بحوث ودراسات

الحرب الأوكرانية تنذر بانهيار سياسة “الوضع القائم” في سوريا

المرصد الاستراتيجي

طبول الحرب كانت تُقرع من حميميم

في مطلع عام 2021؛ كانت الأجواء محمومة في الكرملين؛ حيث انخرط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع الترتيبات لمغامرة عسكرية جديدة، وجرت أبرز عمليات التحضير في سوريا، حيث كانت الأعمال جارية على قدم وساق لتوسيع قاعدة “حميميم” الجوية، وتضمنت؛ إعادة بناء المدرج لاستقبال طائرات إستراتيجية بعيدة المدى قادرة على حمل أسلحة نووية، وذلك بهدف مد النفوذ العسكري الروسي ليشمل البحر الأبيض المتوسط بأكمله، عقب انتزاع موافقة من دمشق بتوفير مساحة إضافية للقاعدة وفق اتفاقية تم إبرامها في 21 يوليو 2020، وتتضمن إنشاء منطقة نفوذ برية وبحرية للقوات الروسية بالقرب من محافظة اللاذقية تصل قواتها في “حميميم” بالرصيف البحري في ميناء طرطوس الذي استقبل عدة قطعات بحرية “خفية”، لدعم سلاح البحرية الروسي شرقي المتوسط، فيما عبرت السفينة “ديمتري روغاتشيف” مضيق البوسفور والدردنيل لتصل إلى ميناء طرطوس، للقيام بمهام: “وحدة التشغيل الدائمة للأسطول الروسي”.

وتمثل الهدف الرئيس لعملية التوسعة في تمكين القاعدة من استيعاب قاذفات إستراتيجية، ذات قدرات نووية من طراز (Tu-22M3M)، وصلت ثلاث منها بالفعل، بالإضافة إلى استضافة طائرات الدوريات البحرية طويلة المدى من طراز (124 TU)، للقيام بطلعات جوية فوق البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يشكل تحدياً جديداً لحلف شمال الأطلسي “ناتو”، خاصة بعد أن أجرت القوات الروسية في سوريا عدداً من المناورات العسكرية لمحاكاة هجوم من البحر الأبيض المتوسط، استهدف خلالها عناصر الجيش الروسي أهدافاً معادية قادمة من البحر.

وتمثل التطور الأبرز في مصادقة بوتين (يوليو 2021) على النسخة المعدلة لإستراتيجية الأمن القومي الروسي، ودخولها حيز التنفيذ، بعد إجراء تعديلات واسعة على الاستراتيجية السابقة التي تم تبنيها في عام 2015، وكان لوضع القوات الروسية في سوريا جزء أساسي من الخطة، حيث أكد مصدر عسكري روسي (يناير 2022) أن العمليات الروسية في سوريا منحت نحو 90 بالمئة من الطيارين العسكريين الروس تجربة قتالية حية، حيث تجاوز معدل الطلعات التي نفذها كل طيار عسكري روسي مائة طلعة، عملت القيادة الروسية من خلالها على اختبار مختلف الطائرات والقذائف والأسلحة والمعدات الجديدة لديها من خلال أكثر من 40 ألف طلعة جوية نفذها سلاح الجو الروسي في سوريا.

كما قامت القيادة الروسية بإرسال عدد من ضباطها في سلاح البر للتدريب على العمليات القتالية في سوريا، حيث اكتسب معظم قادة ورؤساء أركان الوحدات، من مستوى الكتائب حتى الفرق، والجيوش، وقادة القطعات العسكرية، خبرة لا بأس بها في الأراضي السورية، إذ شارك نحو 70 ألف جندي روسي في العمليات العسكرية بسوريا خلال السنوات الستة الماضية. 

وأعلن قائد سلاح الطيران الاستراتيجي الروسي، سيرغي كوبيلاش، أن التجربة السورية، ساعدت في تحديث الخبرة القتالية لدى القاذفات الحربية والاستراتيجية الروسية من طراز (Tu-22M3)، مؤكداً أن: إجراء تدريبات على عمليات القصف بعيدة المدى، بالتنسيق بين المطار الجديد في “حميميم” مع الأسطول الروسي بطرطوس للبحث عن الأجسام البحرية في ظروف حقيقية تغطي البحر المتوسط بأكمله، ما يؤكد أن التدريبات العسكرية كانت تهدف إلى تحضير الضباط الروس لعمليات خارجية واسعة النطاق.

وكانت التقارير تتوالى لقيادة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، حول تحضيرات عسكرية روسية لا تقتصر على “تثبيت شرعية النظام” أو على “محاربة الإرهاب”، بل كانت تُعدّ العدة لتنفيذ أضخم عملية عسكرية لها خارج الأراضي الروسية.

وفي مؤشر على التحضيرات؛ عملت القيادة العسكرية الروسية في شهر يناير الماضي على توسيع نطاق نفوذها البحري شرقي المتوسط، حيث انتشرت وحدات عسكرية روسية بشكل كامل في مرفأ اللاذقية، ورفعت الأعلام الروسية (18 يناير 2022) بعد إزالة حواجز “الفرقة الرابعة” وعناصر “أمن الدولة” المكلفين بحراسة المرفأ، وذلك بالتزامن مع الإعلان عن توقيع اتفاقية تعاون  بين موانئ شبه جزيرة القرم ومرفأ اللاذقية، وتأكيد مندوب شبه جزيرة القرم لدى روسيا، غيورغي مرادوف، إن موانئ القرم يمكن أن تصبح البوابات البحرية الجنوبية الرئيسية، وذلك أثناء زيارة (17 يناير 2022) وفد من حكومة النظام لشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها عام 2014.

دمشق: الاندفاع نحو الهاوية

بينما كانت القوى الدولية تتريث في تقييم مواقفها إزاء الأحداث؛ كان بشار الأسد قد قرر الألقاء بكامل ثقله خلف بوتين، مؤكداً أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو: “تصحيح للتاريخ وإعادة للتوازن إلى العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”، ومعترفاً بما أسماه: “سيادة دونيتسك ولوغانسك”.

في هذه الأثناء؛ كانت طائرات عسكرية روسية، من طراز (MIG 31K) الحاملة لصواريخ فرط صوتية، وقاذفات (TU 22M) تتوافد على قاعدة “حميميم”، بالتزامن مع إجراء مناورات روسية شرقي البحر المتوسط، ضمت: 140 قطعة بحرية و60 طائرة و15 سفينة، وعشرة آلاف جندي روسي، وذلك في رد على المناورات التي أجراها حلف شمال الأطلسي.

وكانت موسكو قد أعلنت عن إنزال ست سفن إنزال كبيرة من أسطول الشمال وأسطول بحر البلطيق إلى المركز اللوجيستي للبحرية الروسية في طرطوس، فيما أكدت القيادة العسكرية الروسية أن: “طائرات الاستطلاع بدأت على التوازي أنشطتها في رصد مختلف أقسام ومحطات مرفأ اللاذقية بشكل كامل وعلى مدار الساعة، تزامناً مع استمرار القوات الروسية بتسيير دوريات على كامل أقسام المرفأ ومحيطه”.

ونقلت صحيفة “الوطن” التابعة للنظام عن: “مصادر رفيعة المستوى”، قولها إن قاعدة “حميميم” أصبحت: “رأس حربة في الاشتباك بين موسكو وحلف شمال الأطلسي”، فيما أكدت صحيفة “البعث” أن زيارة شويغو إلى حميميم جاءت بعد رفض موسكو عرضاً من واشنطن بمقايضة سوريا مقابل أوكرانيا، مؤكدة أن: “سوريا باتت في عمق الجبهة الأوكرانية، بعد رفض موسكو مقايضة الجبهتين، وأبلغت واشنطن أنها متمسكة بأوكرانيا ومتمسكة بالتحالف مع سوريا والنظام السياسي الذي يقوده الرئيس الأسد”.

ودار الحديث، في مطلع شهر مارس الجاري، عن قيام روسيا بتجنيد مقاتلين “مرتزقة” من سوريا، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، لمساندة قواتها في عملية غزو أوكرانيا، حيث شرع وسطاء محليون في إبرام عقود لصالح قاعدة “حميميم” للعمل لمدة سبعة أشهر للعمل في “حماية المنشآت” بأوكرانيا، وضمت القائمة الأولية أسماء نحو 23 ألفاً من الشبان الذين كانوا قد قاتلوا إلى جانب قوات الحكومة ضمن “جمعية البستان” المنحلة، ومن “قوات الدفاع الوطني”، وغيرهم من عناصر الميلشيات التابعة للنظام.

وبات من الواضح أن بوتين قد جرّ معه بشار الأسد في ذات النفق الذي تورط فيه، حيث ظهرت الآثار المدمرة للعمليات الروسية في أوكرانيا على الوضع الاقتصادي في سوريا، عقب مطالبة رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس شهابي، بـشد الأحزمة على ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا.

وانعكست حماقة اندفاع الأسد، في دعم بوتين، على اقتصاديات نظامه، حيث شهدت أسواق دمشق ارتفاعاً مفاجئاً في أسعار السلع بنسب تتراوح بين 20 و30 بالمئة، مقابل تراجع سعر صرف الليرة السورية من نحو 3600 ليرة للدولار إلى 3700 ليرة، وتدهور عملية التحويلات المالية، بسبب ارتباط المصارف السورية مع البنوك الروسية التي خضع الكثير منها للعقوبات الغربية، بما في ذلك إخراجها من نظام “سويفت”.

وللتعامل مع تبعات الأزمة؛ عقدت حكومة النظام اجتماعاً مع كبار التجار بهدف وضع إستراتيجية لتأمين مستلزمات الأسواق، وفرضت إجراءات تقشفية تتضمن: اعتماد آلية جديدة لتوزيع الخبز في دمشق وريفها، وإعلان “ترشيد الإنفاق العام”، وإصدار قرارات بوقف تصدير قائمة من المواد الأساسية (2 مارس 2022)، والاستمرار في منع تصدير مواد القمح وكافة المنتجات المصنوعة منه.

وجاءت تلك الإجراءات بالتزامن مع الخسائر الكبيرة التي مُني بها الاقتصاد الروسي جراء العقوبات الدولية التي فرضت عليه في الأيام الماضية، حيث اضطر البنك المركزي الروسي لمضاعفة أسعار الفائدة الرئيسية إلى 20 بالمئة، بالتزامن مع إيقاف بورصة موسكو، أكبر سوق للأوراق المالية في روسيا، تداولاتها، ولجوء كبرى شركات التصدير، مثل “غازبروم” و”روسنفت”، إلى بيع 80 بالمئة من إيرادات عملاتها الأجنبية عن طريق شراء الروبل  لدعم سعر العملة.

لكن سوريا تختلف عن روسيا، حيث يعاني نحو 90 بالمئة من سكانها من الفقر، ونحو 12,4 مليون نسمة من انعدام الأمن الغذائي، فيما يفتقر خمسة ملايين إلى المياه العذبة، ويحتاج نحو 14 مليون شخص للمساعدات داخل البلاد، وسيكون من الصعب عليها الصمود في وجه الكارثة الاقتصادية المتوقعة جراء سياسات الأسد الرعناء.

حسابات مختلفة في بكين وطهران

فيما تصبّ القوات الروسية جهدها لإسقاط حكومة كييف، تتزايد معاناة المواطنين الروس من وطأة العقوبات الغربية، ما دفع بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للحديث (2 مارس 2022) بنبرة لا تخلو من التوسل لحلفاء روسيا، قائلاً: “لا يمكن عزل روسيا، لديها الكثير من الأصدقاء”.

إلا أن “الأصدقاء” كانت لديهم حسابات مغايرة، تقوم على ترجيح مصالحهم بالدرجة الأولى، حيث تتبنى بكين رؤية مختلفة لإدارة معركة النفوذ ضد واشنطن، ولا ترى الانصياع لحماقات بوتين بالضرورة. 

فعلى الرغم من امتناع بكين عن التصويت على قرار مجلس الأمن ضد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، إلا أن موقفها كان أقرب إلى “الحياد السلبي” الرافض للاجتياح الروسي، الأمر الذي أكده وزير الخارجية الصيني، وانغ بي (1 مارس 2022)، عندما تحدث عن: “ضرورة احترام وحدة الدول واستقلالها”.

وجاء ذلك التصريح ليؤكد القناعة السائدة، في أروقة القرار ببكين، بعدم وجود مكاسب في تورط الصين في صراع مكلف مع أوروبا التي تتمتع بقدرة شرائية عالية، وتمثل السوق الأهم للصين، فيما لا تزال العلاقة بين روسيا والصين قائمة على الندية والمنافسة، حيث أكد تقرير نشره موقع “إنتلجنس أونلاين” (22 فبراير 2022) أن التجار المرافقين لبوتين في زيارته للصين (4 فبراير) تذمروا من الاستقبال “الفاتر” في بكين، ومن إحجام نظرائهم الصينيين عن إبرام أية عقود ذات قيمة في قطاعي الطاقة والتعدين.

وفيما تعوّل روسيا على الصين للتخفيف من آثار العقوبات؛ لا يبدو أن بكين مستعدة للمجازفة بمساعدة موسكو في الالتفاف على العقوبات، حيث توقع خبير المبادلات الروسية-الصينية، جوسو كاريسفيرتا، أن المصارف الصينية لن تجازف بذلك، خشية التعرض لعقوبات أمريكية تمنعها من الوصول إلى الدولار، خاصة وأن العديد من المصارف الصينية ترفض تمويل مشتريات المواد الأولية في روسيا.

وجاء الموقف الثاني، المخيب، من طهران، عندما اتصل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ببوتين (27 فبراير)، وقال له، إن “الجمهورية الإسلامية” تفضل وتنصح بتوخي الحذر واعتماد الحلول الدبلوماسية، مؤكداً أن: السياسة الخارجية الإيرانية تدعم حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها، وأنها تشدد على: “احترام وحدة الاراضي والسيادة الوطنية لجميع دول العالم”.

ويأتي الموقف الإيراني نتيجة الاعتقاد السائد في طهران أن بوتين حرق مراكب عودته، وأن موسكو لن تكون، بعد اليوم، طرفاً فاعلاً في المفاوضات النووية مع الغرب، خاصة بعد أن دفعتها تطورات المشهد الأوكراني إلى ممارسة دور “الوسيط السلبي”، عبر اتخاذ إجراءات مضادة أو انتقامية إزاء العقوبات الغربية، حيث وصفت طهران خطوة موسكو بطلب ضمانات أمريكية مكتوبة بشأن عدم تضرر تعاونها في الاتفاق النووي بالعقوبات الغربية على روسيا جراء الأزمة في أوكرانيا (3 مارس) بالأمر “غير البناء”، وأكد مسؤول إيراني كبير لوكالة “رويترز” أن روسيا: “بتغيير موقفها في محادثات فيينا، تريد تأمين مصالحها في أماكن أخرى. هذه الخطوة غير بناءة”.

وتحدثت مصاد مطلعة عن شعور بوتين بالخيبة إزاء الموقف الإيراني، خاصة وأن الدبلوماسية الروسية قد قدمت لطهران دعماً كاملاً في مفاوضاتها مع الغرب، كما غض الكرملين طرفه، في الأيام الماضية، عن تنامي الشحنات العسكرية الإيرانية إلى سوريا، وعن تكثيف الحرس الثوري الإيراني شحناته من الأسلحة والذخائر والصواريخ إلى مستودعاته في “السيدة زينب” جنوب دمشق، وسط انتشار واسع لميلشيا “فاطميون” في المنطقة، ولميلشيات أخرى موالية لإيران في الجنوب السوري.

ويبدو أن طهران ترغب في الاستفادة من الفراغ الذي يمكن يتسبب به انشغال روسيا في عملياتها بأوكرانيا، حيث التقى مدير مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، بكل من: الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والأمين العام للمجلس القومي الإيراني، علي شمخاني (27 فبراير)، وناقش معهما: سبل ملء الفراغ في سوريا، وتعزيز التنسيق الأمني، والاستعداد لمؤثرات الحرب الأوكرانية، وإمكانية تقديم مساعدات اقتصادية ونفطية وغذائية إلى سوريا في ظل الأزمة التي تواجهها دمشق. 

وركز لقاء آخر أجراه قائد “الحشد الشعبي” العراقي، فالح الفياض مع بشار الأسد في دمشق (2 مارس) على مناقشة سبل: “التصدي للمخططات الأمريكية شرقي الفرات”، ما يؤكد اهتمام إيران برفع مستوى التنسيق بين ميلشياتها على طرفي الحدود العراقية-السورية، ورغبة إيران في توسيع حضورها في الشمال الغربي. 

وفي ظل تنامي عزلتها؛ يرى بعض المحللين الإيرانيين أنه سيكون من الصعب بقاء روسيا عضواً دائماً في مجلس الأمن، الذي ينظر في نزاعات الدول ويلزمها القبول بقراراته تحت طائلة العقوبات، وهي نفسها دولة معاقبة اقتصادياً ومالياً، بسبب خرق قوانين السيادة الدولية، ما يدفعها لتعزيز مواقعها في سوريا خلال الفترة المقبلة.

توقعات قاتمة في أنقرة

في مقابل التحذيرات الغربية من مخاطر انهيار النظام العالمي الذي تأسس عام 1945؛ ترى دراسات مُعتبرة أن المنظومة العالمية قد فقدت صلاحيتها في الشرق الأوسط منذ نحو خمسة أعوام، حيث تنتهج كل من أنقرة وموسكو نمطاً تشاركياً يهدف إلى إضعاف النفوذ الغربي في مناطق الصراع، كما هو الحال في ليبيا، وكذلك في سوريا، التي أبرم أردوغان فيها صفقة مع نظيره الروسي تتضمن إقرار موسكو بسلسلة نقاط عسكرية تركية تمتد على طول الحدود السورية-التركية للحد من وجود المقاتلين الأكراد. 

وبالإضافة إلى إضعاف الوساطة الأممية في سوريا؛ أسهمت عملية “أستانا” (منذ يناير 2017) في تهميش الدور الغربي لصالح أنقرة وموسكو ، اللتان توصلتا إلى آلية مشتركة مع إيران لإبرام تفاهمات ميدانية لاقتسام مناطق النفوذ. ويمكن تحديد أهم ملامح النظام القائم في العناصر الثلاثة التالية: 

  1. شن المعارك الجزئية بالوكالة
  2. المساومة الدبلوماسية رفيعة المستوى
  3. تجاوز المؤسسات الدولية

وكانت كل من موسكو وأنقرة منخرطتان في  التسويق لنموذج أمني “شبه الإمبراطوري” في سياساتهما الإقليمية، ودعوة كل من الصين وإيران للعمل على بناء نظام إقليمي مغاير يقوم على تعطيل وحدة وسيادة الدول الصغيرة، فيما تُنصّب روسيا نفسها كمنافس إستراتيجي للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة، وتوفر لتركيا طوق النجاة من تدهور علاقاتها المشحونة مع حلفائها في “الناتو”.

إلا أن الغزو الروس لأوكرانيا قد أحدث متغيرات كبيرة في المعادلة الإقليمية، حيث أدى لجوء بوتين إلى شن حرب مفتوحة في أوكرانيا إلى تضعضع المنظومة الروسية-التركية في سوريا، والتي قد تشهد انفلاتاً يغير من معادلة “الوضع القائم” في الفترة المقبلة.

ففي 24 فبراير 2022؛ أصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً، أعربت فيه عن معارضتها للعملية العسكرية الروسية، مؤكدة أن التوغل الروسي في أوكرانيا هو: “أمر غير مقبول”، وداعية روسيا إلى التوقف الفوري عن هذا العمل “الجائر وغير المشروع”، فيما أكد أدروغان أن تركيا: “تحترم وحدة أراضي أوكرانيا، وتعتبر الهجوم الروسي أمراً غير مقبول، وتحترم نضال الشعب الأوكراني”.

وحذرت مصادر تركية من إمكانية تدهور العلاقة بين أنقرة وموسكو، مقابل تقارب تركي أمريكي، ظهرت ملامحه في الأيام الماضية، حيث يستعد حلف شمال الأطلسي لاتخاذ إجراءات “ملموسة” شرقي أوروبا، وذلك من خلال قوة التدخل المحتملة التي تقع قيادتها، حالياً، في تركيا، إذ تستضيف أنقرة “قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية” (VJTF)، التي تأسست عام 2014، كرادع ضد روسيا خلال الأزمة الأوكرانية، والتي تسلمت أنقرة قيادتها من بولندا في العام الماضي.

في هذه الأثناء؛ تُصعّد القوات الروسية قصفها لمواقع قريبة من النقاط التركية شمال غربي سوريا، حيث طال القصف الروسي مواقع بالقرب من الحدود السورية-التركية، فيما قصفت مقاتلات روسية محيط بلدة “البارة” بريف إدلب الجنوبي، وأعقب ذلك القصف حادثة أخرى أصيب فيها ثلاثة عناصر من الجيش التركي جراء قصف مدفعي استهدف نقطة المراقبة التركية في بلدة “كنصفرة” في منطقة جبل الزاوية جنوب إدلب بالتزامن مع تحليق الطائرات الروسية في أجواء المنطقة.

وإذا توسعت دائرة المواجهات في أوكرانيا؛ فإن تركيا ستجد نفسها في مأزق الاختيار بين الانجرار خلف حماقات بوتين أو الوفاء بالتزاماتها في المحافظة على الأمن البحري في مضائقها وفي سائر الدول المطلة على البحر الأسود وفق اتفاقية “مونترو”، علماً بأن أنقرة لا تعترف بضم شبه جزيرة القرم، وتستمر في تزويد الجيش الأوكراني بالمسيرات التركية من طراز “بيرقدار”، حيث نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية تسجيلاً (27 فبراير) لطائرة “بيرقدار” وهي تستهدف رتلاً عسكرياً روسياً، فيما أكد وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف (3 مارس)، استلام شحنة جديدة من طائرات “بيرقدار” التركية، ليزيد من تعقيد العلاقة المتشابكة بين تركيا وروسيا.

تل أبيب: وسيط منحاز لمصالحه

أعلنت حكومة تل أبيب (بعد تلكؤ) أنها ستؤيد مشروع القرار الأميركي في الجمعية العامة للأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، كما قررت الانضمام إلى العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية على 25 مليارديراً روسياً مقربين من بوتين، ومنع طائراتهم من الهبوط في مطار “بن غوريون”، أو السماح ليخوتهم الخاصة بالرسو في الموانئ الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

في هذه الأثناء؛ كانت قيادة الجيش تضغط على الحكومة لاتباع سياسة “الحياد” تجاه الحرب الروسية-الأوكرانية، خشية تأثير ذلك على الأوضاع الأمنية في سوريا، حيث أكد ضابط رفيع أنه: “على الرغم من أن الولايات المتحدة هي الحليف الأكبر لإسرائيل، إلا أن الروس يوجدون عملياً عند الحدود، والحرب مع إيران في الأراضي السورية لم تتوقف”.

لكن الحكومة الإسرائيلية كانت تقوم -خلف الكواليس- بدور طالما مارسته خلال العقد الماضي، والمتمثل في إنشاء قناة تواصل خلفية بين واشنطن وموسكو، حيث أجرى رئيس الوزراء، نفتالي بنيت، اتصالاً مع بوتين، وقام على أثره بإجراء اتصال مع بايدن لنقل رسائل مباشرة من موسكو، ما يؤكد أن تل أبيب ترغب في الاستفادة من الأزمة لممارسة دور الوسيط في حل النزاعات الكبرى في العالم.

وأتبع بنيت تلك الاتصالات بزيارة “مفاجئة” إلى موسكو (5 مارس)، برفقة وزير الإسكان، زئيف إلكين، ومستشار الأمن القومي، أيال حولتا، وتبين أن الزيارة قد تمت بالتنسيق مع مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، جاك سوليفان، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأن الهدف منها كان “عرض وساطة إسرائيلية لحل الأزمة بين موسكو وكييف”، لكن بوتين أصر على موقفه. 

وترغب تل أبيب في الاستفادة من المكتسبات التي حققتها في السنوات الثلاثة الماضية، ومن أبرزها:

– توافق كل من واشنطن وموسكو على تنسيق مواقفهما مع تل أبيب، على مستوى رؤساء الأمن القومي، في الشأن السوري عقب اجتماع مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف خلال لقائه بنظيريه الإسرائيلي والأمريكي في القدس (يونيو 2019).

– رغبة بوتين في فتح خط تواصل دبلوماسي مع واشنطن من خلال تل أبيب، مقابل تعاونه مع الإسرائيليين في احتواء النفوذ الإيراني بسوريا، حيث يعتقد بوتين أن صداقته مع تل أبيب هي حجر الزاوية لإبرام الصفقات مع واشنطن.

وأشار تقرير نشره موقع “إنتلجنس أونلاين” (21 فبراير) إلى أن تل أبيب تمشي على خط دقيق بين القوى المتصارعة لضمان استمرار عملياتها في سوريا، وتجنب فقدان موقعها الإستراتيجي في التنسيق بين موسكو وواشنطن. 

وللتعامل مع تبعات الأزمة؛ دعا بنيت رؤساء أجهزة الاستخبارات لاجتماع يهدف إلى تنسيق مواقفهم بشأن الحرب الأوكرانية، وتم الاتفاق على إيفاد رئيس جهاز الأمن العام “شين بيت”، رونين بار، إلى كييف للتباحث بشأن تنسيق عودة نحو 15,000-20,000 إسرائيلي يقيمون في أوكرانيا، ومناقشة آليات استقبال نحو 200,000 ألف يهودي أوكراني، بالتنسيق مع وزارة “الاندماج” في تل أبيب.

وأكد التقرير أن الجزء الأكبر من الاجتماع تم تخصيصه لمناقشة تأثير الأزمة الأوكرانية على الوضع في سوريا، حيث تواجه تل أبيب معضلة التوفيق بين حلفائها في كييف (ومن خلفهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، وبين موسكو التي تمنح تل أبيب صلاحيات واسعة للتحليق فوق الأجواء السورية عبر مكتب (Tsahal) التابع لجهاز الاستخبارات العسكرية “أمان”، بقيادة آهارون هاليفا.

وفي ظل تراجع موقف موسكو الدبلوماسي، وانشغال القوات الروسية بالعمليات في أوكرانيا، فإن المجتمع الأمني الإسرائيلي يميل إلى ترجيح كفة واشنطن، خشية استحواذ روسيا على المشهد السوري بالتعاون مع تركيا وإيران، الأمر الذي دفع بتل أبيب لتبني قرار تطبيق سائر العقوبات المفروضة ضد روسيا، مدركة أن ذلك سيًضيّق من فرص مناورة موسكو وحلفائها في سوريا، خاصة وأن بشار الأسد قد رمى بثقله خلف الموقف الروسي ضد أوكرانيا، وشرع في التواصل مع طهران لملء الفراغ الذي يمكن أن تتركه القوات الروسية أثناء انشغالها في الحرب الأوكرانية.

وتتوقع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن تترك العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا أثراً مباشراً على أدائها في سوريا، خاصة وأن روسيا قد تعاملت مع سوريا على أنها ساحة تدريب ميداني، ما يعني أن سوريا دخلت، فعلياً، في أتون المعركة ضد أوكرانيا، ما دفع بقواتها لتخطي الخطوط الحمراء عبر استهداف الموانئ السورية، وتسبب بحرائق في ساحة الحاويات بمرفأ اللاذقية، وأثار استياءً كبيراً لدى دمشق وحلفائها. 

ويبدو أن تل أبيب تُعدّ العدة لتصعيد حملتها في سوريا خلال الفترة المقبلة، حيث أكد مصدر عسكري أن الجيش الإسرائيلي يخطط لاستثمار مليار شيكل (324 مليون دولار) كجزء من الاستعداد لعملية عسكرية ضد إيران والفصائل الموالية لها في سوريا ولبنان.

واشنطن: مراهنة على إطالة أمد الصراع

استضافت واشنطن (3 مارس) اجتماعاً ضم المبعوثين للملف السوري في “مجموعة أصدقاء سوريا”، وصدر بيان عن مكتب المبعوث الخاص إلى سوريا، إيثان غولدريتش، عقب الاجتماع، رحب بمنهجية المبعوث الأممي، غير بيدرسون، الجديدة (خطوة مقابل خطوة)، مؤكداً دعم للعملية السياسية، ومطالباً بنتائج ملموسة خلال الجولة السابعة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية والتي ستعقد خلال شهر مارس الجاري.

وبالإضافة إلى رغبة جميع الأطراف في احتواء الأزمة الأوكرانية، وضمان عدم امتدادها إلى دول أخرى، يمكن ملاحظة حرص واشنطن على استمرار سياسة “الوضع القائم” في سوريا قدر المستطاع، وذلك نتيجة لقناعة الإدارة الأمريكية بأن الوضع الحالي يتسبب باستنزاف القوات الروسية في “المستنقع السوري”، وكذلك الحال بالنسبة للقوات الإيرانية التي تئن تحت وطأة الضربات الجوية الإسرائيلية… بضوء أخضر من موسكو. 

ويبدو أن مراهنة واشنطن على عامل الوقت قد انعكست بصورة واضحة على موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث يدور الحديث عن إجراءات اقتصادية ضد روسيا: “قد تؤدي إلى شلل الاقتصاد الروسي لسنوات قادمة”.

وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن حزمة عقوبات ضد روسيا تهدف إلى إضعاف قطاع الدفاع الروسي وقوته العسكرية، فضلاً عن عقوبات أخرى تهدف إلى تكبيل العملة الروسية وقطاع البنوك التجارية وخطوط الطيران، ومنع شركات الطيران الروسية من دخول المجال الجوي الأمريكي، فيما يتم التحضير لحزمة جديدة تشمل فرض قطاع النفط، الذي يمثل الركن الأساسي في الاقتصاد الروسي.

في هذه الأثناء؛ تستمر الولايات المتحدة في تعزيز قواتها شرقي أوروبا، حيث أعلن الناطق باسم الجيش البولندي، الميجور برجنيسلاف ليتشينسكي عن: “نقل التعزيزات الأمريكية إلى بولندا”، مؤكداً أن: “الجزء الأكبر من الكتيبة الأمريكية وقوامها 1700 جندي ستصل قريباً”، فيما حطت طائرة على متنها جنود من الفرقة الأمريكية (82) المحمولة جواً في “يسيونكا”.

أما في سوريا؛ فقد أعلن الجيش الأمريكي نشر المزيد من مركبات “برادلي” القتالية، من طراز (M2A) في مناطق شمال وشرق سورية، الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بهدف تشكيل: “رادع قوي في أكثر المناطق اضطراباً، وتمكين القوات الشريكة (قسد) من القيام بالمهام المشتركة”.

ويتردد الحديث بواشنطن عن ضرورة ربط الوجود العسكري الأمريكي شرق سوريا بالجبهة الأوكرانية، بدلاً من قصره على “محاربة الإرهاب”، ما دفع نائب السفير الروسي في الأمم المتحدة، ديميتري بوليانسكي، لاتهام واشنطن بالتصعيد العسكري في محافظة الحسكة.

وتنظر موسكو بقلق إلى تنامي احتمالات تدخل أنقرة إلى صالح الولايات المتحدة في عمليات التصعيد الجارية في كل من سوريا وأوكرانيا، حيث لاحظ الكاتب الروسي: “إيغور سوبوتين”، في مقال نشره بصحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا”: “بوادر قيام علاقات نفعية بين واشنطن وأنقرة”، أشار فيه إلى أن إدارة بايدن تتوقع أن تشارك تركيا بشكل أكبر في الملف الأوكراني، فيما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نيته الوفاء بالتزاماته تجاه حلف “الناتو”.

أربعة سيناريوهات متوقعة في سوريا  

لا يمكن القول أن الحرب الأوكرانية ستفضي إلى ظهور نظام عالمي جديد، فالرئيس الروسي قد دأب على تحدي النظام “أحادي القطب”، منذ سنوات، عبر اللجوء إلى القوة العسكرية في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وكذلك في سوريا، وأوكرانيا، مستخدماً القوة من جانب واحد لفرض الأمر الواقع.

أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فيجدون الفرصة سانحة لإغراق بوتين في المستنقع الذي صنعه لنفسه من خلال تدخلاته العسكرية في الأقاليم المشتعلة، آملين أن تؤتي العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية ثمارها في وأد طموحاته، والتأكيد على استحالة تحدي نظامهم “العالمي”، واستعراض سيطرتهم على المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية عبر توظيفها في معاقبة روسيا.

في هذه الأثناء؛ تؤثر الولايات المتحدة وحلفاؤها عدم التورط بمواجهة عسكرية مع القوات الروسية في أوكرانيا، والاقتصار على فرض حزمة عقوبات اقتصادية صارمة لإجبار بوتين على الانسحاب، حتى وإن استغرق ذلك وقتاً طويلاً، ربما يمتد لسنوات، كما أكد بايدن في عدة مناسبات، وثنى عليه نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، الذي توقع (6 مارس) أن تمتد العقوبات لأشهر، أو ربما لسنوات قبل أن يظهر فشل بوتين.

وفيما يراهن بوتين على تشكيل كتلة اقتصادية مناوئة للغرب، وجرّ حلفائه في بكين وطهران لمعركة تشمل دول البلطيق، ووسط آسيا، وتايوان، وتمتد إلى جوار إيران الإقليمي، يبدو “أصدقاء” موسكو غير راغبين في استعجال المواجهة، تاركين بوتين ليواجه مصيره وحيداً في معركة أوكرانيا، وفي خوض معركة اقتصادية رديفة مع الغرب الذي يفرض عليه عزلة دولية متنامية.

وبعد انقضاء نحو أسبوعين على غزو أوكرانيا؛ تبدو روسيا فاقدة لزمام المبادرة، وعاجزة عن تحقيق التفوق في ميدان المعركة، فيما يتكشّف، يوماً بعد آخر، أن “هيبة” الجيش الروسي كان تقتات خلال السنوات الستة الماضية على شن عمليات استعراضية ضد المدنيين العزل في سوريا، دون مواجهة خصم فعلي، حيث تحدث قائد سلاح الطيران الروسي عن تنفيذ نحو 40 ألف طلعة جوية “آمنة” منذ عام 2015، وذلك نظراً لعدم امتلاك خصومه مضادات طيران. 

لكن الصورة تبدو مختلفة في أوكرانيا، حيث تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بصور آلاف القتلى والأسرى من الجنود الروس، وتعاني القوات الروسية من الاستنزاف على شتى جبهات القتال، فيما يستمر فشل القيادة العسكرية في إلحاق ضربات مؤثرة ضد سلاح الجو أو مضادات الجيش الأوكراني، الذي بقي محافظاً على قوته الضاربة.

وبات من الواضح أن الضربة الروسية الافتتاحية فشلت بصورة مروعة في إلحاق الضرر بالأصول الحيوية للجيش الأوكراني، فيما شاهد العالم سقوط عدد كبير من الطائرات والمروحيات الروسية التي لم تصمد أمام المضادات الأوكرانية، ومثّل العدد الكبير من الأسرى الروس شرخاً كبيراً في معنويات الجيش الروسي.

وبعيداً عن أتون المعركة الدائرة رحاها في أوكرانيا، لا بد من التنبيه على التحول الإستراتيجي القائم في مسرح التنافس الدولي بمنطقة الشرق الأوسط، والتي طالما كانت البؤرة الأكثر اشتعالاً منذ تسعينات القرن الماضي، حيث تندلع صراعات رديفة “أكثر سخونة” في: أوروبا الشرقية، ووسط وجنوب شرق آسيا، وتمهد الصين لابتلاع تايوان، فيما تغرق طهران في ساحة تنافس جديد مع تركيا وباكستان على معركة النفوذ في أفغانستان وأرمينيا وأذربيجان.

وبالنظر إلى الارتباط الوثيق بين سوريا والحرب الأوكرانية؛ يمكن القول أن موسكو تنوي استخدام قواعدها في سوريا كجزء من المنظومة الأمنية والعسكرية الروسية، وأن ما يجري في أوكرانيا سيكون له تداعيات على المشهد السوري، حيث تراقب الجيوش الأربعة المتصارعة (الولايات المتحدة، وإسرائيل، وتركيا، وإيران) ما يمكن أن يؤول إليه وضع الطرف الخامس (روسيا) الذي لم يتمكن من الاستمرار في لعبة “عض الأصابع”، وقرر المضي في مسار “اللاعودة” عبر شن عمليات عسكرية غير محسوبة شرقي أوروبا.

وبناء على ذلك فإنه من غير المتوقع أن تصمد سياسية “المحافظة على الوضع القائم” في سوريا، فعلى الرغم من الهدوء الحذر الذي تشهده مختلف الجبهات في سوريا؛ إلا أن تبعات الأزمة الأوكرانية قد بدأت تضغط على نظام الأسد، ويمكن استشراف مآلات التحول المرتقبة في سوريا من خلال تقييم مواقف الجيوش المتصارعة في سوريا وأنماط ردود فعلها المرتقبة، وذلك وفقاً للسيناريوهات الأربعة التالية: 

– السيناريو الأول: سلسلة انهيارات اقتصادية في أسواق المال والطاقة والشحن والتأمين، يمكن تؤدي إلى انهيار اقتصادي شامل للنظام، المترهل أصلاً، حيث تندلع الاحتجاجات الشعبية نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام، وخاصة في محافظتي اللاذقية والسويداء. 

– السيناريو الثاني: اندفاع إيران لملء الفراغ العسكري والاقتصادي الذي ستخلفه المغامرة الروسية في أوكرانيا، الأمر الذي سيدفع بتل أبيب لتصعيد ضرباتها الجوية، وسيؤدي ذلك إلى اندلاع مسرح جديد للصراع شرقي المتوسط، ربما ترغب موسكو في إشعاله خلال الأسابيع المقبلة. 

– السناريو الثالث: تنامي التوتر التركي-الروسي، ما يؤذن بانفجار الوضع في إدلب وفي مناطق: “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”، وقد يؤدي ذلك إلى انهيار تفاهمات “أستانة” واندلاع معارك، ستعمل كل من إيران والولايات المتحدة وتل أبيب على الاستفادة منها عبر تأجيج الصراع، بدلاً من تهدئته.– السيناريو الرابع: لجوء الولايات المتحدة وحلفائها إلى استهداف القواعد الروسية في سوريا، بهدف توسيع نطاق المواجهات الروسية واستنزافها في مختلف الجبهات، وسيكون هذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً إذا ما نجحت القوات الروسية في تحقيق أهدافها في السيطرة على كييف، وفرضت حكومة عسكرية موالية لها، وسيفرض هذا المسار على كل من تل أبيب وأنقرة، وفصائل المعارضة أدواراً جديدة، قد تصل إلى شن هجمات ضد المواقع الروسية… وضد نظام الأسد الذي رهن مصيره بمصير بوتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى