مقالات

في ذكرى الثورة، “نساء بلادي، أنتنّ الثورة”

فيصل عكلة

صحفي سوري
عرض مقالات الكاتب

لم تقف المرأة السورية على الحياد أو خلف الأبواب، بل وقفت ومنذ اليوم الأول لإنطلاق ثورة الحرية والكرامة إلى جانب ابنها وأخيها وزوجها، تشدّ من عضدهم وترفع من عزيمتهم في مواجهة الطغاة والمجرمين.

اندفعت كالسيل الهادر بين عشرات الألوف من أبناء بلادها تطالب معهم بأبسط حقوق البشر، تحمل اللافتات التي تدعو إلى إعطاء أهل الشمال السوري المنسي من قبل الفئة الطائفية الحاكمة بعض حقوقهم، ومنهن من وقفت في جانبي الطريق الذي تعبره المظاهرات تسقي الماء وتنثر الرز والرياحين فوق رؤوس المتظاهرين، ومنهنّ من فرشت بسطة العجور والخيار تقدّمه كضيافة لمن يخاطر بروحه في طريقه إلى المظاهرة المركزية في معرة النعمان!

أم حسن تلك المرأة الستينية والتي فقدت زوجها في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي في زنازين الطغاة بعد أن ترك لها ثمانية أطفال كزغب القطا، وعاشت سنوات طويلة من الفقر والقهر والحرمان في طريق تربية صغارها، تتوجه في كل صباح نحو الجبل تنحت من بين الصخور (القرقيشة والسلبين والخبيز) وتبيعه لتشتري لأبنائها رغيف الخبز وتؤمن أبسط احتياجاتهم رغم مرض السكر اللعين الذي داهمها مبكرًا، ورغم المرارة التي كانت تلازمها عندما ترى أقرب أقربائها يتحاشى الحديث معها أو زيارتها خوفًا من عيون المخبرين وبطش النظام، وفي اليوم الأول من انطلاق المظاهرات وجدت “أم حسن” الفرصة السانحة للتعبير عما تكنّه في صدرها من حقد على هذا النظام الذي قتل زوجها ولتشارك في المظاهرات، وتنادي بأعلى صوتها على من يقف جانبي الطريق مترددا الانضمام للمظاهرة وتصيح على فلان وفلان بأسمائهم الصريحة الذين يقفون خائفين مرتعبين ينظرون إلى الجموع الهادرة وعيونهم لا تكاد تصدق ما تراه!

وبعد دخول جيش النظام إلى المنطقة ونشر حواجزه على مداخل البلدات ومفارقها الرئيسية، تذلّ وتعتقل العابرين، لجأت أم عمار مع عدد من جاراتها التي تثق بهن إلى صنع الطعام وإرساله ساخنًا إلى الثوار في مخابئهم الجبلية، وكانت تمرّ أم حسن على حواجز النظام وتطالب العناصر بالإنشقاق والانضمام للثورة، وتقول لهم:
“ألا تسمعون الأخبار.. أم أنهم عملوا لكم غسيل دماغ، لقد قتلوا أهلكم في درعا وحمص ودير الزور وو.. ؟
كيف تحمون من قتل أهلكم؟.. اتركوه وعودوا إلى بيوتكم.

أما “أم عبد الله” فقد كانت تسكن جوار أحد حواجز النظام المتمركز في أحد الساحات الرئيسية في البلدة، وكانت تغتنم فرصة تقديمها الشاي لهم لتحثهم على الإنشقاق، وتستغل غياب الضباط لتحدثهم عن جرائم القوى الأمنية التي يُخفونها عنهم، واستمالت أحدهم وأقنعته أنها ستصنع لهم صينية (نمورة) وتضع فيها المُنَوّم لينام الضباط وعناصر القنص، وليفسح المجال لمن يرغب بالهروب وفعلاً هرب عدد من عناصر الحاجز.

“أم حسين” امرأة خمسينية ديدنها المشاركة في المظاهرات، وفي إحدى تلك المظاهرات داهمت دبابة لقوات النظام المتظاهرين، فما كان من أم حسين إلا أن تقف في وجه الدبابة رافعة يديها ومقسمة أنهم لن يمروا إلا على جثتها، حاول سائق الدبابة تجنبها، لكنها عادت لتقف قبالة الدبابة وتمنعها من الاقتراب نحو المظاهرة، وعادت الدبابة إلى الحاجز ولم تكن يومها قوات النظام قد أوغلت في القتل والإجرام كما فعلت بعد السنة الأولى من انطلاق الثورة.

“والحاجة عيوش” عجوز مُقعدة تجاوزت التسعين من عمرها، لها قصة عجيبة أيضا، فقد لاحق عناصر النظام المتظاهرين الذين دخلوا في أزقة البلدة وبيوتها، لأنه من المعتاد أن تفتح أبواب المنازل في وقت المظاهرات لإفساح المجال أمام المتظاهرين بالتخفي عن أعين الجيش، ولاحظ العناصر دخول أحد المتظاهرين منزل الحاجة عيوش ودخلوا خلفه للقبض عليه، وفتشوا كل أرجاء المنزل وألقوا الفُرش على الأرض، وصعدوا السطح وتأكدوا من خزان الماء، وعادوا إلى الحجة طالبين منها الوقوف لتفتيش الفراش الذي تنام فيه ولكنها أخبرتهم أنها تعجز عن الوقوف والدليل العكازان المجاوران لها ليخرج الجنود خائبين ويسلم حفيدها الثائر الذي خبأته بين اللحاف و ثنايا قلبها وحَمتُه برمش عينيها!

أما “أم موسى” فقد نادت على ابنتها ذات صباح:
يا ابنتي، املئي لي ( القادوس) بالماء البارد لأصبّه على جسمي، أشعر أن النار تكاد تشتعل في صدري!

لحظات قليلة وهي في الحمام تسمع مئذنة الجامع الكبير تذيع عددًا من أسماء الشهداء الذين ارتقوا لتوّهم في ساحات العز والكرامة ومن بينهم ابنها موسى، وتردّ على ابنتها التي راحت تنادي على أمها أن أخيها موسى بين الأسماء وتقول لها بلى يا ابنتي، المؤمن خاطره دليله!.

ونختم حديثنا عن المرأة السورية بأم محمود،، التي جلست ذات صباح عند رأس ابنها المسجّى في صحن الدار وهو شهيدها الثالث، وراحت تمسح قطرات الدم المنتثرة فوق جبينه بخرقة بيضاء مزركشة كانت تخبئها في جيبها، وهي تنهر النسوة اللواتي تجمعن حول الشهيد وهن ينتحبن، وقالت لهن:
“إن لم يستشهد ابني وابنك ،فمن سيردّ عن أرضنا هؤلاء المجرمين!”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى