تحقيقات

رغم مئات المنظمات الإغاثية.. التسول يستشري في الشمال السوري

فيصل عكلة

صحفي سوري
عرض مقالات الكاتب
   

تحت المطر يتنقّل أحمد ابن العشر سنوات بين السيارات ويمسك بيده قطعة قماشية يمررها على الزجاج الأمامي ثم يتحوّل نحو باب السائق طالبا النقود، وعندما سألته عن سبب اختياره لهذا العمل قال:
بعد نزوحنا منذ أربع سنوات لم أرجع للمدرسة، وأبي مريض وأخوتي صغار وليس لنا مدخول سوى السلة الشهرية ولا تكفينا، لذلك أعمل بتنظيف السيارات في المواقف والساحات العامة ومناطق الازدحام.


خلال جولتنا في متابعة ظاهرة التسول رأينا أيضا في سوق سرمدا وعلى درجات أحد مكاتب الصرافة جلست امراة خمسينية ومعها طفل صغير تستجدي من الزبائن بعض المال، وسط موجة من الدعوات وأنها ستشتري الخبز لأبنائها الأيتام!
ظاهرة التسول ارتفعت حدتها وغزت الأسواق والمساجد وانتقلت مؤخرا لتدخل البيوت، والبعض من المتسولين يُظهر العاهة التي يعانيها لاستدرار عطف الناس، كما يقوم البعض الآخر بتقديم بعض الخدمات مثل تقديم القهوة المرة أومسح السيارات، أو عرض بعض البضاعة للبيع مثل المحارم أو العلكة أوالشوكولا، ومنهم من يطالب بإلحاح وذلك بقصد إحراج الشخص أمام عائلته أوأصدقائه.

القانون السوري منع ظاهرة التسول حسب المحامي “محمد شرف الدين”، الذي سألناه عن موقف القانون منها فقال:
التسول ممنوع في القانون لأنه ظاهرة سيئة وينبغي تأمين العمل للقادرين عليه ومساعدة العجزة، وكان يتم توقيف المتسولين وعرضهم على القاضي ليأخذ منهم تعهد، وقد يُكتفى بأخذ تصريح منهم في المخفر.
الكثير من المنظمات والجمعيات الخيرية المنتشرة في الشمال السوري عجزت عن الحد من هذه الظاهرة رغم تقديمها للإغاثات وبشكل منتظم لأغلب المهجرين، التقى موقع “الرسالة بوست” مع الباحث والعامل في الشأن الإغاثي الأستاذ “سعد الدين اليحيى” وسألناه بداية عن سبب هذا العجز في الحد من ظاهرة التسول فأجاب:
هذه الأمور تعجز عنها دول وحكومات في حال استقرار بلدانهم فما بالك بحالة الحروب و كثرة النزاعات وطول مدة التهجير وكثرة الفقر والغلاء وتحكم بعض التجار و الإحتكار وكثرة عدد المصابين من الحرب والمرضى مع كثرة أنواع البلاء و الوباء الذي حلّ بكثير من الناس، كل هذه الأسباب جعلت المنظمات تقف عاجزة عن تلبية متطلبات كل هؤلاء، لذلك ينبغي على كل الجمعيات والمؤسسات والحكومات أن تسدد وأن تقارب ما استطاعت حتى تقضي على هذه الظاهرة، وأيضا من طرق المعالجة التي جربتها بعض المنظمات أو البلدات تقديم المساعدات للأُسر الفقيرة لدعم مشاريع انتاجية صغيرة، زراعية أو صناعية بحيث يعملون ويأكلون ويستغنون عن ذل السؤال.
و أضاف الأستاذ اليحيى، أن ظاهرة التسول من الظواهر التي نهى عنها الاسلام الكريم وهي من الظواهر التي تفرزها الحروب وتزيد من توسعها الضرورة والحاجة، بسبب الحرب وطول مدة التهجير وغلاء الأسعار وكثرة المحتاجين والجشع عند بعض الناس، تضطرهم الظروف إلى مد يدهم وإلى الناس وإلى التسول على أبواب المساجد وعلى أطراف الطرقات، وللتخفيف من التسول ينبغي إحياء الوازع الديني عند بعض الناس لأن الرزق لا يأتي بسؤال الناس والمذلة لهم، إنما هو قَسم مقسوم من الله سبحانه وتعالى قسمه لعباده، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلم أصحابه فقال: والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خيرٌ له من ان يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه. وهذا في الصحيح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريص أشد الحرص على تربية المؤمنين على العفة و الاستغناء عن الخلق والجدية والسعي وبذل المجهود لكسب الرزق الحلال، وفي قسم النبي صلى الله عليه وسلم حيث (أقسم بالله سبحانه وتعالى الذي روحه بيده يصرفها كيف يشاء)، وهذا من القسم القليل الذي كان يحلف به النبي صلى الله عليه وسلم، انّ العمل مهما كان نوعه فهو أفضل من سؤال الناس وإراقة ماء الوجه لهم.

و لم يقتصر الأمر على كبار السنّ والعجزة بل تعدى ذلك إلى الأطفال الذين تركوا مقاعد دراستهم و تاهوا في الشوارع في مشهد ينذر بمستقبل مجهول لشريحة واسعة من جيل المستقبل.


لم تقتصر ظاهرة التسول على المدينة والريف بل تعدت ذلك لتصل إلى مخيمات النزوح التي تحتاج إلى من يمدّ لهم يد المساعدة ،وفي حال اعتذار سكان الخيم عن تلبية طلبات المتسولين قد يتعرضون لبعض الشتائم و السباب.


ليس الفقر وحده من يسبب هذه الظاهرة، بل الجشع والطمع واستسهال الأمر نسبة إلى أي عمل آخر، والعلاج هل يكون في المطاردة والتوقيف والعقوبات أم أن هناك وسائل أخرى ، ذلك السؤال الذي طرحه مراسل “رسالة بوست” على الأستاذ “فاضل النايف” مدرس الشريعة في ثانويات إدلب، فأجاب:
” الأصل في التسوّل هو الحرمة إلا في ثلاثة أصناف بينها النبي صلى الله عليه وسلم يحق لهم المسألة، وأول هذه الأصناف رجل تحمل حمّالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من العيش، ورجل أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، وما سواهم تصبح المسألة سحتاً، والحديث رواه مسلم.


إذًا ليس الفقر وحده من يغذي هذه الظاهرة، بل الجشع والطمع في بعض الأحيان، واستسهال الأمر مقارنة مع أي عمل آخر، و العلاج حسب رأي الخبراء لا يكون في المطاردة والتوقيف والعقوبات، بل يجب فرض حل جذري لهذه المشكلة، وذلك عن طريق مؤسسات اجتماعية تعمل على مساعدة المحتاجين والمعاقين وتضع على جدول أعمالها ليس تقديم الطعام و الملبس فحسب، بل إيجاد فرص عمل لهم لتأمين دخل يغنيهم عن التسول و يؤمن لهم لقمة عيش كريم ،فالمحرر لا ينقصه المزيد من المنغصات.


وأضاف الأستاذ النايف، أن “غير هؤلاء في حال المسألة يأكلون المال بغير حق، وإذا لم يكن المرء يعرف ما إذا كان المتسول ممن تحل له المسألة أم لا فلا بأس من أن يعطيه احتياطا، وإذا لم يجد ما يعطيه فعليه أن يرد عليه ردا حسنا، قال تعالى: “قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم “.


وعن علاج الظاهرة في الدين الإسلامي، بيّنها لنا الشيخ فاضل بقوله:
” في الاسلام هناك نظام اجتماعي متكامل لعلاج الظاهرة، قائم على التكافل الإجتماعي، وأبرز مظاهره الزكاة الواجبة على الغني وتُمنح للفقير وبذلك نُخفف من الفقر، وهناك رديف لها وهي الصدقات التطوعية وبذلك يُقضى على الفقر المُسبب للتسول، ويبقى من يتخذ التسول مهنة فيحق للحاكم تعذيره، إذ ليس في الشريعة عقوبة محددة له، والتعذير قد يكون بالتوبيخ أو الجَلد أوالسجن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى