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم بقرون عديدة، وذلك بفضل علمائهم ومجاهديهم القائمين على ثغرة العلم الشرعي فيصونوا المسلمين من فئة الجاهلين والكذبة والمنافقين والأفاقين الذين يدلسون على الناس دينهم.

    بارك الله فيك وجزاكم عنا وعن المسلمين خيرا فقد نصحت لله ولرسوله ولكتابه و أبرأت الذمة.
    بقي على بقية العلماء الأفاضل أن يستجيبوا لندائك ويضعوا حدا لهذا الانخراف الخطير من رئيس الاتحاد. وإذا كان العلماء هم ورثة الأنبياء إذ يقومون بنشر الدعوة الربانية ويحفظون للناس دينهم، فإن المصاب عظيم حين يقع الخلل والانحراف في صفوفهم والعياذ بالله وصدق القائل ( يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد) مع تحياتي

  2. مع احترامي للدكتور عطية .. أظن أنه ربما كان الأفضل أن يطرح هذا النقاش داخل المؤسسة لتحريره وتدارسه، قبل نشره في الصحافة غير المختصة، بعرض رأي جانب واحد فقط, ويمكن القول بأن كلام د. عطية يبقى اجتهادا بين الآراء.. لكن لدي تساؤلات ؟
    – أليس اعتبار اجتهادات الآخر أنها “..تمخر في جسد الشريعة بما تثيره من قضايا تنتهي في مجملها إلى علمنة الإسلام” هو ادعاء ضمني بأن اجتهاداته هو تحمي جسد الشريعة… في حين أن مباحث المقاصد مقصدها هو حماية الشريعة من الاجتهادات المشتتة وتمييع الفتاوي، برهنها بعقلية الأشخاص، أكثر من ارتباطها بمقاصد معلنة ومدروسة من طرف المجامع ..
    – نعم هناك من يخشى من بروز المقاصد كمرجعية منافسة للنصوص متوهما أنه يمكن البقاء في حدود النصوص بلا اقحام للتفسيرات الذاتية، و هذا يغفل أن الفتوى والاجتهاد عندما تستند الى نوازل لا نصوص فيها، أو اختيار قياس على نصوص لنوازل مقاربة، أو ترجيح بين نصوص متعارضة، أو تفسيرات مختلفة،.. الخ، في كل هذه الحالات لا يستند المجتهد الى النصوص فقط وانما كذلك الى عقله وفهمه الذي قد يقوم في الغالب على مقاصد مضمرة ، وفي الحقيقة هذا يؤدي الى خلاف مبالغ فيه، وتشتت مخر ويمخر في جسد الشريعة..
    ومن ثم يمكن القول أنه لا مفر من الاستناد الى مقاصد، إما بطريقة معلنة ومدروسة -رغم استحالة الإجماع على تحديدها الدقيق وتراتبيتها- أو بطريقة غير معلنة، تبقى رهينة اختيار المجتهد وذاتيته، وأحيانا لأهوائه … وأهواء سلاطينه… ويكون الضرر هنا … علمنة متوحشة… وأصالة مزيفة… والله أعلم.

    1. جزاك الله خيرا على النصيحة معالي الدكتور
      ونسأل الله أن يلهمنا السداد والرشد
      والله المستعان على كل حال
      وعلنا نستفيد من هذه النصيحة إن شاء الله تعالى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى