كتاب “ناجٍ من المقصلة” وحشية السجان وإصرار المعتقل على الحياة

قبل الدخول في غمار هذا الكتاب الشيق لانبالغ إذا قلنا إن السوريين أبدعوا أكثر من غيرهم فيما اصطلح على تسميته حديثاً بـ”أدب السجون” وهو الأدب الذي يروي ويوثق الانتهاكات والأعمال الوحشية لنظام الأسدين بحق السجناء والمعتقلين على مدار خمس عقود من تاريخ سوريا، والكتاب الذي بين أيدينا اليوم ليس استثناءً من هذه الكتب التي ستبقى مرجعاً مهماً وشاهداً على كل ما قام به هذا النظام من إجرام.
“ناجٍ من المقصلة” كتاب يتحدث فيه الكاتب السوري محمد برو عن تجربته التي بدأها في سن مبكرة في سجن تدمر، إذ دخل السجن وعمره 13 عاماً بتهمة الانتماء إلى جماعة الأخوان المسلمين، ولتستمر معاناته 13 عاماً قضى 9 أعوام منها في سجن تدمر.
يبتعد الكاتب في سرده للأحداث والوقائع اليومية في جحيم تدمر عن التكاليف البيانية والاستعارات اللغوية، ويقدم مادته بلغة سهلة واضحة يفهمها الجميع، وكأن الكاتب أراد بذلك أن ينقل معاناة وعذابات السجناء الذين عاشوا أبشع ما عرفته البشرية من عذاب إلى كل طبقات المجتمع، باختلاف ثقافاتهم واتجهاتهم.
يصور لنا الكاتب أحداثاً لايمكن لعقل بشري أن يصدقها، تبدأ من اللحظة الأولى لدخول السجن: “حفل الاستقبال كان تعذيبًا مهولًا، بالسياط، والكرابيج، والجنازير، يضرب القادمون حتى يغمى عليهم، فيوقظون بصب الماء الآسن الذي يعيدهم لوعيهم، كي يذوقوا العذاب من جديد ريثما يغشى عليهم ثانيةً”، بعد ذلك ينتقل بنا الكاتب إلى وصف الحياة اليومية للسجناء، وما يكتنفها من طرق تعذيب وإجرام في الأكل والنوم والحمام، حيث يقول: “كان الطعام يأتي ثلاث مرات في اليوم، ويأتي معه الجلادون ليتباروا في ما بينهم أيهم أبدع ابتكاراً في إذلالنا، فيدخل أحدهم جزمته العسكرية المليئة بالأوساخ ومخلفات الحيوانات التي يتعمد وطأها في أوعية الطعام المخصصة لنا، ونقوم بإدخال الطعام بين ركل وضرب بالكرابيج وهم يضحكون بطريقة هستيرية”، يترافق التعذيب مع كل حركة في السجن، حتى في الحمام: “لنا يوم كل أسبوع نخرج فيه إلى الحمام للاغتسال، وعند فتح الباب، نخرج في رتل أحادي، يمسك كل واحد بكتف سابقه، ويتلقّم الأول بفمه طرف الكرباح الأسود الذي يمسكه الجلاد، وتحف بنا مجموعة مستذئبة من الجلادين الذين يستمرون بضربنا، ونحن نجري في خط ملتو من وطأة الجلد المنهمر والضرب المستمر على أجسادنا العارية”.
يصعب على غير السوريين تصديق ما يرويه الكاتب من أعمال وحشية وطرق تعذيب لايمكن أن تخطر على بال إنسان، لدرجة أن من يغوص في أحداث الكتاب يجزم أن من يقوم بتعذيب السجناء وقتلهم والتمثيل بجثثهم ليسوا بشرأ، وهذا ما أوضح لنا الكاتب عندما تحدث عن طريقة “تدجين” العسكري منذ اليوم الأول لعمله في السجن؛ إذ يستمر ذلك فترة من الزمن حتى ينتزعوا كل شيء يمد إلى الإنسانية فيه، وهذا ما تم فعلاً عندما انهال 20 عنصراً بالضرب بالهروات والحجارة على أحد السجناء لأنه اعترض على تنفيذ أمر ما، إذ استمروا بضربه حتى تحول إلى “كومة لحم” على حد وصف الكاتب. وهذا الأمر كان يتكرر كل فترة؛ لقطع كل سبيل للرحمة أو الشفقة التي ربما كان ينتظرها السجناء.
يصور لنا الكاتب كيف يتم التلاعب بمشاعر البشر والاستهتار بإنسانيتهم، من ذلك مارواه عن الرجل السبعيني الذي أصر عليه القاضي أن يختار إعدام أحد ولديه المعتقلين معه، وعندما رفض هدده القاضي بإعدام الاثنين معاً، عندها يتوسل هذا الرجل أن يُعدم هو، ولكن يصر عليه القاضي أن يختار أحد ولديه، وعندها يضر لأن يغمض عينيه ويختار أحدهما ليفاجأ بعد مدة أنه تم إعدام الاثنين معاً، وليلحق بهما بعد أسبوع واحد لما عاناه من حزن وكمد عليهما.
ما يلفت النظر في الشخصيات التي يحدثنا الكاتب عنها أنها كلها من أصحاب الكفاءات العلمية والشهادات الجامعية في مختلف الاختصاصات، فمن الطب إلى الهندسة إلى الحقوق والشريعة إلى باقي الاختصاصات العلمية، وكأن النظام أراد باعتقالهم ومن ثم قتلهم القضاء على كل فكر حر متنور، وقد يكون هذا الوسط المتعلم وما يدور فيه من نقاشات هو ما خفف على السجناء شيئاً من الجحيم الذي كان يعيشونه في السجن. ويضيف الكاتب أنه مما كان يخفف عليهم أيضاً هو الشعور الإيماني بوجود عدالة في السماء كفيلة بأخذ حقهم من هؤلاء المجرمون، وكفيلة أيضاً بتعويضهم عن هذه السنوات المريرة، وقد يكون هذا السبب في جعل الموت حلماً مشتركاً لكل السجناء، حلمٌ دفع بالكاتب للتفكير بالانتحار مراراً في الأيام الأولى لدخوله جحيم تدمر، حلمٌ جعل السجناء يحسدون بعضهم عندما يتم الحكم على أحدهم بالإعدام.
هذا الكتاب لايقدم تجربة شخصية كُتبت بطريقة أدبية جميلة فقط، بل يشكل أيضاً وثيقة تاريخية، تتحدث عن أشد المراحل الزمنية والسياسية قساوة في تاريخ سوريا الحديث، مرحلة عمل النظام فيها على سحق كل الأصوات المعارضة، مرحلة خسرت فيها سوريا الآلاف من العقول النيرة، والخبرات العظيمة، التي حلمت يوماً أن تعيش بعيدةً عن مقصلة الموت الأسدي.