مقالات

صراع المافيا !

محمد شريف كامل

مدون وكاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

لقد تناول العديد من الكتاب والمحللين الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا من خلال مواقفهم الشخصية والأيدولوجية من الغرب والشرق، إذا افترضنا جدلاً أن روسيا تمثل الشرق، ولقد تناوله آخرون من منطلق موقف روسيا والولايات المتحده من الصراعات الإقليمية، وما ذلك إلا دليل على أن الصراع ليس بين روسيا وأوكرانيا بل هو صراع بين روسيا والولايات المتحدهةعلى أرض أوكرانيا.

والبعض الآخر تصدى للأمر من منطلق حقوق الانسان والسلام العالمي ورفض الحروب، إلا أن هذا التناول غالباً ما ينطلق من منظور عاطفي وبدون النظر لمقدمات الصراع وخريطة عالم ما قبل الصراع وكيف ستكون بعده؟.


وكما هو الحال منذ الحرب العالمية الثانية يمتد الصراع ليشمل وسائل الإعلام، ونرى الاعلام يصور لنا أن الدفاع عن أوكرانيا وصد العدوان الروسي هو دفاع عن العالم الحر الذي أنتجته الحرب العالميه الثانية والتي انتهت بتقسيم العالم على الخطوط التي توقفت عندها الجيوش المنتصره، مما قسم أوروبا ومن ورائها العالم إلى شرق وغرب، شرق تحت سيطرة الإتحاد السوفيتي وغرب تحت سيطرة الولايات المتحده، وكانت كتلة عدم الانحياز هي الميزان الذي أقلق القوتين.

إلا ان ذلك العالم قد أنتهى بسقوط الاتحاد السوفيتي الذي أسقطته المخابرات الغربية والفساد الداخلي للدولة السوفيتية. ولم يبق من عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سوى قوة امبريالية واحدة، الولايات المتحدة، وجسم هش لا قيمه له يسمى الأمم المتحدة، والتي لم يكن لها أي دور إيحابي في أي صراع بل تسببت بعجزها في صراعات لم ولن تحسم.


وبانتهاء عالم بما بعد الحرب العالمية الثانية تم رسم خريطة جديدة للعالم، تحكم فيها ما بقي من إرث الإتحاد السوفيتي بالمافيا الروسية والأوكرانية، والتي حلّت محل المافيا القديمة التي سيطرت لفترة طويلة على الجريمة العالمية، ونشطت هذه المافيا الجديدة أكثر من سابقاتها، ونتج عنهما أقوى شبكات المخدرات والدعاره وتجارة السلاح وغسيل الأموال.
وللتعرف على أصل الصراع لا نحتاج للعودة لماضي بعيد، فقط علينا أن نراجع خطوات تقسيم الاتحاد السوفيتي، تلك الخطوات التي تركت وراءها جنسيات وأعراقاً متداخلة كقنبلة جاهزة للانفجار في أي لحظة، فولدت تلك الدول وزرع داخلها ألية قادرة على إنتاج صراعات مستقبلية، مثل صراع أرمنيا وأذربيجان، وصراع جورجيا وروسيا، وكذلك صراع روسيا وأوكرانيا.

وقد اشتد صراع روسيا وأوكرانيا عقب الانقلاب الناعم الذي أسقط الحكم الحليف لروسيا وأقام دولة تابعة تبعية كاملة للولايات المتحده، فبدأ هذا الصراع الأخير بظهور حركات الانفصال من القوميين الروس داخل الحدود الأوكرانية مثل شبه جزيرة القرم “كيرميا” والتي انفصلت بمساعدة الروس علم 2014، وكذلك دونيتسك ولوغانسك وااللتان لم تستسلما للحكومة المركزية في كييف منذ 2014 وحتى الآن. وإن كانت ساحة القتال قد بردت بتوقيع اتفاقيتي مينسك ١ و٢ في عامي 2014 و 2015 واللتان لم ينتج عنهما أي شيء غير وقف إطلاق النار ولم تنفذ أي من البنود الأخرى وتركت النيران تشتعل تحت الرماد حتى يحين وقت اندلاعها مرة أخرى.

وتزامن ذلك مع اتجاه أوروبا للغاز الطبيعي الروسي، وتم إحراز تقدم كبير في مشروع نورد ستريم -٢ بعد نورد ستريم-١ والذي حاربته الولايات المتحدة من اليوم الأول حرباً شديدة للغاية، حتى أنها قامت بفرض عقوبات على شركات حليفة لمشاركتها في ذلك المشروع العملاق الذي بموجبه تخرج أوروبا من الاحتياج للولايات المتحدة ومشايخ البترول في الخليج وتحصل على الغاز المسال كطاقه نظيفة وبسعر أقل، بالإضافة لكونه يمثل خطوة لقوة أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة.


وتواكب ذلك الموقف الأمريكي المتمثل في البلطجة المعتاده مع إفتعال الحديث حول إحتمال إنضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطي “الناتو” وللإتحاد الأوروبي، ويعلم الجميع أن ذلك يعبتر ولا شك خط أحمر لن تقبل روسيا أن يعبره أحد، وذلك بالطبع لأن دخول أوكرانيا هذان التجمعان يعني وضع موسكو تحت نيران الأسلحة التقليديه من عدو حقيقي “الناتو”، وكذلك وضعها تحت رحمة السيطرة الغربية والقدرة على خنق الاقتصاد الروسي وإمكانية فرض حصار اقتصادي في أي وقت، والمتابع للأمر يدرك أن هذا الحديث كان هدفه الأول اصطناع أحداث تضمن قتل مشروع نوردستروم-٢.

وبالرغم من حقيقة أن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي الشيوعي ،ولكنها روسيا المافيا التي بنتها المخابرات الأمريكيه، إلا أنها دولة لها حساباتها التي قد تصيب وقد تخطئ، ولكنها لا يمكن أن تقبل أن يقف الناتو وتقف الكتلة الأوربية على حدودها، فلم تنسى روسيا أنها وُعدت عام 1990 بألا يمتد الناتو لحدودها وها هو قد أبتلع الغالبية العظمى لأوروبا الشرقية ولم يبقى منها إلا أوكرانيا وبيلاروس (روسيا البيضاء).

ومع اشتعال ذلك الصراع انطلقت معه على التوازي حرب إعلامية شرسة بحملة يشنها العالم الغربي شملت التحكم في وسائل التواصل الاجتماعي وقطع وسائل الإعلام الرسمي والبديل حتى لا يتعرف المواطن العادي على أي وجهة نظر مخالفة لما أراد لنا الغرب أن نعرفها. حتى أنه ولأول مره لا تستاء الصهيونيه العالمية من تشبيه شخص ما بهتلر، وسُمح للإعلام بل والكيانات السياسية وبعض الرؤساء بتسمية بوتين بهتلر القرن الحالي، مع العلم أن الحركة النازية تنمو وتتسلح في أوكرانيا.

وفي المقابل كان حال العرب شعوباً وحكومات على حد سواء غريباً للغاية، فكل يفلسف الأمر على هواه، وكل يربط الأمر بمقدار استفادته المباشرة أو ضرره المباشر من روسيا أو الولايات المتحدة، بالرغم من أن الأمر ليس له علاقة بالصراع العربي العربي أو العربي الصهيوني لأنه ببساطة شديدة فالفريقان الروسي والأوكراني قد ابتلعتهما المشروع الصهيوني كما ابتلع النظم العربية.

إن هذه اللحظه تستدعي منا أن نقارن بين الغزو الروسي لأوكرانيا وتشابه ذلك مع الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، بل نيكاراجوا وبنما وحتى فيتنام، بل وحصار كوبا الذي دام سبعين عاماً بلا انقطاع، وقد يساعدنا ذلك على فهم مقدار البلطجه والنفاق وازدواجية المعايير التي يمارسها الغرب ليل نهار وننساق نحن ورائه حتى نبدو متحضريين في نظره، ولم أذكر هنا فلسطين المحرومة دولياً من حق المقاومة بالمقارنه بتهليل العالم والمطالبه بالمتطوعين من كل مكان للدفاع عن أوكرانيا.

إن الابتهاج الساذج بسقوط الإتحاد السوفيتي والذي حرم العالم من التوازن بين القوى الإمبرياليه، يتجسد اليوم للمرة الثانيه في التهليل لاحتمال نهاية روسيا والذي إذا حدث سيحرم العالم من التوازن يبن المافيا الشرقية والمافيا الغربية، ولن يتحرر العالم ولن تسود الديمقراطية ولن يسود العدل.
إن الخاسر الأكبر في هذه الحرب الدائرة بين روسيا والولايات المتحدة على أرض أوكرانيا، هي أوكرانيا بلا شك التي كانت ومازالت هي الضحية التي دفعتها الولايات المتحدة لهذا الفخ الذي قد ينتهي بتدمير أوكرانيا.

والخاسر الآخر بلا شك هو روسيا التي إن دخلت الحرب أو لم تدخل فقد خسرت، فلو لم تدخل الحرب أتاحت للناتوالفرصة للوصول لحدودها وحوصرت اقتصادياً بالسلم، ولذا لم تجد روسيا بديلا عن دخول الحرب حتى ولو كان ذلك يشابه هدم المعبد. وكذلك أوروبا ستخرج خاسرة لأنها في جميع الأحوال ستعود إلى أربعينيات القرن الماضي ،وتعود للارتماء في أحضان المافيا الأمريكية خوفاً من هتلر أو شبيهه، وسندفع نحن الشعوب المستسلمة للعبة المافيا الثمن الكبير.

وعلى الجانب الآخر فالولايات المتحدة عي المنتصر في هذه الحرب، فالتاثير السلبي على الأقتصاد العالمي يعود دائما بالمنفعة عليها، فقد فُتحت أبواب مصانع السلاح على مصراعيها وتوقف مشروع نورد ستريم-٢ وقد يكون قد قتل تماماً، وسيزداد انتعاش اقتصاد مافيا الغرب بكل أنواعه، وستشاركها المافيا الروسية والأوكرانية بإعادة الإعمار وبناء ما دمرته الحرب!.

هناك دروس كثيرة وتغيرات كبيرة ستنتج عن هذه الحرب التي مازالت في بدايتها والتي بلا شك تمثل خسارة شاملة لكل القيم وكل المبادئ التي يتاجر بها كل يوم في كل مكان على وجه الأرض.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أرجو الله الهادي الحق الكريم أن يهدينا جميعاً إلى الصواب و الحق في القول و العمل و التفكير و التحليل بما يرضيه عنا .
    أحد الأمور ، التي بحثت عنها لسنوات ، كان إيجاد جواب شافي لسؤال (هل الدول الفاعلة في المسرح الدولي هي دول طبيعية يمكن أن تنشأ فيها عصابات أم أن هذه الدول الفاعلة قد أنشأتها عصابات سيطرت عليها من وراء الكواليس فقيل عن العصابات بالعبارة المهذبة ” الدول العميقة ” ؟).
    لم يكن من السهل العثور على الجواب في السنوات الأولى ثم كان من فضل الله و بالغ كرمه منذ عدة سنوات أن منحني نعمة الفراغ لكي أتتبع المسألة ” من بابها لمحرابها ، كما يقال”.
    لا شك أن معرفة الإجابة الدقيقة ستساعد في فهم أفضل للوقائع السياسية الجارية وصولاً إلى تحليلات صحيحة تصب في مصلحة أمتنا التي تتعرض لكمية هائلة من الكذب و التضليل المتعمد .
    لاحظوا أن دجل الآلة الإعلامية العالمية الرهيبة هو شامل لكل أمم الأرض مع بعض اختلاف في درجات و مستويات الخداع. إعلامنا هو مجرد ناقل عن تلك الآلة فيأتينا بما يصدر عنها من دون تنقية أو تمحيص .
    لفت نظري عنوان مقال الدكتور محمد شريف كامل – حفظه الله – و قرأت فيه ما توافق مع الجواب الذي توصلت إليه و هو أن الدول المؤثرة محكومة بعصابات مافيا تتصارع فيما بينها و وجدت في ثنايا المقال عمقاً في التفكير و قوة ربط استثنائية . نقطتان فقط تحتاجان مني إلى تعقيب : 1)أخالف القول ” أن كتلة عدم الانحياز هي الميزان الذي أقلق القوتين ” فلقد عاصرت نشأتها على أيدي جمال عبد الناصر و جوزيف بروز تيتو و جواهر لال نهرو و أحمد سوكارنو و هؤلاء الأربعة تبع للمافيا الغربية و عند ملاحظة عدم وجود أتباع للمافيا الشرقية ربما كان هذا مقلقاً لها ، و على أي حال فلم تعد هذه الكتلة قائمة . 2) القول بأنه عقب سقوط الاتحاد السوفيتي لم يبق ” سوى قوة امبريالية واحدة، الولايات المتحدة، وجسم هش لا قيمه له يسمى الأمم المتحدة” صحيح لكن هيئة الأمم هذه هي جزء من وزارة الخارجية الأمريكية ، و أمريكا ليس من سياستها “حل أزمات” و إنما ” إدارة أزمات” و بما أن أمريكا قد تفرعنت و خاف منها الكثيرون فهي قصدت هشاشتها حالياً لكن لو كان هنالك تمرد من دولة أو بضع دول على الفرعون الأحمق المطاع ، لرأينا انتقالاً لها من وضعية الهشاشة إلى وضعية الصلابة مع تفعيل للبند السابع عند اتخاذ القرارات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى