بحوث ودراسات

قراءة تحليلية في النزعة التوسعية الروسية

عمر الدغيم

كاتب ومدون سوري
عرض مقالات الكاتب


بعد الغزو المغولي الدموي والمدمر لروسيا بين عامي 1237-1241م بقيادة باتو خان، الذي قضى على جميع الإمارات الروسية المنقسمة، وعلى رأسها دوقية كييف (كييف روس) التي لم يبق فيها حجر على حجر إثر الغزو، بقي الروس فيما بعد خاضعين للخانات المغول من القبيلة الذهبية لمدة تقارب القرنين من الزمن، فكانت إماراتهم تؤدي للمغول الجزية المفروضة، كما أن لخانات التتار الحق في تعيين واختيار الأمير الروسي لكل إمارة، وهذه الفترة تعرف في التاريخ الروسي باسم (النير التتري).
وما إن كسبوا استقلالهم بتأسيس إمارة موسكو الكبرى التي توسعت شيئاً فشيئاً لتصبح نواة إمبراطورية ستستمر بالتضخم ومضاعفة مساحتها على مدى الثلاث قرون القادمة، حتى أصبحت الوحش الشرقي والدب الروسي المستمر في التوسع غرباً وجنوباً وشرقاً، والذي سبب قلقاً وهاجساً دائماً لأوروبا، ومازالت روسيا إلى يومنا هذا الدولة العملاقة والأكبر مساحة بين دول العالم، فما هو سر هذا الاتساع وما هي مسببات استمراريته بوتيرة دائمة وثابتة.
إن قراءة تاريخ الروس كأمة وكدولة، واستقراء أحداثه وتطوراته، يعطي التصور الآتي:
الاعتداء على أرض الآخر منهجٌ متأصل في العقلية الروسية الحاكمة وسلوك أصيل لدولتها تاريخياً، وهو ما حولها إلى إمبراطورية بالطبع، فالعقلية الإمبراطورية لا تقبل الانكفاء داخل الحدود والاكتفاء بالأقاليم المتواجدة بالفعل تحت سيطرتها، شأنها في ذلك شأن جميع الإمبراطوريات في التاريخ البشري، ولكن امتاز الروس عن غيرهم بالإصرار العجيب والمداومة المستمرة على هذا المنهج.
ولم يقتصر التوسع الروسي على ضم المساحات الجغرافية والكتل البشرية قهراً، بل توازت معه عملية مستمرة لدمج تلك الأراضي والأمم في جسم الإمبراطورية، وأحياناً تعدته للصهر الكامل في بوتقتها، عن طريق اتفاقيات وتسويات مرضية للطرفين، حيث ضمنت للشعوب المحلية في الأراضي المفتوحة والخاضعة قدراً من الاستقلال الذاتي تحت ظل سيادة القيصر الروسي وضمن الإطار الشرعي لحكمه، فاكتسب ذلك التوسع صفة الدوام والاستقرار في بقاع وأقاليم لم تكن يوماً من الأيام روسيةً قط، كالقوقاز وأقاليم سيبيريا وآسيا الوسطى وغيرها، وبرهنت تلك السياسة على نجاحها الكبير إلى الدرجة التي لم تستطع تلك الأقاليم والشعوب التي دخلت في كيان الإمبراطورية وضمن منظومتها السياسية والإدارية والعسكرية يوماً، أن تنفك عن المصير العام والمشترك للأمة الروسية ودولتها، بل دخلت في حيزها الثقافي واللغوي، ولا أدل على ذلك من قيام الاتحاد السوفياتي على نفس الخارطة السياسية للإمبراطورية الروسية التي خلفها في حكم وإدارة البلاد، فلم تنفصل عن جسد الإمبراطورية سوى بولندا وفنلندا اللتان لطالما اعتبرتا عضوين قلقين ضمن نطاق حكم قياصرة آل رومانوف.
ولا يكفي القول بأن اقتناع النخبة الحاكمة الروسية بقاعدة (الهجوم خير وسيلة للدفاع) هو سبب هذا السلوك ودافعه، فالتهام دول الجوار وضم الأمم المجاورة بالطرق العسكرية أو السياسية، عادةٌ قديمة جديدة للإمبراطورية الروسية وقياصرتها تحت غطاء رعاية الأرثوذكسية العالمية وشرعيتها، ولم تنته هذه العادة مع تأسيس الاتحاد السوفياتي، بل استمرت برداء جديد وهو رعاية الشيوعية والاشتراكية العالمية ! حيث يعتبر الروس أنفسهم أمةً أبويةً وراعية للأمم الصغرى، ويعتقد مثقفوهم ومفكروهم أن في تاريخهم وتقاليدهم في الحكم والإدارة ما يؤهلهم لذلك، ومن هنا كانوا دائماً في صف المعارضة والمناوئة للغرب، فهم لا يتقبلون أن يكونوا تبعاً للآخر أياً كان هذا الآخر !
ولا ريب أن العامل الرئيسي الذي اعتمدت عليه روسيا عبر تاريخها، والأساس الذي بنت عليه قاعدتها التوسعية وكونت من خلاله نواتها الإمبراطورية، هو الشرعية المزدوجة التي تجمع بين البعد الديني المتمثل بالوصاية الرسمية على الكنيسة الأرثوذكسية الأم، والبعد السياسي المتمثل في إدعاء الأحقية بالإرث السياسي للإمبراطورية البيزنطية التي بدورها مثلت الامتداد والإرث السياسي الشرعي للإمبراطورية الرومانية القديمة، وهذا ما يفسر حمل أمراء موسكو للقب (القيصر) منذ عام 1547، عندما توج إيفان الرابع نفسه كأول قياصرة روسيا، فملأ الفراغ الذي تركه سقوط القسطنطينية ومقتل آخر قياصرة الروم البيزنطيين قسطنطين الحادي عشر، والذي ترافق مع الفراغ الديني بوقوع الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية – القبلة الدينية والروحية لمسيحيي الشرق – في قبضة الأتراك العثمانيين حيث أصبحت تحت رعايتهم.
إذن فقد أصبح الروس منذئذ سادة العالم المسيحي الشرقي والأوصياء على المسيحيين الأرثوذكس في شرق أوروبا والبلقان وجنوب القوقاز، ولأنهم أحد أقطاب العالم المسيحي، أهلهم ذلك لاحقاً لكي يصبحوا قطباً عالمياً في العصور الحديثة التي سادت فيها الأمم المسيحية العالم أجمع، وتفوقت عليه عسكرياً واقتصادياً وحضارياً، وقد تشبعوا بهذا الشعور ونما في عقولهم وقلوبهم يوماً بعد يوم، وأصبح من الصعب أن يتخلوا عنه، فحتى بعد سقوطهم كقطب مع سقوط الاتحاد السوفياتي في أواخر القرن العشرين، مازالوا يرون روسيا دائماً كــ ” مرشح قطب ” إن لم تكن قطباً مستقلاً ومكتملاً.
وإن طموح النخبة السياسية في الوصول إلى المياه الدافئة والسيطرة على الفضاء الأوراسي كان ومازال موجوداً لدى أصحاب دولتهم، وهو ما دفع روسيا دائماً للاشتباك مع المحيط الذي يعيقها ويحول بينها وبين مراميها الكبرى. وكانت روسيا قد أثبتت عزمها وإصرارها على عدم التنازل عن أي شبر من البلاد مهما كان بعيداً وقصياً عن مركزها، مقتنعة بأن التنازل عن أطراف أطراف الإمبراطورية سيجلب الخطر والتهديد يوماً على أطرافها ! وذلك عندما خاضت حرباً مع اليابان (1904-1905) – رغم خسارتها لهذه الحرب – رغبةً منها في توسيع أراضيها في أقصى أقاصي الشرق وضمان إلحاق أراضٍ جديدة في منشوريا وأطراف شبه الجزيرة الكورية.
وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ظلت الدول المنفكة عنه مرتبطة بشكل أو بآخر ارتباطاً استراتيجياً ومصيرياً بالكيان الأم وهو (الاتحاد الروسي)، في حين حافظ الاتحاد الروسي على كيانه الأضخم والأهم، محتفظاً بالقوقاز وسيبيريا، وبمكوناته الدينية الثانوية كالمسلمين واليهود، والعرقية الغير روسية كالتتار والقوزاق والياقوتيين وإثنيات القوقاز كالشيشان والشركس والداغستانيين، فالدب الروسي بقي دباً وإن أخذ شكلاً أصغر.
ولا شك أن الموقع الجيوسياسي الذي تتمتع به روسيا له دور مساهم بقوة في تكوين الإمبراطورية وضمان اتساعها، حيث منحها الحصانة التلقائية من جهتي الشمال (المحيط المتجمد الشمالي)، والشرق (سهول سيبيريا العظيمة الاتساع)، إضافة إلى الدور الدفاعي والوقائي الطبيعي الذي تمتعت به بلاد الروس، والمتمثل بعمقها الجغرافي الهائل وقسوة مناخها البارد الذي يستنزف العدو المهاجم والغازي بشكل طبيعي ويقضي عليه تدريجياً حتى في حال لم يتم إيقافه عسكرياً، كما تحقق ذلك بشكل واضح وجلي في غزو نابليون لروسيا 1812، وغزو هتلر للاتحاد السوفياتي 1941.
وكان لمناخ روسيا القاسي أثره البالغ في تكوين الخصائص النفسية والجسدية للشعب الروسي، فمناخها القاسي جعل شعبها أشد قسوة، فأعطاه قوة البدن إلى جانب المراس الصلب والقابلية للتحمل والمجالدة والتضحية، وقد تصل إلى البرودة في المشاعر التي تدفعهم إلى (اللامبالاة) بكم التضحيات البشرية والمادية، وكل هذا ساعدهم في دحر غزاة بلادهم وغزو البلاد الأخرى !
أضف إلى ذلك طبيعة الحكم المركزي والمستبد الذي تمتعت به الدولة الروسية منذ تأسيسها، والقبضة الحديدة التي يفرضها المركز ويقمع بها أي محاولة للتمرد والعصيان بالحديد والنار، وامتازت الدولة الروسية بهذه الخاصية حتى أصبحت سمة كلاسيكية لطريقة حكمها وبسط سيطرتها على مقاطعاتها وأقاليمها، وهذا ما جعل نمط الحكم الروسي دائماً في تضاد تام مع نمط الحكم الذي ساد في الغرب الأوروبي والذي بني على الأفكار الليبرالية والقيم الديمقراطية.
والحقيقة التاريخية والواقعية تقول أن الروس نجحوا إلى حد كبير في هذه السياسة، وأن هذه المنهج التوسعي والمتعدي للحدود حصد ثماره وأتى أكله، وقد أثبتوا تميزهم وتفردهم كأمة إمبراطورية رغم النكبات والحروب المدمرة التي تعرضت لها روسيا، والتي كبدت الروس ملايين الضحايا.
وإن موسكو مازالت تعتبر نفسها كوريثة لــ (سان بطرس بيرغ) وللقياصرة البيض والحمر، والوصية على هذه الوحدة الجيوسياسية من الدول الناشئة من بقايا الاتحاد السوفياتي، والتي تراها كامتداد لمجال هيمنتها الحيوي ونطاق نفوذها وعمقها الاستراتيجي، ومن هنا كان السبب الرئيسي للحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا، وذلك عندما أخذت الأخيرة خطاً متمرداً على تلك المنظومة التقليدية والحلف القديم ومالت نحو الكتلة المغايرة والمعادية للروس تاريخياً المتمثلة بالغرب وحلف الناتو، فاعتنقت مبادئ ونظم للحكم والسياسية كالديمقراطية والليبرالية بمفهومها الأوروبي، والتي لا تتفق ولا تتوافق مع رؤية موسكو والعواصم التابعة لها، ولذلك تحولت أوكرانيا إلى تهديد استراتيجي محتمل – في حال انضمامها للناتو – وخطر على الأمن القومي الروسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى