سياسة

لماذا لاتستطيع الصين تقديم الدعم الكامل لروسيا؟

في الأيام الأخيرة، تتابعت تصريحات كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، والتي دعوا فيها الصين للتخلي عن موقف «الحياد» الذي اتخذته منذ بداية الأزمة، وحذَّروها من العواقب الوخيمة إذا اختارت الاصطفاف إلى جانب موسكو، وقدمت لها دعمًا اقتصاديًّا أو عسكريًّا لتجاوز العقوبات المفروضة، فما حقيقة الموقف الصيني من الأزمة؟ ولماذا يسير الصينيون على الحبال، فلا يصطفون مع الغرب في التنديد بموسكو، ولا يقدمون لروسيا دعمًا صريحًا في الوقت ذاته؟

دبلوماسية الصين «الباهتة» في الأزمة الأوكرانية
في مطلع شهر فبراير (شباط) 2022، وفي الوقت الذي تفاقمت فيه الأزمة بين روسيا والدول الغربية، على خلفية حشد الأولى مئات الآلاف من قواتها على الحدود الأوكرانية تأهبًا لغزوها لاحقًا، أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارة خاطفة إلى بكين، وُصفت بـ«الاستثنائية»، فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يلتقي فيها الرئيس الصيني شي جين بينج بزعيم عالمي منذ بدء جائحة كورونا في يناير (كانون الثاني) 2020.
في تلك الزيارة، وقع الطرفان اتفاقات تقضي بتزويد الصين بكميات كبيرة من الغاز الروسي، وجاء في البيان الصادر بُعيدَ القمة أن الزعيمين ناقشا بدء «حقبة جديدة» في العلاقات بين البلدين، وبدء «شراكة بلا حدود» تضع حدًّا للهيمنة الأمريكية وللعالم أحادي القطب، وفي الوقت الذي استعرت فيه الأزمة بين روسيا و«حلف شمال الأطلسي (الناتو)»، فقد أكدت بكين معارضتها لأي توسع للـ«ناتو» مستقبلًا، مطالبةً بعدم ضم أوكرانيا للحلف، في تناغمٍ صريح مع الموقف الروسي.

بعد ذلك بأقل من ثلاثة أسابيع، كانت القوات الروسية تجتاح أوكرانيا، لتبدأ الحرب التي عُدت الأكبر في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأثارت الحرب حفيظة المجتمع الغربي، بقدر ما أثارت القمة الثنائية التي سبقتها بين موسكو وبكين تساؤلات عن موقف الأخيرة من الغزو الروسي.

وفي هذا السياق أشارت تقارير استخباراتية غربية إلى أن المسؤولين الصينيين كانوا على اطلاع بخطط روسيا للغزو، وأن روسيا تلقت طلبًا من بكين بتأجيل الهجوم على جارتها حتى انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي انعقدت في بكين، وانتهت في العشرين من فبراير (شباط) 2022، أي قبل أربعة أيام فقط من بدء روسيا حملتها العسكرية على كييف.
وفور اندلاع الغزو، لم تنجر بكين إلى الدعاوى الدولية التي أدانت الهجوم الروسي بشكل صارخ، عوضًا عن ذلك، ألقت الخارجية الصينية، في البيان الذي أصدرته بعد الهجوم الروسي، باللوم على السياسات الأمريكية، التي «أججت التوترات وأشعلت تهديدات الحرب في أوكرانيا»، في الوقت الذي تجنب فيه المسؤولون الصينيون وصف العملية الروسية باسم «الغزو»، كما أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ونبين، أن «أوكرانيا يجب أن تصبح جسرًا بين الشرق والغرب، بدلًا من أن تكون على الجبهة في لعبة بين القوى العظمى».

لكن الموقف الصيني في الوقت نفسه، لم يكن منساقًا تمامًا للمعسكر الروسي، فقد أكدت بكين ضرورة احترام «وحدة الأراضي الأوكرانية»، كما اختارت بكين الامتناع عن التصويت في المحافل الدولية التي أدانت الغزو، فلم تؤيد القرارات الصادرة من مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي طالبت روسيا بالوقف الفوري للهجوم، ولكن بكين في الوقت ذاته لم تقف مع روسيا في رفض هذه القرارات، ولم تستخدم حق النقض «الفيتو» كما فعلت موسكو.

السير على الحبال.. الحياد الحذر في الأزمة الأوكرانية
بالنسبة لدولة يحتل جيشها المرتبة الثالثة بين قائمة أقوى الجيوش العالمية، بعد كل من الولايات المتحدة وروسيا، وثاني أقوى اقتصاد في العالم، والدولة الأكبر من حيث عدد السكان، فإن الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية، بما تمثله من خطورة غير مسبوقة على النظام العالمي الحالي، وضع بكين في دائرة «اللافعل»، بعد أن اكتفت بالمواقف الدبلوماسية «الخطابية»، وعرض «خجول» للوساطة بين الطرفين لوقف الحرب، فما تفسير هذا الموقف الصيني؟

تعد روسيا حليفًا سياسيًّا واقتصاديًّا للصين، ويعد البلدان «رأسي حربة» في مواجهة الهيمنة الأمريكية على السياسة العالمية، ومن هنا يأتي الموقف الصيني المؤيد «ضمنيًّا» لروسيا، ليس انطلاقًا من تطابق الرؤى في الملف الأوكراني، وإنما من منطق الخصومة المشتركة مع الغرب، فلا يمكن للصين «إلا أن تؤيد أي تحرك روسي يتخذ خطوات من شأنها أن تضعف أو تلهي الغرب»، وفقًا للباحث في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» حسن منيمنة.
تدريبات عسكرية مشتركة بين البحرية الصينية والروسية

هذا الخيط الدقيق، الذي يفصل بين التأييد الصيني للتحرك الروسي من منطلق مواجهة تمدد «الناتو» في شرق أوروبا، وبين اعتبارات بكين الخاصة، وتخوفها من تأثير الحرب سلبًا في مصالحها ومكانتها العالمية، ربما يفسر عدم تبني بكين للخطاب الروسي العدواني تجاه أوكرانيا، فليس هناك حديث صيني عن «النازيين في كييف» ولا عن «انقلاب عام 2014 في أوكرانيا»، ولا عن «نزع سلاح الأوكرانيين»، كما يفعل الروس، فقط دعوات للتهدئة وإلقاء اللوم على الولايات المتحدة والناتو في إشعال فتيل الحرب.

كما أن بكين تنظر إلى الهجوم على أوكرانيا على أنه «عملية عسكرية روسية» صرفة، يدافع بها الجيش الروس عن مصالح موسكو حصرًا، فيما تراود بكين هواجس بشأن عواقب الحرب السلبية المحتملة على مصالحها.

ومن جهة أخرى تؤكد بكين مبدأ «احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها»، وهي بذلك ترفض الخطوة الروسية بتقسيم أوكرانيا، والاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك عن كييف؛ إذ يتخوف المسؤولون الصينيون من أن خطوة مثل هذه قد يجري استغلالها لاحقًا، لترسيخ استقلال تايوان عن «جمهورية الصين الشعبية»، وهو الخط الأحمر الأول بالنسبة للسياسة الخارجية الصينية.

كما تخشى بكين – إذا تورطت بشكل أكبر في دعم روسيا – أن تتحول الأزمة الأوكرانية إلى ذريعة تستهدف بها الولايات المتحدة المصالح الصينية بشكل مباشر، فيضرب بذلك الأمريكيون عصفورين بحجر واحد، ولذلك يحرص الصينيون على تبني موقف «الحياد الحذر»، وتحاول بكين أن تظهر بمظهر من يمسك العصا من المنتصف، خاصة أن أوكرانيا لا تمثل أهمية خاصة للأمن القومي الصيني، الذي تركز محاوره بشكل أساسي على مسألة استقلال تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وجمهوريات آسيا الوسطى.

الاقتصاد الصيني في «موقف لا يُحسد عليه»
الحذر الصيني من اتخاذ موقف حدي في الأزمة، خوفًا من تلك الاعتبارات السياسية، تمتد كذلك إلى الجانب الاقتصادي؛ إذ سيؤدي الانحياز إلى أحد الجانبين إلى تكبيد الاقتصاد الصيني خسائر محققة، كما أن الحرب في أوكرانيا، لا تخدم بكين من الناحية الإستراتيجية، فهذا المناخ المضطرب سيعرقل تمددها الاقتصادي في العالم، كما أن ارتفاع أسعار الطاقة سيزيد من قيمة الواردات الصينية وسيقلص من صادراتها، وهو ما لا يخدم سياسة بكين في الأسواق العالمية.

ومن ناحية تعد بكين أكبر شريك اقتصادي لموسكو؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 140 مليار دولار عام 2021، وتمثل بكين المنفذ الأهم بالنسبة لروسيا في الصمود أمام العقوبات الغربية، إذ تستورد بكين النفط والغاز والسلاح، والقمح والشعير من روسيا، بينما تصدر لها كل شيء آخر تقريبًا.

كما يمكن لروسيا أن تستخدم نظام الدفع الصيني «يونيون باي»، بديلًا عن «ماستر كارد» و«فيزا كارد»، بالإضافة إلى استخدام نظام الدفع بين البنوك «CIPS»، بديلًا عن نظام «سويفت» العالمي الذي حُظرت منه العديد من البنوك الروسية، وإن كانت تلك الأنظمة البديلة كلها أقل فعالية وكفاءة.

صحيح أنه ليس من مصلحة بكين أن ينهار الاقتصاد الروسي؛ لأن واشنطن حينها ستلتفت إلى تركيز جهودها لإضعاف الاقتصاد الصيني الصاعد بقوة، إلا أن بكين كذلك لن تخسر الغرب اقتصاديًّا؛ فبكين هي الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين خلال عام 2021 نحو 586 مليار دولار، كما أنها الشريك الاقتصادي الأبرز لأوكرانيا؛ إذ ارتفع حجم التبادل بين الجانبين إلى مستوى قياسي هذا العام لينمو بنسبة 32%.

كما تجد الشركات والاستثمارات الصينية نفسها في موقف صعب، فهي من ناحية تسعى إلى الحفاظ على سمعة طيبة في الأسواق الدولية، وتخشى إن ساعدت روسيا على امتصاص تأثير العقوبات الغربية على مكانتها في المنصات العالمية، لكنها في المقابل تواجه ضغوطًا شعبية، وربما من داخل الحزب الشيوعي الحاكم، تطالبها باستمرار التعاون مع الروس، وعدم الانسياق للتحركات الغربية، وهو ما يفسر تذبذب شركات صينية كبرى مثل «ديدي» و«لينوفو»، والتي أقدمت في البداية على سحب استثماراتها من السوق الروسية، قبل أن تعود وتؤكد استكمال نشاطها هناك تحت الضغط.

لأجل الاعتبارات المذكورة كلها، سياسيًّا واقتصاديًّا، تجد بكين نفسها محشورة في الزاوية، ويفضل المسؤولون فيها اتخاذ موقف الحياد، والدعوة لإنهاء الحرب بأسرع وقت، لكن بصيغة تضمن ألا يُعلن الغرب انتصاره، ولا تسمح لروسيا بتقسيم أوكرانيا، عندها فقط، قد تتمكن بكين من تجنب الفخاخ المنصوبة بها في تلك الأزمة العالمية.

المصدر: موقع ساسة بوست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى