مقالات

الزحف المُقدس!

محمود الجاف

كاتب وصحفي عراقي
عرض مقالات الكاتب


الحُروب الدينية : هي حُروب مُبررة جذورها الاختلافات الدينية . منها حرب المئة عام والحرب الأهلية السريلانكية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني وأحداث 11 سبتمبر والهجمات الأخرى والحرب في سوريا وليبيا واليمن وأفغانستان والعراق … كل الاديان والطوائف والدول لديها زحف مُقدس . الا نحنُ تركناه وبدأنا بالتراجع المقدس .
قال جورج بوش : ( سوف أعلنها حربا صليبية ) ! لكنهُ تراجع وقال : ( سنسمي حملتنا على أفغانستان ( العدالة المُطلقة ) ! ثم تراجع وعاد ليقول : ( حملتنا على الإرهاب سيكون اسمها النسر النبيل ) ! وهو الاسم الذي اطلق على احدى الحملات الصليبية على العالم العربي . ثم تراجع وقال أثناء غزوه لافغانستان : سوف نُدخنهُم (We will smoke them ) ! . هل تعلمون ماذا تعني هذه العبارة ؟ لقد استعملها الفرنسيون في الجزائر مع النساء والصغار والشيوخ المدنيين ودوابِّهم . كانوا يطاردوهُم في شعاب الجبال وبعد ان يدخلوا الكهوف يقوم الرجل الأبيض المُتحضر الذي صدّع رؤوسنا بالحرية والدفاع عن حقوق الانسان والحيوان بإشعال النار في مداخلها ليموتوا فيها اختناقا من الدخان . وقد ذكرها الكونت دي هاريسون في كتابه صيد البشر عندما كان يصف طبيعة عمل إحدى الكتائب التي شارك فيها ويقول : في الصباح عدوا 760 جثة ! … ثم زعم بوش أن حربه اسمها ( حرية العراق ) ! ثم قال أن اسمها : ( عودة المسيح ) ! ومما لا شك فيه أنه لم يكن يهذي ! … بل يتصرف من منطلق ديني بحت ! … لانه خلال حملة الانتخابات الامريكية قال : أشعر أن الله يُريدني وان السيد المسيح هو أفضل فيلسوف سياسي فقد أبعدني عن طريق الضلال ودلني على الصراط المُستقيم . وان الرب امرني بالذهاب الى الحرب . كذلك صدرت فتاوى عن الكنائس التي نشرتها وسائل الإعلام التابعة الى اليمين المسيحي عموما والصهيونية المسيحية خصوصا . استخدمت نصوصا من الإنجيل وأسفارا من التوراة لتبرير الغزو .
تُرى ما السبب الحقيقي لحشد كل تلك الجيوش الجرارة وإنفاق مليارات الدولارات ؟ …
قالوا : ان صدام حسين يدعم القاعدة ولديه أسلحة الدمار الشامل ويُهدد جيرانه . الامر الذي حدى بهم الى مُباركة الاحتلال بل ومُشاركته الجريمة والغريب ان اخوة الدين والقومية اتحدوا مع الملالي وساهموا في تغلغل ونشر الفكر الصفوي في المنطقة مما نتج عنه سيطرتهم على بحيرة النفط التي يعوم عليها البلد . ثم صوروا للعالم إن ما يجري في ظل جمهورية الموت هو حقيقة هذا الدين ونجحوا من خلال نشر الإرهاب في اشكال عديدة لإسلام جديد خرج من رحم المُخطط الشيطاني الذي إتفقوا عليه في أوكار الظلام . كان القصد منه إظهاره على انهُ منهج التخلف وعدو الحضارة فقد نفذوا جرائمهم بأشكال تقشعر لها الأبدان تحت أنظار مُراقبين وخبراء لم يغادروا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها وفي أقل من بضع ثوان كان يطلع عليها العالم من خلال نشرات الأخبار .
لقد زرع الغرب في عقولنا أنهُ علمانيا ابعد الدين عن الحياة والتعاملات اليومية . لكن الحقيقة هي ان الدين هو جوهر الأهداف المرسومة عندهم . ولهذا قلنا إنها حرب دينية مُقدسة ولها مُنظرون منهم برنارد لويس الذي نشر كتابين هما (ما الذي وقع ) و ( أزمة الإسلام ) يمكن تلخيصهما في أن المسلمين يكرهون الغرب وحضارته وديمقراطيته وعلمانيته لمجرد أن قرآنهم يدعوهم لذلك وليس الإستعمار الغربي ولا الإحتلال الأميركي أو العدوان الصهيوني . ومما يزيد في تأجيج النار اليمين الديني بمُحاولته احتكار المسيحية والدفاع عن ( الحرية الدينية ) وتنصيب رؤساء موالين له في كل قارات العالم . فقد عملت مُنظمة المسيحيون المُتحدون التي أسسها البنتاغون على تعبئة خمسين مليون من الانجيليين الامريكيين على ترويج العقيدة الصهيونية في الكنائس وخارجها حتى يصبح دعم العمليات الحربية في نظر الاغلبية بمثابة الواجب الديني .
لقد مرت الديانة المسيحية بالكثير من الأحداث والتحولات التي غيّرت مسار تاريخها . خصوصا بعد انعقاد مجمّع خلقدونية عام 451 م في مدينة خلقدون (قرب إسطنبول حاليًا) والذي نتج عنه الانشقاق الكبير الذي أصبح يُعرف الآن باسم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية . ويُعتبر تتويجًا للخلافات اللاهوتية والسياسية بين الشرق والغرب . سبقه العديد من الخلافات الكنسيّة والنزاعات بين الشرق الإغريقي والغرب اللاتيني . وفي عام 1053 أمرت الكنائس الإغريقية في جنوب إيطاليا بان تلتزم بالممارسات الكنسيّة اللاتينية أو تُغلَق . وردّاً على ذلك أمر بطريرك القسطنطينية المسكوني ميخائيل سرولاريوس الأول بإغلاق جميع الكنائس اللاتينية . وفي العام 1054 وصل وفد أرسله البابا ليو التاسع إلى القسطنطينية لأسباب تتعلق برفض منح البطريرك سرولاريوس لقب ( البطريرك المسكوني ) والإصرار على انتزاع اعترافه بسلطة بابا روما على جميع الكنائس . كان الهدف هو طلب المساعدة من الإمبراطور البيزنطي بعد الغزو النورماندي لجنوب إيطاليا ووضع حدّ للانتقادات الأخيرة التي بثّها كبير أساقفة أوهريد التي كان يدعمها سرولاريوس . وبعد رفضه طُلبهم قام رئيس الوفد البابوي الكاردينال همبرت سيلفا كانيدا بحرمانه كنسيّاً وبالمقابل ردّ هو بمعاقبته وباقي الوفد بالحرمان الكنسي . لقد انزلقت الكنيسة لأسباب عقائدية ولاهوتية ولغوية وسياسية وجغرافية في شرخٍ لم يلتئم أبداَ إذ يُوجه كلّ طرف للاخر اتهامات الوقوع في الهرطقة وابتداء الانقسام . وكان مِمّا صعّب عملية المصالحة الحروب الصليبية التي قادها الفرع اللاتيني الذين ذبحوا في القسطنطينية عام 1182 والانتقام الغربي في نهب سالونيك عام 1185 والاستيلاء على القسطنطينية ونهبها في الحملة الصليبية الرابعة عام 1204 وفرض بطاركة لاتينيين . أدى إلى وجود متنافسَين على المنصب لكلّ مِن أنطاكية والقسطنطينية والقدس الأمر الذي رسّخ وجود الانشقاق .
ان الصراعات الدامية التي وقعت بينهم كلفتهم الملايين من الضحايا وخصوصا ألمانيا التي خسرت حوالي نصف سكانها . فقد هبط عددهم من الذكور بمقدار النصف تقريبا . كما انخفض عدد سكان التشيك بمقدار الثلث فقد دمر الجيش السويدي ( البروتستانتي ) أثناء تغلغله في المناطق الألمانية الكاثوليكية 2000 قلعة مع سكانها و18000 قرية و 1500 مدينة . كان هناك وفرة في النساء ولهذا عالج الأمراء هذه الأزمة البيولوجية بالعودة إلى تعدد الزوجات كما ورد في العهد القديم . وفي مؤتمر فرانكونيا المنعقد عام 1650 بمدينة نورنبيرغ قرروا : لا يقبل في الأديار الرجال دون الستين وعلى القساوسة ومساعديهم ( إذا لم يكونوا قد رسموا ) وكهنة المؤسسات الدينية أن يتزوجوا ويسمح لكل ذكر بالزواج من إمرأتين وينبه الرجال مراراً من منبر الكنيسة إلى التصرف على هذا النحو في هذه المسألة .
إن امريكا تشهر سيفها في وجه الشعوب التي تُخالف عقيدتها وما الغزو الروسي لاوكرانيا الا احدى صور الصراع فالحروب الدينية قائمة وليست قادمة تُجيِّش لها الولايات المتحدة الأفئدة والكتائب لأنها تعتقد أنها وريثة المسيحية وحاملة رسالتها في العالم اليوم . فعلى عكس الطوائف الاخرى تعتقد طائفة الإنجيليين أن اليهود لم يقتلوا المسيح بل كانوا مجرد أدوات استخدمها الله لتنفيذ سيناريو عودته وأنه لن يُبعث ثانية إلا إذا تأسست دولة قوية قادرة على ان يعيش عليها كل يهود العالم بسلام وعلى هذا الأساس سخرت كل إمكاناتها لتحقيق ذلك المُعتقد . لهذا كان السبب الرئيس وراء الغزو هو محو شيء اسمه العراق من على الخريطة واستبداله ببلد استهلاكي خال من العقيدة يعتمد في كل شيء على الخارج . لقد غادرت القوات الأمريكية بعد أن ارست قواعد العراق الذي تريده .
عراق فيه دولة داخلها الف دولة . مبنية على عقيدة الخميني بانشاء عدة فصائل مسلحة وعدم الاعتماد على الجيش كلياً . ولكنها استُنسخت بشكل مُختلف فقد تم توزيع السلاح بطريقة محسوبة بدقة مع خلق أذرع كثيرة مُتشعبة لا يوجد بينها من يأتمر بأمر مرجعية واحدة . حتى تضمن عدم نهوض البلد مرة أخرى والى الابد . وهنا يبرز سؤال مهم :
لماذا العراق؟
جاء في التوراة : ( لن يعود الرب حتى يُبنى الهيكل ولن يُبنى الهيكل حتى تؤدب بابل وآشور )!
انه البلد الوحيد الذي جمع المجد كله . اهمها الموارد البشرية والثروة النفطية الهائلة . فقد نجحت امريكا والغرب في تقييد مصر من خلال مُعاهدة السلام واغرقوا سوريا في مُستنقع يعلم الله وحده متى تخرج منه . اما العراق فهو حتى عام 2003 رفض الدخول في أي اتصال دبلوماسي مع إسرائيل والاعتراف بوجودها . وفي الطرف الآخر هناك أمريكيون مُتدينون يعتقدون بضرورة وجود إسرائيل قوية لأنها شرط نزول المسيح إلى الأرض ليقود معركته الأخيرة وقد زرعوا تلك العقيدة وحركوا الجموع مثلما تحرك الدمى . حتى الفلسطينيون أنفسهم استُدرجوا مثل الفأر إلى المصيدة والطُّعم دولة فلسطينية لن تقوم …
ان التذمر الذي نسمعه من ابناء شعبنا لن يجدي نفعاً . ولهذا من الجهل أن نتخيل ان حال البلد يمكن اصلاحه فالتخبط الذي يحدث في إدارته ووجود مسؤولين فاسدين وغير أكْفاء هو الخطة بعينها وهي موجودة في التراث الغربي وكان آخرها رواية عن الجنرال ديغول الذي قبض على جاسوس يعمل لصالح الألمان وعندما سأله عن مُهمته قال : لقد كلفوني أن أضع الرجل غير المُناسب في المكان غير المُناسب فقط . الا ترون التشابه الكبير بين الزحف الصهيوني على الاراضي المحتلة في فلسطين والصفويين على بغداد وكل محافظات العراق بشكل عجيب . فهم يشترون الدور والاراضي بشكل ملفت للنظر وباسعار باهظة … ما سر التشابه العظيم بين تلك الاساليب . هل لانهما وجهان لعملة واحدة ؟
هذه الحروب ستنهي قريبا كافة الاصطفافات التي تؤدي الى الصراع الاخير الذي يُحدد مصير الشعوب التي ستكون اولى ضحاياها الدول العربية والاسلامية الامر الذي سيدفعها الى النهوض من جديد بعزم وقوة لن تتوقف قبل اعادة الدين الاسلامي الى مجده . والعجيب ان امريكا والغرب نددوا بالغزو الروسي لاوكرانيا وهددوا قادتها ونسوا في ذات الوقت جريمة احتلال العراق وقتل شعبه وسرقة ثرواته وتسليمه الى عدوه اللدود الذي يسقيه الان السم الزعاف ليل نهار . اما القادة العرب فهم صم بكم لان افعالهم الدنيئة لاتظهر الا على بعضهم البعض وهم جميعا مشاركون في اللعبة .
لننتظر ونرى ما الذي سيجري بعد ان تبلع الصين تايوان !
السؤال اية دولة ستبتلع امريكا بالمقابل ؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الحاضر وليد الماضي و أحداث التاريخ فيها عبرة لأولي الألباب و يشترط في أخذ العبرة التفكير بما جرى مع ربطه بما يجري . كانت كتب التاريخ تتحدث عن “الروم” و هزيمتهم في بدايات صعود المسلمين ثم بعد قرون قليلة ، حصلت الحملات المسماة “صليبية”. دعا للحملة الصليبية الأولى البابا أوربان الثاني وكان بطرس الناسك من أبرز المحرضين عليها ، والاثنان بالمناسبة من فرنسا .
    دخل المسلمون الأندلس بناءً على استغاثات من أهلها لكي يحرروهم من جور الحكام الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب ، و لقد أقبلت غالبية أهل تلك البلاد على اعتناق الإسلام و ازدادوا خلال 8 قرون . ما حصل ، بعد ذلك ،هو أن تلك البلاد تعرضت لغزوات متواصلة من الجهة الشمالية ممن تسميهم كتب التاريخ “الفرنجة أو الإفرنج ” و هؤلاء هم الفرنسيين بالضبط (French) . سيطر الفرنسيون ، و من ناصرهم من الأوروبيين على البلاد و ارتكبوا جرائم فظيعة بحق المسلمين من خلال (Inquisition) أي “محاكم التفتيش الرهيبة ” و هي اختراع بدأ في فرنسا ثم امتد إلى إسبانيا و يشمل التعذيب و القتل و التهجير أو الارتداد عن الدين .
    معلوم أن الصليبيين احتلوا القدس و ارتكبوا فيها مجازر ، ثم قيَض الله صلاح الدين الأيوبي لتحريرها في تشرين أول / أكتوبر سنة 1187 و كانت في ذلك هزيمة لكل أوروبا و على الأخص فرنسا و انجلترا . السلوك الحضاري الرفيع و التسامح من صلاح الدين ، مع المستوطنين الأوروبيين ، لم تكن منه فائدة بل اشتعلت أوروبا بنيران البغضاء و الحقد و كرروا الحملات دون أن يظفروا بنائل .
    في تمّوز/ يوليو 1920 ، دخل الجنرال الفرنسي غورو دمشق منتصراً بقوّاته وتوجَّه من فوره إلى قبر صلاح الدين ليقف أمامه قائلاً: ها قد عدنا يا صلاح الدين”! و قبلها بحوالي 3 سنوات سقطت القدس في كانون أول /ديسمبر 1917 بأيدي الانجليز فإذا باللورد اللنبي يخطب بالناس قائلاً كلمته المشهورة (الآن انتهت الحروب الصليبية) ثم أهدى النصر على الجيش العثماني – الذي كان من ضمنهم جدي والد أبي رحمهما الله – إلى الأمة البريطانية في عيد الميلاد المجيد كما قال . كان العنوان الرئيسي على الصفحة الأولى من جريدة نيويورك هيرالد الأمريكية في 11 ديسمبر 1917: ” القوات البريطانية تنقذ أورشليم بعد 673 سنة من حكم المسلمين.”
    هذه العبارات من ضابطين فرنسي و انجليزي ، كانت تعني بالضبط أنه خلال 733 سنة ، جرت تربية لأهالي البلدين فيها تغذية الكراهية و تراكم الأحقاد مع أنهم في الظاهر كانوا يبدون و كأنهم خلعوا ثوب الدين الكاثوليكي و الدين البروتستانتي و اعتنقوا العلمانية و المادية و الإلحاد .
    بمجرد تعيينه كرئيس لفرنسا ، قام إيمانويل ماكرون بإعلان الحرب على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم و دين الإسلام و الجالية المسلمة في فرنسا زاعماً أن الأديان تتناقض مع مبادئ الجمهورية العلمانية بالمظهر و بالجوهر . لكن صبراً ، نفس هذا الشخص يكذب فلقد حصل في الفاتيكان عام 2018 على اللقب الفخري (canonicus) باللاتينية و هي تعني أنه”كاهن أو شماس كاتدرائية القديس يوحنا اللاتراني الواقعة في روما ” ، وعليه التعهد بنشر الكاثوليكية .
    الوسام الأعلى في فرنسا اسمه(Grande Croce Legion della d’Onore) و بالعربية (وسام الصليب الأعظم لجوقة الشرف الوطني (و قد أعطاه ماكرون للسيسي في ديسمبر 2020.
    مخطئ من يظن أن الدين لا يلعب دوراً هاماً بل الأهم في السياسة الدولية المعاصرة ، ففضلاً عن أن جورج بوش الابن أعلن أن حروبه “صليبية” على أمتنا فإن بول بريمر – الحاكم العسكري الأمريكي للعراق- قال أن أمريكا احتلت العراق لتصحيح خطأ “سيطرة الإسلام السني على ذلك البلد” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى