منوعات

هل (الصلاة على الرسول) أولى من (ذكر المُرسِل)؟!

أ.د فؤاد البنا

أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب



مارست خلال الأسابيع الماضية سياحة ذهنية واسعة وسط عشرات المجموعات في الفايسبوك والمتخصصة في إيراد صور ومناظر لعجائب الطبيعة الخلابة وغرائب الكائنات التي لا يعلم عددها ووظائفها إلا الله.
وبالطبع فإن هذه السياحة التي تتنقل بك في شتى أصقاع الأرض وأنت في بيتك، هي رحلات بالغة الروعة وكثيرة النفع على كل المستويات؛ لأنها صورة من صور النظر في هذا الكون والسير في الأرض والاي ورد الأمر بها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، ولأنها تُنمي الحسّ الجمالي في شخصية الإنسان وتهذب طباعه المتوحشة ذات المنشأ الترابي، مرتقيةً به نحو شفافية الروح الملتاعة بحب الله، وحساسية القلب المنفعل بالجمال الداهق والروعة المنسكبة في مختلف بقاع الأرض!

وبجانب ذلك، فإن هذه السياحة الذهنية تدفع بالمرء نحو اعتلاء مقامات التفكر في آيات الأنفس والآفاق والتي اشتمل عليها القرآن الكريم في نحو ألف من آياته البينات، وتزرع في وجدانه شتائل الشعور بعظمة الآلاء التي حبا الله بها الناس، باعثةً في جوانحه أحاسيس الارتياع من سطوع جلال الله وجماله عزّ وجلّ، ليعرج بعقله وقلبه من درجة المشاهدة الحسية إلى ذروة الشهود الروحي، ويرتقي بفكره وفعله من سفوح الانفعال العاطفي المؤقت إلى قمم الفاعلية المستمرة في مضمار صناعة الحياة .

إن تلك المجموعات الفيسبوكية المتزينة بآلاء الله ومننه، يُفترض أن تصير واحات عامرة ببراهين عظمة الله الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى، وساحات جامعة لعلامات ومعالم تَفرد الله تعالى وحده في صناعة الخلق وإدارة الأمر.
وينبغي أن تصبح رياضاً زاخرة بأشجار ذكر الله ومزدانة بأزهار تسبيحه؛ فهو خالق ذلك الجمال المنساب في كل نواحي الوجود بكل من فيه وما فيه، وهو تعالى صاحب الإبداع المذهل في تشكيل تلك التحف الجمالية التي تسبي القلوب وتسحر الألباب، وهو مالك تلك القدرات الخارقة التي صنعت أعاجيب لا حصر لها، تلك الأعاجيب التي تدفع الرائين بعين البصيرة للذهول والانبهار!

وبدلاً من أن تدفعنا هذه المجموعات لتذكر حكمة الرب العظيم في كل ما خلق، والثناء على المبدع في كل ما صوّر، فقد وجدت معظم رسائلها خاوية من تعظيم الخالق وخالية من تسبيحه وتنزيهه عن ما ينسب إليه الجهلاء وأنصاف المتعلمين.
وبعيداً عن الاهتمامات الغريبة لبعض المشاركين فيها والتي لا تنم عن تدين أصحابها وصلاحهم، فقد وجدت إسرافاً عجيباً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بأساليب وعبارات وصيغ متعددة لكنها متشابهة!
ومن المؤكد أنني لا أقصد هنا التقليل أبداً من أهمية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكني أردت الحث على التوازن في القيام بسائر العبادات، انطلاقاً من أن لكل عبادة وقتها الأفضل وحجمها الأنسب، مع إدراك أن ذكر الله ابتداءً أهم من الصلاة على النبي وأكثر أجراً ولا سيما في مثل هذه المجموعات التي تتزيّن بلوحات الإبداع الرباني وعجائب الإبهار الإلهي، وتزدان بمشاهد الحكمة السماوية ولطائف الأسرار الرحمانية.
ذلك أن الله عزّ وجلّ هو المرسِل، بينما محمد صلى الله عليه وسلم مجرد رسول لهذا الإله العظيم إلى خلقه، وكل ما في الرسول من كمالات إنما هي انعكاس رحماني بسيط لكمالات الخالق الذي احتكر الكمال والجلال لذاته، ثم إنه تعالى هو أدّب رسوله محمدا فأحسن تأديبه، كما افتخر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وأخيراً نُذكّر بأن القرآن الكريم أورد مئات الآيات ذات الصلة بذكر الله عزّ وجلّ، ومنها خمس آيات تأمر بذكر الله بصيغة المفرد و ١٤ تأمر بذكر الله بصيغة الجمع، وفي المقابل لم ترد إلا آية واحدة تأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم!

وأخيراً لا نحب القول بأن ذكر الله واجب يؤجر فاعله ويعاقب تاركه، بينما الصلاة على النبي مندوبة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أطلق مصطلح بخيل على من لم يصلّ عليه حينما يُذكر اسمه، ذلك أن المؤمن قد يكون بخيلا، كما ورد في حديث آخر .
ونختم بهذا السؤال: هل يُعد عاقلاً من يؤدي به توسعه في تذكر الوسيلة والثناء عليها، إلى نسيان تذكر الغاية والكفّ عن محاولة الوصول إليها؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى