مقالات

موقعنا في الأزمة الروسية- الأوكرانية اغتنام الفرصة السانحة للتحرر من قيود التبعية للغرب

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

فرضت مسألة الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي بدأ في 24 شباط/فبراير الماضي،  نفسها على حديث الناس في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية، خاصة بعد أن رفع الرئيس الروسي بوتين  حالة جهوزية السلاح النووي في بلاده، مما أعاد إلى الأذهان شبح الأزمة الكوبية سنة 1961 حين وقف العالم على شفير الحرب النووية أو التهديد بها؛ و فاضت المنابر الإعلامية والسوشال ميديا بالنقاشات الساخنة والباردة  في محاولة من الجميع لسبر أغوار ما يجري و معرفة إلى ما قد تؤول إليه الأمور، سواء لجهة مزيد من التأزم وسخونة المجابهة الميدانية في أوكرانيا أو لجهة تأثير تلك الأحداث على المشهد السياسي الدولي وانعكاساتها على الساحات المحلية.

كثيرون من العرب والمسلمين أظهروا غضبهم من المعاملة العنصرية المقيتة التي عومل بها أبناؤهم الذين أرادوا الفرار من جحيم الحرب إلى دول الجوار لأوكرانيا، كما صُدموا من التصريحات الفاضحة للسياسيين الأوروبيين الذين أعلنوا فتح بلادهم أمام اللاجئين من الأوكرانيين الذين هم شعب أوروبي متحضر ولا يشبهون اللاجئين السابقين القادمين من الشرق الأوسط  الأوباش الإرهابيين…

وطرحت التساؤلات المريرة في كثير من المنابر الإعلامية: لماذا دماء المسلمين رخيصة، ولم يشهد العالم الموقف الإنساني النبيل تجاه الفارين من جحيم الحروب في سوريا والعراق واليمن؟ كما طرحت تساؤلات عما إذا كانت الأزمة في أوكرانيا تفتح فرصة ليتمكن المسلمون من استجماع قواهم وربما الوقوف على أرجلهم في ظل تعاظم الصدام بين روسيا و بين الغرب (بشقيه الأوروبي والأمريكي).

هناك وقائع لا بد إدراكها والبناء عليها قبل الشروع في إجابة هذه التساؤلات:

  1. واقع أن بلاد المسلمين تخضع للاستعمار الغربي، الذي اتبع قاعدة “فرّق تسد” منذ تمكّن من هدم دولة الخلافة العثمانية (28 رجب 1342 هـ/ 3 أذار 1924م) وقام بتمزيق الأمة إلى عشرات الكيانات الهزيلة التي نصّب عليها حفنة من الحكام المهتمين فقط بالتشبث بكراسي الحكم والتمتع بمزايا السلطة هم وزبانيتهم مستعدين لبيع البلاد والعباد لصالح سادتهم في الغرب طالما دعموا بقاءهم على عروشهم.
  2. واقع أن الغرب، منذ هدم دولة الخلافة، بذل كل جهد ممكن في سبيل فرض “تغريب” المسلمين لسلخهم عن دينهم ولتقييدهم بقيود التبعية للغرب على كل الصعد الحضارية والثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية، فيما يطلق عليه “مركزية المرجعية الغربية”، فقد عمل الغرب،عبر أدواته من الحكومات و أذنابهم من الظلاميين المنضبعين بالحضارة الغربية و تلامذة المستشرقين، على نشر التجهيل بعظمة الحضارة الإسلامية وكون الإسلام هو نموذج متكامل متميز للعيش، هذا التجهيل الذي رافقه تعطيل أحكام الشريعة العملية في الواقع الحياتي في شؤون الدولة والمجتمع، و نشر الشبهات للطعن بأحكام الدين وصلاحية الشريعة للعصر الحديث.
  3. وما ساعد الغرب على النجاح في مكره قصور الحركات الإسلامية عن تقديم الإسلام كنظام متكامل عملي يعالج شؤون الدولة و المجتمع وفق الأحكام الشرعية في مواجهة التحديات المعاصرة. فبعد عقد على الربيع العربي، وبعد ربع قرن على جهاد حركة طالبان، وبعد عقود مديدة (قرابة قرن) على جهود الدعوة الإسلامية أخفقت هذه الحركات في تقديم مشروع سياسي ناضج واعي يطرح صيغة مبلورة لطبيعة الدولة الإسلامية المنشودة؛ اللهم باستثناء ما طرحه حزب التحرير، الذي أنشأه الشيخ محمد تقي الدين النبهاني في القدس 1953؛ فحزب التحرير نذر نفسه للعمل على إستئناف الحياة الإسلامية عبر إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وبذل جهودا مميزة في سبيل بلورة الطروحات الشرعية، و وضَعَ مشروع دستور لدولة الخلافة المقترحة فصّل فيه الأنظمة الشرعية في جوانب الحكم والاقتصاد و السياسة الخارجية والقضاء وغير ذلك من تفاصيل.

إنطلاقا من هذه  المعطيات يمكننا الآن تناول  الأزمة الأوكرانية الحالية، والتي نلحظ فيها التالي:

  1. من مراجعة شريط الأحداث يتضح بشكل جلي أن الغرب، وعلى رأسه أمريكا وبريطانيا، تعمّد استفزاز روسيا وتحديها في خاصرتها الرخوة:أوكرانيا وحوض البحر الأسود، وذلك بالقيام بسلسلة من المناورات العسكرية المتعاظمة؛ وكانت روسيا عبّرت(3-11-2021)  عن قلقها مما سمته النشاط العسكري العدواني للولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخرى في منطقة البحر الأسود، وقالت إنه يمثل تهديدا للأمن الإقليمي والاستقرار الإستراتيجي، في حين حذر مسؤول عسكري بريطاني رفيع من مخاطر نشوب حرب بين الغرب وروسيا.(الجزيرة)
  2. ومع أن الرئيس الروسي بوتين قال في تصريحات لقناة روسية إنه لم يؤيد مقترحا لوزارة الدفاع لإجراء تدريبات مماثلة في البحر الأسود في الفترة نفسها تفاديا لمزيد من التوتر في المنطقة(الجزيرة)، إلا أن أمريكا وبريطانيا رفعتا من مستوى الاستفزاز بمزيد من المناورات، وتشجيع أوكرانيا على رفع التحدي لروسيا.
  3. بعد إندلاع الحرب صرّح الرئيس الأمريكي بايدن ورئيس الوزراء البريطاني جونسون بأنهما لن يرسلا الجيوش للدفاع عن أوكرانيا، وإن كانا تعهدا بإفشال الغزو الروسي عبر فرض عقوبات اقتصادية صارمة و غير مسبوقة. و كان كل من الرئيس الفرنسي (7 شباط 2022) والمستشار الألماني ( 15 شباط 2022)قام بزيارة الى موسكو والتقى كل منهما الرئيس بوتين بغية التوصل إلى نوع فتيل الانفجار دون جدوى.
  4. علما أن بوتين كان يدرك جيدا اعتزام قادة الغرب على فرض عقوبات اقتصادية، ولكنه لم يبالي بذلك، بل ظن في غرور العظمة المتوهمة، و في حساباته الخاطئة كما قال الأمس الرئيس الأمريكي بايدن في خطابه أمام غرفتي الكونغرس الأمريكي، أن النصر سيكون سريعا وأن الحاضنة الروسية من السكان سيستقبلون جيشه بالورود.
  5. في خطابه الشهير يوم الأحد 27 شباط 2022 خلع المستشار الألماني قفازات الحرير وأعلن الحرب(مجازيا) على روسيا بسياسة جديدة شكلت الخروج الرسمي من عباءة قيود عقدة الذنب النازية التي حكمت كل سياسات المانيا الخارجية حتى هذا الخطاب. فبعد أن رفضت المانيا تزويد أوكرانيا بالسلاح، ولو الدفاعي، ومنعت دول أخرى من توريد السلاح الألماني إلى أوكرانيا أعلن شولتز عن فتح خط الدعم العسكري المباشر لأوكرانيا والسماح للدول الأخرى بتوريد السلاح الألماني لها.
  6. وهكذا بدأت الدول الغربية، ومعها استراليا، تتسابق وتتنافس في مد يد المساعدة للمجهود العسكري لأوكرانيا إلى جانب فرض عقوبات اقتصادية وتجارية ومنها منع السفن الروسية من الرسو في موانئها ومنع الطيران الروسي من عبور اجوائها، بل وصل الأمر للمقاطعة الرياضية والفنية(منها طرد قائد فرقة الأوركسترا الألمانية، وهو روسي، في ميونيخ، بعد تاييده لخطوات بوتين)…إلخ
  7. في ظل المقاومة الشرسة التي أبداها الأوكرانيون في مواجهة الغزو الروسي، تنامى تسونامي التاييد الشعبي الغربي بل والعالمي لأوكرانيا في مقاومتها للغزو الروسي. علما أن الجيش الروسي لم يستطع اتباع سياسة الأرض المحروقة التي سبق أن اتبعها في غروزني الشيشان ، وفي سوريا والعراق…لحساسية الواقع السكاني، فالشعب الأوكراني هو “من عظام الرقبة” إذ يشترك مع الشعب الروسي في كونهم من العرق السلافي، فضلا عن الروابط التاريخية بين الشعبين، فكييف، عاصمة أوكرانيا ، هي التي كانت مهد الثقافة الروسية والأدب الروسي عبر القرون الخاوية، فليس من السهل على بوتين أن يبدو بمظهر هتلر جديد لا يرقب في الأوكرانيين إلاّ ولا ذمة. فالشعب الأشقر ذو العيون الزرقاء لا يمكن إهدار دمه كما هو حال المسلمين المصنفين، في قاموس دارون المقيت، في درجة “الشعوب الهمجية”، وبالتالي فلا حرج  في التخلص منهم كيفما اتفق ودون حسيب أو رقيب.
  8. ما سبق، وبعد أن بلغ بوتين نقطة اللاعودة في حملته المسعورة للفوز بلقب المدافع عن المجد الروسي المهدور منذ سقوط جدار برلين، يكشف أن النزاع في أوكرانيا سيطول أمده، حتى بعد اجتياح الجيش الروسي لكييف و حواضر المدن؛( اليوم تمكن الجيش الروسي من السيطرة على مدينة خيرسون جنوب أوكرانيا)، فالوطنية الأوكرانية شهدت المعمودية بالنار في هذه الحرب، وصارت أوكرانيا محل تقدير للعالم كله في تصديها للعملاق الروسي، في مشهد شبيه بمعركة طالوت وجالوت. وهذا يعني أن الحقبة القادمة ستشهد مقاومة أوكرانية تستهدف الإثخان في الدب الروسي العاجز عن فرض احتلاله لأكبر بلد في أوروبا، في ظل تنامي الدعم الغربي لاوكرانيا وصل  في عدد من الدول الغربية، منها الدانمرك وبريطانيا، إلى حد فتح باب “الجهاد الغربي” للراغبين في مقارعة الدب الروسي ومناصرة “المستضعفين” من الأوكرانيين.

إذن ما هي انعكاسات هذه الأزمة على قضايا المسلمين؟ وهل تشكل فرصة للتخلص من قيود التبعية للغرب؟ وربما فرصة لقطف ثمار موجة الربيع العربي التي وأدها قادة الغرب عبر أدواتهم من الحكام المحليين؟

يعلّمنا القرآن الكريم أن سنة التدافع  بين الأمم والشعوب سنة كونية لم تزل قائمة (وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ لَّفَسَدَتِ ٱلْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ ( البقرة 251) فالجواب أن الأزمة في أوكرانيا تشكل فرصة لنا للتحرر من قيود التبعية للغرب وتحقيق الإستقلال الناجز، وليس الصوري الموهوم الذي فرضه الغرب عبر أدواته من الحكام.

والمثل يقول (الفرصة تمنح نفسها لمن كان جاهزا لاغتنامها) فهل نحن جاهزون لاغتنام هذه الفرصة؟ هذا سؤال برسم النخب التي تحمل همّ الأمة و عملت منذ عقود للتحرر من الهيمنة الغربية. فلن ينفعنا انهيار أوروبا و روسيا، إن لم نك جاهزين لاغتنام هذه الفرصة، بل ستمرّ علينا ونحن في موقع المتفرجين لا غير!

واغتنام  الفرصة يقتضي وجود رؤية مسبقة لدى القيادة (من هي) المتأهبة للاستفادة منها. مر معي أن لينين، حين كان لاجئا في سويسرا، قال لأصحابه “الثوريين” في كانون الثاني 1917، “يبدو أننا لن نشهد قيامة الدولة الشيوعية في أيامنا”، ولكن الإطاحة بالقيصر في شباط 1917، جعلت لينين، المتحفز دوما لأي سبيل يوصله إلى تحقيق حلمه، جعلته يدرك أن الفرصة التاريخية تنتظره  وفعلا ضب أغراضه ورجع إلى روسيا ليقود حزبه وصولا إلى تمكنه من الإمساك بالسلطة فيما عرف بثورة  أوكتوبر 1917 البلشفية…

فهل لدى النخبة من قيادات الربيع العربي هذا الاستعداد؟؟

أو هل لدى القيادة في تركيا مثل هذا الاستعداد؟؟

تركيا، في موقعها الاستراتيجي، وفي عمقها الاستراتيجي من  مناطق الإرث العثماني  الذي أشار إليه الدكتور أحمد داود أوغلو في كتابه المعنون “العمق الاستراتيجي”، وقبل هذا وذاك في تبنّيها لمضامين الرسالة الربانية التي حفظها رب العزة جل جلاله، وجعلها خاتمة الرسالات للبشرية إلى يوم الدين، نعم فتركيا قادرة على أن تكون القاطرة لتقود المسلمين فينفضوا عنهم قيود الذل والتبعية للغرب، ويعودوا كما كانوا “خير أمة أخرجت للناس” فيفوزوا بعز الدارين، ويفوزوا بما هو أكبر، رضوان من الله سبحانه وتعالى.

هذا ما اراه باختصار، ولا أشك أن هناك كثيرين من الغيورين على دين الله تقض مضاجعهم هذه الأسئلة، أرجو أن تحفز هذه المقالة كل مسلم غيور على دينه وأمته على النفير للفوز برضوان الله تعالى، وبعز الدنيا والآخرة، والله الهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. سلمت يمينك أخي دكتور عثمان . تعليقي هو استحضار أبيات شعر حكيمة لسيدنا علي ابن أبي طالب كرَم الله وجهه و رضي عنه توافق المقال ( إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها ** فَعُقبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ. وَلا تَغفَل عَنِ الإِحسانِ فيها ** فَما تَدري السُكونُ مَتى يَكونُ . وَإِن دَرَّت نِياقُكَ فَاِحتَلِبها ** فَما تَدري الفَصيلُ لِمَن يَكونُ . ) .

  2. اخي عثمان اتفق معك ان الفرصة صارت مواتية للأمة الإسلامية لكي تتسنم مقعدها، لأن هذا الأزمة كشفت عوار النظام الرأسمالي الديمقراطي العلماني، وان الغرب ليس قويا وأنه ممزق من داخله وان النظام الرأسمالي ليست له معالجات.
    اللهم أكرم أمتنا بإقامة نظامك الذي ساد الدنيا أكثر من ثلاثة عشر قرنا، واجعلنا من عبادك الصالحين الذين ينالون هذا الشرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى