مقالات

التعامي الجمعي عن خطايا التاريخ

د. مصعب عزاوي

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

هناك فعلاً ازدياد في مستوى الوعي الجمعي بخطايا تاريخ الاستعمار الاستيطاني على المستوى الثقافي والأكاديمي في مجتمعات دول الشمال الصناعية الثرية، ولكنه يبقى عموماً متواضعاً ومحدوداً في مستوى عمق تجذره الاجتماعي بحيث يصبح جزءاً من المعرفة العامة في تلك المجتمعات وذلك لمجموعة أسباب متعددة ومتداخلة فيما بينها. وقد يكون على رأس قائمة تلك الأسباب ذلك الجهد المنظم الذي مارسته الدول الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية أساساً لتوطيد مفاعيل دولة الرفاه، والتي كانت في جوهرها تكيفاً مع حضور المشروع السوفييتي بقوة في الساحة العالمية، بعد انتصاره على الآلة الشمشونية لألمانيا النازية التي كادت أن تحتل  وتدمر كل القارة الأوربية، وهو ما عنى حضوراً قوياً في الوعي الجمعي لمواطني الدول الغربية لشكل الخدمات الذي كان يقدمها نظام «الاشتراكية القائمة بالفعل» في الاتحاد السوفيتي لمواطنيه وخاصة تلك المتعلقة بالرعاية الصحية الشاملة والمجانية، والتعليم المجاني، والإسكان شبه المجاني، وهي السياقات الخدمية التي تم استنساخها في الدول الصناعية المتقدمة في أوربا الغربية وكندا و اليابان والولايات المتحدة، و إن كان بدرجة أقل في تلك الأخيرة، عبر توطين نمط من الرعاية الصحية والضمان الصحي الوطني لرعاية الغالبية العظمى من مواطني تلك الدول بشكل مجاني، ونمط من التعليم المجاني في مراحل التعليم الأساسي وحتى الجامعي في بعض تلك الدول، ونموذج من المعونات الاجتماعية للطبقات المستضعفة والمفقرة في المجتمعات الغربية وذلك كله لأجل تجنب تغلغل الأفكار الثورية الجذرية في تلافيفها، والتي كان الاحتمال الأكثر رجحاناً لتمظهرها بشكل عياني مشخص هو اتخاذها نمطاً يرى في نهج «الاشتراكية القائمة بالفعل» هدفاً لا بد من السعي لتحقيقه. ولا بد من الاعتراف بأن ذلك النهج في تبني مرتكزات دولة الرفاه في مجتمعات دول الشمال الغني ساهم بالتوازي مع الجهود المنظمة لتهشيم القوى النقابية والاتحادات العمالية في تلك الدول في التأسيس للتراجع المضطرد لكل الاحتمالات الثورية في حدود حياضها الجغرافية، إذ أن الرهط الأعظم من الشرائح الاجتماعية المفقرة المستضعفة فيها و خاصة من عديد الطبقة العاملة تم تسكين معاناتها عبر مفاعيل دولة الرفاه مما حولها بالتدريج إلى نموذج من الطبقات الوسطى المختلفة عن كينونتها الطبقية و الفكرية السالفة عبر روافع دولة الرفاه نفسها، وهو ما أفضى بشكل عفوي لنمط تلفيقي من الوعي الجمعي الاستكاني والمتعامي عن الآلية التي حصلت بها دولهم على تلك الثروات التي يتم رشرشتها هنا وهناك كجزء من التزامات دولة الرفاه، أو عن الكيفية التي سوف يتم بها استدامة تدفق تلك الثروات في المستقبل، خاصة في مرحلة استقلال دول المستعمرات عقب الحرب العالمية الثانية، والذي قامت الدول الاستعمارية في سياقه باستبدال نمط الاستعمار القديم بقوة الحديد و النار بنموذج جديد من الاستعمار لا يتضمن الجزء الاستيطاني في تكوينه البنيوي، إذ أنه يقوم على كاهل النواطير من المستبدين المفوضين بحفظ وتسيير مصالح نفس المستعمرين القدماء، وضمان حصولهم من نفس المجتمعات المستعمرة سالفاً على المواد الأولية التي تحتاجها معامل المستعمرين الاستيطانيين السالفين بشكل شبه مجاني، و استحواذ أولئك الأخيرين على ما يحتاجونه من قوة عمل رخيصة أو شبه مجانية من المجتمعات المستقلة حديثاً بشكل لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان قائماً في حقبة الاستعمار الاستيطاني، بالتوازي مع استدامة انفتاح اقتصادات الدول المستحدثة عقب استقلالها عن مستعمريها بشكل لا لجام عليه لتصريف نتاج مستعمريها القدماء في أسواقها المحلية دون رقيب أو حسيب وطني يسعى لدعم صناعته المحلية بهدف تصنيع منتجات بديلة لتلك المستوردة من مجتمعات المستعمرين القدماء الجدد، و ذلك كجزء عضوي من ترتيبات السماح باستقلال دول المستعمرات وتحولها إلى دول مستقلة شكلياً في النصف الثاني من القرن العشرين. وجماع ذلك كله كان لا بد أن يفضي لتشكل وعي شقي زائف في المجتمعات الصناعية المتقدمة فيما يتعلق بممارسات الاستعمار القديم والمستحدث ممثلاً بسيرورة العلاقات التاريخية بين مجتمعات الأغنياء والمجتمعات المنهوبة المفقرة، ناظمه الأساسي التعامي عن مصدر مراكمة الثروات في مجتمعات الأغنياء تاريخياً وراهناً، إذ أن الالتحام والاشتباك مع هذا الموضوع سواء قليلاً أو كثيراً لا بد أن ينزع شرعية تلك الثروات و الخدمات التي يتنعم بها مواطنو الدول الصناعية المتقدمة أثرياء أو مفقرين مسنودين بمفاعيل دولة الرفاه، و هو أدى لانحشار الحديث والبحث في مصادر الثروة في المجتمعات الغربية وكيفية تراكمها فيها تاريخياً وراهناً في أروقة أكاديمية وبحثية لم تجد طريقاً فعلياً لأن تصبح مؤثرة بأي شكل كان في حركية دول مجتمعات دول الشمال الغني ووعي و ذهنية مواطنيها. 

ومن الأسباب الأخرى المهمة التي ساهمت في توطد التوصيف الأخير حالة العطب العضوي والهشاشة في الجهود البحثية في مجتمعات المستعمرات لتوصيف مفاعيل الاستعمار الاستيطاني التاريخية، وتفكيك آليات الاستعمار الحديث، وتلاقي تلك الجهود فيما بينها بشكل يسهم في رسم صورة أكثر وضوحاً لآلية عمل الاستعمار القديم والجديد في نهب وإفقار مجتمعات المستضعفين. وهو واقع مؤوف لا يستقيم تعليق وزره على شماعة الأكاديميين المتكاسلين والقادرين ظنياً على البحث العلمي في المجتمعات المفقرة في دول الجنوب المنهوب نظراً للواقع البائس الذي يعيشه جلهم، وهم يكابدون مفاعيل استبداد الطغم الحاكمة المفوضة بتسيير مصالح المستعمرين القدماء، بالإضافة إلى واقع هشاشة مجتمعاتهم والتي قد تكون المهمة الأكثر إلحاحية فيها على أي مظلوم قدر له أن يعيش فيها هو محاولة البقاء على قيد الحياة وعدم الفناء جوعاً أو فرماً بآلات و أدوات الاستبداد الوحشية النهبوية المتغولة على تلك المجتمعات و حيوات من يعيش فيها عمقاً و سطحاً و عمودياً و أفقياً. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى