مقالات

النظام العالمي الجديد بعد أزمة أوكرانيا

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

المثل يقول:”حين تصل إلى قمة الجبل فكل الطرق تصبح نزولا”، والقاعدة في الطبيعة الفيزيائية تقول إن “الطبيعة لا تحب الفراغ”. فما الحل إذن لكي لا تهبط أمريكا عن تربعها على عرش النظام العالمي الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية، بدفع ومشاركة من بريطانيا كما أقر المفكر الأمريكي كريستوفر هيتشنز:” في كل مبادرة سياسية تقوم بها أمريكا، كان يوجد دوما على طاولة القرار، مستشار إنجليزي يكاد لا يظهر، يؤيد المبادرة بشكل حيي (من الحياء) ولكن مؤثّر وفعال( في تمرير القرار)”.

أزمة حلف الناتو: إنتهاء المهمة والبحث عن أعداء جدد

  يؤكد والتر ماكدوغالد، استاذ العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا، أن “فكرة” حلف الناتو كانت من بنات أفكار بريطانيا ، فبعد أن وقع وزير الخارجية البريطاني ايرنست بيفن معاهدة بروكسل في 15 أذار 1948، والتي شكلت نواة الحلف الاوروبي الذي ضم في حينه كلا من فرنسا،  بلجيكا، لوكسمبورغ، هولندا وبريطانيا، تحت عنوان درء أي خطر قادم من قبل ألمانيا (المهزومة في الحرب العاملية الثانية) وروسيا (التي خرجت من الحرب الثانية لتشكل خطرا محتملا على اوروبا الغربية)، قام   بيفن بإقناع الرئيس الأمريكي هاري ترومان بضرورة إنضمام أمريكا لتقود الحلف الجديد، أمل أوروبا الغربية الوحيد للتصدي لأي خطر قادم من الشرق :سواء المانيا أم الاتحاد السوفياتي. وفعلا قام ترومان ومساعدوه بإطلاق حملة كبيرة وسط الكونغرس الأمريكي لتمرير الموافقة على المبادرة البريطانية في قيادة العالم الحر لدرء الخطر الشيوعي.

غني عن الذكر أن بريطانيا هي التي جرّت أمريكا للدخول في الحرب العالمية الأولى.وبعد الحرب الاولى تبنى الرئيس وودرو ويلسون مقترح الكولونيل هاوس (وهو تابع لسيسيل رودس Cecil Rhodes مهندس السياسة الامبريالية البريطانية الذي قاد  الحرب الأولى في بريطانيا) بإنشاء “عصبة الأمم” لحفظ السلام، ولكن الكونغرس الأمريكي رفض التصديق عليها. ونظرا لحاجة بريطانيا للعضلات الأمريكية بعد الحرب الثانية فقد تمكن بيفن من إقناع ترومان بقيادة منظمة حلف شمال الاطلسي التي أخذت على عاتقها التصدي لمواجهة الخطر السوفياتي. وجرى إسقاط المانيا من دائرة العدو المحتمل وتم ضمها الى الحلف.

وقد قام حلف الناتو بمهمته حتى انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، مما أدخل الناتو في “أزمة هوية”، فمبرر وجوده (الخطر السوفياتي الشيوعي) اندثر، فكانت الحاجة لإيجاد تبريرات تسوغ المحافظة عليه، بل والعمل على توسعته، فجاءت حرب البوسنة في 1995، والتي انتهت باتفاقية لحفظ السلام بمشاركة قوات الناتو مع قوات روسية، لتعطي حلف الناتو قبلة الحياة، وبعد كثير من المراوغة والخداع تمكن كلينتون من إقناع بوريس يلتسن(رئيس روسيا السكرجي) بغض النظر عن توسعة الناتو بضمه بولندا، تشيخيا، والمجر في 1998.

ورغم تنديد العديد من كبار الساسة الأمريكان لفكرة توسعة الناتو، منهم جورج كينان مهندس السياسة الأمريكية في الحرب الباردة الذي تنبأ بأن توسعة الناتو شرقا غير مبررة بالنظر لرغبة روسيا بالتقارب من الغرب وليس المواجهة، و رأى أن التوسعة هي استفزاز لروسيا و ستدفعها لردة فعل عنيفة ولو بعد حين (أي بعد تجاوز روسيا حقبة الضعف التي مرت بها في عقد التسعينيات من القرن العشرين)، ومن المعترضين وزير الدفاع في إدارة كلينتون  بيل بيري، كما اعتبر الكاتب في نيويورك تايمز توماس فريدمان قرار التوسعة بأنه أكبر خطأ استراتيجي. ولكن الفريق  الداعي لسياسة العولمة في إدارة كلينتون تمكن (30- نيسان 1998) من تمرير مخططه والحصول على موافقة الكونغرس الامركي بعد مناقشات  هزيلة.

الحروب المستجدة تبرر بقاء الناتو

ثم جاءت حرب كوسوفو (1999) حين قام الناتو بشن حرب جوية على صربيا  ما بين  أذار- حزيران 1999 لفرض شروط التسوية، ولتمنح غطاء لشعار الناتو الجديد بالتدخل لأسباب إنسانية (نعم إنسانية )! هذه الحرب كانت القشة التي قصمت ظهر البعير فتنحى يلتسن عن السلطة لصالح بوتين. أما تفعيل المادة الخامسة الشهيرة من ميثاق حلف الناتو، والتي تقضي بأن العدوان على أي بلد في الناتو هو عدوان على الجميع، فتم على خلفية حادثة 9/11 في نيويورك وهكذا شاركت دول الناتو في الحملة الأمريكية على أفغانستان، تحت شعار نشر الحرية والديمقراطية والقضاء على إرهاب القاعدة الطالباني! هذا دون الخوض في فرية 11/9 فضلا عن نكتة أن طالبان تشكل تهديدا على الغرب، ولكن لا أحد يجرؤ على كشف حقيقة الملك العريان، الذي لا يتوانى عن البطش بكل من قد يفكر بذلك.

وعلى خلفية العدوان على العراق في أذار 2003، وافق مجلس الشيوخ في أيار 2003 على ضم سلوفاكيا،سلوفينيا، بلغاريا، رومانيا، بالاضافة الى دول البلطيق ليتوانيا استونيا لاتفيا والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي وتقع على تماس مباشر مع روسيا. مع ملاحظة أن دول البلطيق لا تساهم في تعزيز الوضع الأمني لدول حلف الناتو بل تشكل عبئا عليها وهذا يخالف ميثاق المنظمة.

تحول الناتو من حلف دفاعي إلى حلف هجومي

هكذا اتضح أن الناتو، وعلى خلفية أزمات ساخنة، انتقل من كونه منظمة دفاعية لمواجهة الخطر السوفياتي الشيوعي(الذي انفرط عقده ولم يعد يشكل تهديدا للغرب) إلى منظمة هجومية تعطي نفسها الحق في التدخل لفرض حلول في الازمات سواء في أوروبا أو حتى خارجها (أفغانستان ولاحقا ليبيا ).

هذا التوسع للناتو أصبح واضحا أنه يستهدف تضييق الخناق على روسيا التي عانت في عقد التسعينيات من لحظة ضعف ولكنها كانت تتطلع إلى علاقات وثيقة مع الغرب إلا أن السياسة الغربية عاملت روسيا بازدراء و استفزاز..وهذا ما دفع بوتين في 2008 إلى التدخل في جورجيا لارسال رسالة بأن روسيا تجاوزت لحظة الضعف ،وأنها لن تتوانى عن استعمال القوة لحماية مصالحها، وهذا ما جعل فرنسا والمانيا تعترضان على اقتراح أمريكا  بضم  جورجيا و أوكرانيا في قمة الناتو في 2008.

واقع الأمر أنه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي (1991) صدرت صيحات عديدة تتساءل عن الجدوى من الإبقاء على الناتو، وهذا تتطلب خلق الأزمات لإيجاد مبررات للابقاء على الحلف. فدول اوروبا الغربية كانت منهمكة بالاستثمارات الاقتصادية وجني المكاسب المادية من موجة العولمة التي انطلقت في عهد الرئيس كلينتون، ولم تستشعر وجود خطر داهم عليها من قبل روسيا.

ثمرات العولمة: صعود شرق آسيا والخطر الصيني

ولكن العولمة أيضا أدت إلى تغير في موازين الاقتصاد العالمي وتعاظمت حصة منطقة شرق آسيا  في الاقتصاد العالمي، ومع تنامي قوة الاقتصاد الصيني تنامت القدرات العسكرية، و رافقها تمدد منطقة النفوذ الاقتصادي للصين في القارات كما تجسدت عبر مشروع طريق الحرير الجديد القائم على ضخ عشرات المليارات للاستثمار في شبكة البنية التحتية التي تخدم توسع التجارة الصينية في العالم.

ولكن الصين، الخاضعة لحكم الحزب الشيوعي بما يحمله من فكر محنط ثبت فشله في الاتحاد السوفياتي سيء الذكر، لم تملك يوما مشروع رؤية سياسية كبرى تهدف لفرض نموذجها الحضاري في العالم، بل جل ما تطمح إليه، وهي صاحبة مليار ونصف من السكان، هو تنامي اقتصادها ورفع مستوى المعيشة لشعبها، مع احترام كلمتها في الجوار المحيط بها….أما منافسة الدول الغربية والسعي للصدام معها فهذا لا يفيد الصين بشيء، وهي مرتاحة لكونها أصبحت “مصنع العالم” في صفقة تم ترتيبها مع أساطين الرأسماليين في الشركات الاوروبية والأمريكية فيما يعرف بوضعية ربح- ربح للجميع win-win ، فرأسماليو الغرب يستفيدون من تعاظم أرباحهم من العمالة الرخيصة في الصين، والصين في المقابل تجني الدولارات التي تمكنها من رفع مستوى المعيشة لشعبها وتحسين قدراتها الاقتصادية والتي تمكنها من بناء شبكة من النفوذ الاقتصادي العالمي وفرض كلمتها في الجوار الاقليمي…وهذا كله لا يعني مطلقا وجود توجه لدى قادة الصين لتحدي الهيمنة الغربية ولا لطرح نموذج اشتراكي بديل عن الاقتصاد المعولم الذي تقوم أركانه على رأسماليي الغرب.

عوارض شيخوخة أمريكا

ولكن أمريكا، التي تعاني من عوارض الشيخوخة وتعاني من إنقسامات حادة داخلية بين المستوطنين الأوروبيين البيض الين يتحولون إلى أقلية بشكل مترج يوميا وبين المستوطنين الجدد سواء من العنصر الأسود الذي استقدم في تجارة العبيد من إفريقيا أو المهاجرين الجدد من اللاتين وغيرهم من “الملونين”…. و قد استفادت أمريكا من هيمنتها الدولية لتبالغ في الاستدانة حتى وصل الدين القومي 30 تريليون دولارا، وفرضت على الدول المتعاملة معها عملة الدولار بفضل حكام البترول من العرب، فأصبح الدولار عصب الاقتصاد الدولي.

فأمريكا تريد أن تستبق الأمور فتحول دون ظهور أي منافس لهيمنتها، من هنا لجأت إلى خلق الأزمات المتتالية، و الاستفادة من عوامل الصراع التي لا يخلو منها العالم، ومنها أزمة البوسنة في 1995 التي أعطت الناتو قبلة الحياة في وجه المطالبات بإنهاء خدماته بعد إنتفاء مبرر وجوده (خطر الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية المنافسة للمنظومة الغربية الرأسمالية) ثم جاءت أزمة كوسوفو للتدفع الناتو لتحويل مهامه من دفاعية بحتة إلى هجومية وإن كان تحت شعار التدخل الإنساني المفضوح.

إشعال الأزمات لإشغال المنافسين

لتفادي النزول من قمة جبل النظام الدولي عمدت أمريكا، ومعها دوما شريكتها بريطانيا، إلى توتير الأوضاع في أوكرانيا وتقديم الوعود بدعمها في مواجهة أي خطر روسي لها. ومن ذلك تعمد القوات البريطانية والأمريكية تكرار المناورات العسكرية في اوكرانيا قريبا من الحدود الروسية، حتى وصل الأمر أن أطلقت سفينة روسية طلقات تحذيرية ضد مدمرة بريطانيا اقتربت من شواطيء القرم في حزيران 2021. وحين أجرت قوات فرنسا وبريطانيا وأمريكا مناورات قرب الحدود الروسية في تشرين الثاني 2021  طالب الجنرالات الروس بوتين بأن تقوم روسيا بمناورات ردا على الاستفزاز فرفض بوتين كيلا تتأزم الأمور.

ويبدو من خلال ردود فعل بوتين الهادئة أنه كان يعرف حدود الدعم الأمريكي، والغربي، لأوكرانيا، فلم يبالي بل وجد نفسه في زاوية عليه اختيار أهون الشرين: السكوت عن ضم أوكرانيا إلى الناتو و في هذا مقتل لروسيا وتهديد مباشر لأمنها القومي، فقد سبق أن غزيت روسيا مرتين في عهد نابلوين وفي عهد هتلر عبر سهول أوكرانيا، كما أن أوكرانيا هي مهد الحضارة السلافية قبل موسكو بزمن فهناك ارتباط عضوي تاريخي وثقافي بين الطرفين، والسكوت عن ضم أوكرانيا الى الناتو يعني خنق روسيا، والخيار الآخر كان شن “عملية عسكرية خاصة” لفرض التسوية التي تلبي شروط روسيا في أوكرانيا. مع رهانه على حاجة أوروبا الماسة للطاقة الروسية من نفط وغاز و الفحم الحجري. ولكن حسابات البيدر لم تتطابق مع حسابات الحقل، فقد ظن جنرالاته أن العملية الخاصة ستحقق أهدافها بسرعة وتنهار اوكرانيا ثم تقبل بشروط روسيا.

تحرر المانيا من عقدة الذنب النازية “المعمودية بنار الحرب في أوكرانيا”

حاول المستشار الجديد أولاف شولتز الحيلولة دون تفاقم الأزمة ومنع إنفجار واسع فذهب إلى موسكو (15 شباط 2022) ليقنع بوتين بعدم شن هجوم على أوكرانيا، كما فعل قبله زميله الفرنسي ماكرون (7 شباط 2022)، فقادة أوروبا يدركون جيدا أن أي صدام عسكري واسع ستتحمل أوروبا نتائجه الكارثية. ولذا رفض شولتز في زيارته لبايدن في واشنطن التعهد بوقف مشروع الغاز الروسي المعروف باسم نورد ستريم 2 السيل الشمالي. إلا إنه بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا سرعان ما انقلب على تردده السابق، وعكس قراراته السابقة بعدم تزويد اوكرانيا بالسلاح بل ومنع الدول الاخرى من نقل السلاح الالماني لديها لاوكرانيا، وأعلن في خطابه الحاسم  في الجلسة الاستثنائية امام  البرلمان الالماني  يوم الأحد 27 شباط 2022، عن اعتماد أضخم ميزانية عسكرية للجيش الالماني بقيمة مائة مليار يورو، وأعلن عن توقيف خط الغاز الجديد نورد ستريم 2، وأعلن عن تقديم كل المساعدات العسكرية لاوكرانيا لتمكينها من الدفاع عن نفسها والسماح للدول الاخرى بنقل السلاح الالماني لاوكرانيا.

خطاب المستشار شولتز شكل علامة فارقة في نهج السياسة الألمانية التي عاشت في ظل عقدة ذنب النازية طيلة العهود من بعد الحرب العالمية الثانية، ومما جاء فيه قوله:” العالم ،بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، لن يكون كما كان من قبل”، وحذر من أن بوتين يريد هدم النظام الأمني لأوروبا القائم منذ اتفاقية هلسنكي (1975)” معلنا أن المانيا لن تتردد في تحمل مسؤولياتها في منع بوتين من تحقيق هدفه، وأن المانيا مستعدة لبذل كل جهد في سبيل ذلك بالتعاون مع حلفائها. وفي سبيل ذلك فالحاجة ماسة لتقوية الجيش الألماني وتزويده بكل ما يحتاج من سلاح وعتاد، بما في ذلك شروع المانيا في بناء الجيل الجديد من المقاتلات الحربية والدبابات، فضلا عن تطوير مقاتلة يوروفايتر. كما أعلن أنه تم توقيع العقود اللازمة لبناء اسطول حديث من طائرات الدرون.

وحين سئلت وزيرة الخارجية الألمانية، التي تمثل حزب الخضر في الحكومة، عن هذه السياسة الجديدة وأنها تناقض سياسات حزب الخضر أجابت: “الظروف تغيرت و هذا يعني تغير في السياسات”.

إذن على خلفية الهجوم الروسي على أوكرانيا تتم “معمودية النار” للمجتمع الألماني الذي فرض عليه مواجهة الخطر الداهم للعدوان الروسي بما يمثله من تحدي لقيم المجتمع و تهديد أمني لكل أوروبا بما فيها ألمانيا، أو هكذا روجت الماكينة الإعلامية الغربية.

الحرب الإعلامية أشد ضراوة

من المعروف أن أولى ضحايا الحرب هي الحقيقة، والتي يجري إحاطتها بأسوار من الاكاذيب والروايات الخادعة الهادفة الى كسب تأييد الراي العام للسياسات المراد فرضها من قبل الفئة الحاكمة. ولنا في كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق خير مثال، أو أيضا كذبة 11/9، وتحميل طالبان المسؤولية عنها لتبرير الحرب العدوانية على أفغانستان، وشبيه ذلك حادثة خليج تونكين في 2 آب 1964  حين اتهمت أمريكا فيتنام الشمالية بشن هجوم على مدمرة أمريكية لتبرير الحرب على فيتنام الشمالية، فماذا ينفع تقرير وكالة الأمن القومي الأمريكي الذي صدر في 2005 وأقر بكذبة الهجوم، وماذا ينفع ضحايا العدوان الامريكي على العراق قول جورج بوش أن وكالة المخابرات قدمت تقارير مغلوطة عن اسلحة الدمار الشامل!!

المتابع للحملات الإعلامية الغربية يلمس فيها سعار الحرب الفاضح، حتى وصل الأمر إلى أن بريطانيا، التي تترأس مجلس الأمن حاليا، رفضت طلب روسيا بعقد جلسة لمناقشة حقيقة الإدعاءات عن مجازر بوتشا، وصدرت التصريحات البريطانية والغربية بحكمها المبرم مسبقا بتحميل روسيا المسؤولية عن جرائم الحرب في بوتشا، واتخذت الحكومات الغربية ذلك ذريعة لطرد أكثر من 300 من الدبلوماسيين الروس في طول أوروبا وعرضها…أضف إلى ذلك تصريحات بايدن عن بايدن وأنه مجرم حرب…وهذا أمر غير مسبوق حتى في أوج الأزمة الكوبية حين وقف العالم على شفير الحرب النووية بين العملاقين!

ولكن كل هذا مفهوم بالنظر الى الحاجة لتهيئة الرأي العام للنظام العالمي الجديد الذي يجري صياغته وطبخه على نار الأزمة الأوكرانية. فليس من السهل نقل المانيا( التي خفضت قوة الجيش الألماني من 5000 دبابة في 1989 الى 300 في 2020، للشعور بانتفاء الحاجة إليها، في ظل المراهنة على أن سياسات العولمة كفيلة بتحقيق السلام والازدهار بعيدا عن قرقعة المدافع والبنادق والصواريخ) من عقدة الذنب النازية وسياسة عدم التورط في صراعات مسلحة  إلى أن تصبح لاعبا ذي ثقل في القرار السياسي بين عشية وضحاها…فجاءت أزمة أوكرانيا لتمهد انبثاق فجر نظام عالمي جديد يتطلب بعض الاعمال المسرحية لفرضه.

مواجهة الخطر الصيني المزعوم

هكذا نقرأ ما نشرته قناة الجزيرة تحت عنوان:”وسط سباق تسلح عالمي.. أميركا وبريطانيا وأستراليا تتفق على تطوير أسلحة فرط صوتية. أعلنت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا بدء تعاون جديد بينها لتطوير أسلحة فرط صوتية ومضاداتها بالإضافة إلى منظومات حربية إلكترونية.وجاء هذا الإعلان عقب اجتماع افتراضي بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، كجزء من الاتفاق الأمني الثلاثي الناشئ بين الدول الثلاث والمعروف باسم “أوكوس”.وأثارت الاتفاقية حفيظة عدة دول على رأسها الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وحذرت الصين من أن التحالف يخاطر “بإلحاق أضرار جسيمة بالسلام الإقليمي، وتكثيف سباق التسلح”.   (الجزيرة 6-4-2022).

 و تزامن هذا الخبر مع اعتزام رئيسة الكونغرس الأمريكي نانسي بيلوسي زيارة جزيرة تايوان للاحتفال بالذكرى ال 43 لقانون تنظيم  العلاقة  الدبلوماسية بين أمريكا وتايوان ( 10 نيسان 1979)، إلا إن “إصابة”(؟) بيلوسي بفيروس كورونا جعلها تؤجل زيارتها.

وقد شجب (زاو) المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية هذه الزيارة  واعتبرها  تهدد أسس العلاقة بين البلدين، لكونها خرقا لسيادة الصين، و مخالفة فاضحة لمبدأ الصين الواحدة الذي تم إقراره في ثلاثة إعلانات امركية صينية مشتركة أي أن أمريكا تقر النظرة بأن تايوان هي جزء من الصين الأم، مطالبا بيلوسي بإلغاء الزيارة. (موقع آسيا تايمز)

وكانت صدرت التصريحات الغاضبة من الصين مطالبة باتخاذ الإجراءات الردعية للحيلولة دون حصول الزيارة. وتضمنت هذه التصريحات تهديدات صريحة بأن الصين قادرة متى أرادت على احتلال المطارات والمرافيء في تايوان، ورافقت هذه التصريحات قيام المقاتلات الصينية بعرض عضلات في سماء تايوان. و قد دعا محرر غلوبال تايمز الصينية السابق شو شيجين إلى إغلاق المجال الحوي لتايوان لمنع طائرة بلوسي من الوصول، بل و تحليق المقاتلات الصينية بقرب طائرة بيلوسي.(أسيا تايمز)

وقد اعتبرت الصين هذا الإعلان عن تكثيف التعاون الصاروخي بين شركاء حلف ( AUKUS أوكوس- بريطانيا أمريكا أستراليا) تهديدا للسلام الاقليمي في المنطقة. علما أن الصين على وشك توقيع اتفاقية تعاون أمني مع جزر سولومون (جزر سليمان) وهي التي تقع في المحيط الاتسراتيجي الأمني لاستراليا التي تتخوف من إمكانية إنشاء الصين لقاعدة عسكرية بحرية في الجزر، وقد سبق لاستراليا أن ضغطت في 2019 لمنع جزر سولومون من منح الصين هذه الامتيازات.(الغارديان)

وكانت الصين  حذرت، 7-3-2022، من محاولة أمريكا إنشاء “ناتو اسيوي” لمواجهة الصين، منذرة بأن هذا يهدد السلام العالمي.(بلومبيرغ).

ولكن الأزمة الأوكرانية فتحت الباب أمام مزيد من توتير الوضع الاستراتيجي في شرق آسيا في خط المواجهة مع الصين. ومع أن استراليا كانت  رفضت  في 2019 طلب الرئيس الأمريكي ترامب نشر صواريخ أمريكية في منطقة داروين شمال استراليا يصل مداها الى 5500 كلم، إلا أنها منذ توقيع اتفاقية أوكوس تغذ الخطى لرفع الجهوزية العسكرية لصدام محتمل ضد الصين، خاصة بعد توسع الصين في جوار استراليا ومن ذلك توقيع اتفاقية أمنية بين الصين و جزر سولومون تراها استراليا تهديدا لأمنها.

وهذا كله ليس اعتباطا ولا عفويا فرغم حرص الصين على تنامي العلاقات الاقتصادية مع الغرب وعدم الدخول في مواجهات تكلفها غاليا، إلا أن أمريكا في المقابل ترفع باستمرار من مستوى الضغوطات والاستفزازات للصين، وتكاد تتعمد إشعال أزمة تستنزف الصين في شرق آسيا، مع ما في هذا من تداعيات ضخمة على الاقتصاد العالمي، ولكن هذا آخر هموم أمريكا التي لا تمانع في إشعال الأزمات لمنع الأطراف المنافسة لها من مزاحمتها على قمة الموقف الدولي.

وفي هذا الإطار نجد الضغوطات الأمريكية على الهند لعدم مساعدة روسيا على التهرب من العقوبات القاسية التي فرضت عليها وإدانة عدوانها على روسيا، فيما يذكر بمقولة جورج بوش بعد 11/9: “من ليس معنا فهو ضدنا”.

 فإذا أضفنا إلى هذا كله ضخامة الدين الأمريكي (30 تريليون دولار) والممول عبر نهب ثروات العالم، و إمكانية سعي روسيا والصين الى التحرر من سيف الدولار والهيمنة المالية الأمريكية وذلك بالتعامل مع العملات الوطنية (الروبل واليوان) أدركنا أن المشهد السياسي العالمي قادم على مخاض عسير وربما أزمات ساخنة لها ما بعدها، قد توفر للأمة الإسلامية فرصة للانعتاق من قيود هيمنة ضباع الإستعمار الغربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى