مقالات

ألمانيا وحلحلة متاريس بوابات الهجرة

د. مصعب عزاوي

كاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

قد يستقيم القول بأنسياسة ألمانيا في قبول المهاجرين هي حقاً الأكثر انفتاحاً في عموم القارة الأوربية في الوقت الراهن، والتي تتسم جل سياسات دولها المتعلقة بقبول المهاجرين بعنصرين مكونين عضويين فيها؛ الأول هو عنصرية صارخة أو مواربة، والثاني هو حالة من الرهاب الهذياني الجمعي من طوفان المهاجرين الذي «يتربص» أي فرصة سانحة للانقضاض على المجتمعات الأوربية، و«تلويثها» بمفرزات «تخلفه» و«وضاعته» الحضارية، في حالة تعام جمعي مع سبق الإصرار والتعمد لإنكار أن حال جل أولئك المهاجرين المعذبين لم يكن على ما هو عليه من بؤس لولا مفاعيل النهب الممنهج لكل إمكانيات مجتمعاتهم للنهوض الاقتصادي والحضاري بالشكل الذي يتنعم به الأوربيون، كناتج مباشر للأهوال التي أفرزها الاستعمار الكولونيالي الأوربي ابتداء من القرن السابع عشر في مجتمعات دول الجنوب من خبث ونكوص وتقهقر، وهو الواقع الذي استمر بتزويق شكلي فقط بعد رحيل المستعمرين الأوربيين شكلاً عن تلك المجتمعات لتركها في عهدة نواطير محليين من الطغاة و المستبدين هم في الواقع قائمون بأعمال خدمة مصالح المستعمرين القدماء والحفاظ على ديمومتها. وهو واقع لا بد من أخذه بعين الاعتبار عند محاكمة أي سياسة تبدو منفتحة تجاه المهاجرين في أي من أصقاع القارة الأوربية، والتي إن كان هناك حد أدنى من العدل قائماً على المستوى الكوني، لكانت كل الدول الأوربية مرغمة على دفع تعويضات وحصص وافرة من ثرواتها ونتاجها القومي لأولئك الذين قام الأوربيون بسرقة ونهب مجتمعاتهم في إفريقيا وآسيا وجل المستعمرات الأخرى كمقدمة لنهوض أوربا اقتصادياً خلال القرنين التاسع عشر و العشرين عبر تحقيق ذلك التراكم الضروري للثروة المنهوبة، و التي دونها كان يستحيل الاستثمار المكلف في تحقيق بنية تصنيعية متقدمة يمكن لها إنتاج قيمة فائضة فائقة عبر تحويل المواد الأولية إلى مصنعة، في تفارق عن الواقع المزري راهناً مشخصاً بانحشار كل دول الجنوب عموماً في حيز الصناعات ذات القيمة الفائضة شبه الصفرية، والتي تقع غالباً في حيز الصناعات الاستخراجية للمواد الأولية، وزراعات المحاصيل المعدة للتصدير.

وفيما يتعلق بسياسة الحكومة الألمانية لفتح أبوابها خلال السنين الأخيرة للمهاجرين، بشكل ممنهج ومضبوط فإنه لا يعود لأخلاقية الألمان الفياضة، التي ليست جزءاً من الإرث الثقافي الوحشي للأنغلوساكسون عموماً، وإنما تعود لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية التي جعلت من الحكومة الألمانية مرغمة على فتح أبوابها بشكل محدود للمهاجرين خلال السنوات القليلة الأخيرة.

وقد يكون على رأس تلك الأسباب الدفاع الألماني المستميت عن مشروع الاتحاد الأوربي، والذي يمثل فعلياً مشروع هيمنة اقتصادياً وسياسياً وحتى اجتماعياً للمركز الألماني، وآلته البيروقراطية المهولة، بشكل لا يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان في ذهن ساسة ألمانيا النازية إبان الحرب العالمية الثانية، ولكن دون قعقعة سلاحهم وضجيج خطاباتهم النارية. ويكمن الدور الحساس لمسألة اللاجئين والمهاجرين إلى داخل حدود الاتحاد الأوربي في أنها طرحت امتحاناً حقيقياً لحقيقة التعاضد والالتحام الأوربي سياسياً واجتماعياً، واستعداد كل من أعضائه للتشارك في تحمل التبعات الاقتصادية والسياسية وحتى الأخلاقية اللصيقة بمبدأ التشارك في اتحاد فضفاض مثل الاتحاد الأوربي. وهو الامتحان الذي أخفق فيه بشكل شبه مطلق كل أعضاء الاتحاد الأوربي السابحين في فلك مركز ذلك الاتحاد الألماني، إذ عند تعرضهم لذلك الامتحان وما رافقه من شدة وتبعات، فضل كل من أعضائه النكوص إلى تقوقعه الجغرافي، وسلطاته المحلية، بدل تحمل تبعات مبدأ التشارك في الأكلاف والمغانم نظرياً، والتي اقتضت في حالة المهاجرين اللاجئين إلى حدود دول الاتحاد الأوربي تقاسماً عادلاً منصفاً بشكل ما على حسب تعداد سكان الدولة أو مساحتها أو حسب معادل يأخذ المعاملين الاثنين بعين الاعتبار، وهو ما كان قنبلة يمكن أن تفجر مشروع الاتحاد الأوربي برمته، نظراً للرفض غير القابل للتغاير للأنظمة اليمينية شبه الفاشية في بولندا وهنغاريا مثلاً للمشاركة بأي شكل كان قليلاً أو كثيراً في استقبال أي من المهاجرين الذين تمركزوا أساساً في اليونان وإيطاليا اللتين بدأتا بإجهار صوتهما عالياً بالمطالبة بتحمل شركائهما الأوربيين المشاركة العادلة في استقبال حصتهم من أولئك اللاجئين الذين تكدسوا في مخيمات الإسكان المؤقت. والواقع يشي بأن تلك المطالبات لم تلق أي آذان صاغية في أي من دول الاتحاد الأوربي الشريكة بأي شكل ذي معنى، وهو ما اضطر المركز الألماني للتدخل بشكل طارئ لضمان عدم تفجر الاتحاد الأوربي، وإعلان دوله خواءه السياسي، وأنهم في حل من التزاماته التي لا تنسجم مع الواقع السياسي المتغاير في كل دولة منه عن الأخرى، ولم يكن لذلك التداخل من خيار يفصح به عن نفسه سوى فتح الحدود الألمانية لاستقبال اللاجئين إليه في خيار لم يكن سوى خياراً ذرائعياً لا بد منه على طريقة ونهج مؤسس ألمانيا الحديثة بسمارك في فلسفته للسياسة الحقة «Real Politic»، التي هي في جوهرها نهج ذرائعي ليس فيه مكان لأي اعتبارات أخلاقية أو مبدئية أو ما كان على شاكلتها. وهو ما كان بنتيجته تنفيس الأزمة الوجودية الخانقة التي كادت تفجر مشروع الاتحاد الأوربي، وتأجيل استحقاقاتها إلى حين آخر.

ومن ناحية أخرى لا بد من الالتفات إلى حقيقة مضمرة تتعلق بهرم المجتمعات في أوربا الغربية عموماً وألمانيا خصوصاً بشكل مقلق يحتمل أن يؤثر على قدرة المجتمع الألماني مثلاً على تأمين يد عاملة كافية لتشغيل مؤسساته الإنتاجية ومعامله، وهي الحقيقة التي لا بد أنها كانت حاضرة في ذهن كل الساسة الألمان الذين ارتأوا كسباً إضافياً يمكن تحصيله من فتح حدود ألمانيا بشكل نسبي لللاجئين، وخاصة لأولئك القادمين أساساً من كردستان وأفغانستان وإيران، نظراً لكونهم مصنفين كحد أدنى بشكل مضمر غير معلن وفق التصنيف النازي للأعراق، الذي خبا ولم يندثر في وجدان الشعب الألماني لمن يعرف عقليته ونمط تفكيره، في خانة الأقوام الآرية التي تنتسب إليها القبائل الجرمانية حسب نهج ذلك التصنيف الخلبي الذي لا سند عملياً له، بالإضافة إلى أن الكثير منهم ببشرات بيضاء وعيون ملونة، و هو ما يتماشى مع الميول العنصرية الراسخة في وجدان الشعب الألماني للتفريق الظلامي بين البشر على أسس واهية. وذلك النسق الأخير يتسق أيضاً مع حقيقة فتح أبواب الهجرة للاجئين السوريين والذين كثير منهم يصب في تلك الخانة التصنيفية الهرائية المرتبطة بعدم تناقض الملامح العامة للسوريين الذين يشبه الكثير منهم أقرانهم في حوض المتوسط، بالإضافة إلى الميزة الأهم المتعلقة باللاجئين السوريين والمتمثلة في كون جلهم من الفئات الشابة، وفي عمر الإخصاب، بالإضافة إلى كون الكثير منهم من الفئات المؤهلة علمياً وتقنياً بشكل واف لاستدماجهم بسرعة في عجلة الإنتاج الألماني التي هي بأمس الحاجة ليد عاملة شابة كما أسلفنا آنفاً.

وعلى المقلب الآخر لا بد من الالتفات إلى الكسب الإعلامي المنقطع النظير الذي حققته ألمانيا بإظهار نفسها الدولة الأكثر رحمة ورأفة وعطفاً وإنسانية وتحسساً لمعاناة اللاجئين إلى حدودها، وهو كسب إعلامي طالما كانت تبحث ألمانيا عن وسيلة لتحقيقه بكل الأشكال، ولما تفلح في إيجاد رافعة عملاقة لإشهاره بالجملة وليس بالقطارة كما كان يحدث سابقاً، وهو الذي كانت مأساة اللاجئين الحل السحري لنقله ذلك الهدف من حيز المنشود سياسياً وإعلامياً إلى حيز التحقق بقوة الصورة وبأشكال وتلاوين لا حصر للأشكال التي يمكن تغطيته بها إعلامياً. ويكمن السر في ذلك التعلق المنقطع النظير بغاية تلميع صورة ألمانيا الإنسانية بهدف ليس مضمراً بشكل كلي يرتبط بتبيض صورة الشعب الألماني التاريخية  الوحشية التي اختطها الألمان لأنفسهم برضاهم وعبر مؤسساتهم الديموقراطية، وعبر صناديق الاقتراع، ممثلة بالغول الألماني الوحشي الذي أفصح عن نفسه في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفكرياً في نموذج الوعي العنصري البغيض للفكر النازي، والذي لم يأت به هتلر من فراغ، وإنما استنهضه من كمونه في الوجدان الجمعي للشعب الألماني، معطياً إياه شكلاً ولوناً وخطاباً إيديولوجياً ومارداً حربياً كاد أن يدمر العالم بأسره.

ولا بد لكل مراقب حصيف من عدم الانسياق في تثمين تلك المسحة الإنسانية الغامرة التي حلت على الشعب الألماني حين فتح أبوابه لللاجئين، عبر البحث والتنقيب المدقق لاستكناه ما قد يكمن وراء الكواليس وتريد الآلة الإعلامية الغربية إخفاءه، متمثلاً بالوجه الحقيقي للسياسة الألمانية حينما يتعلق ذلك بحقوق المستضعفين من اللاجئين وغيرهم. ويمكن تلمس ذلك الوجه الحقيقي من خلال تعقب السياسات الألمانية السياسية الراهنة بحق اللاجئين إلى حدودها من شعوب الروما والسندي، وهم الذين يتم تسميتهم باللغة العربية بالأقوام «الغجرية»، وهم في الحقيقة ليسوا لاجئين بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ أن الغالبية المطلقة منهم تحمل جنسيات أوربية غالباً رومانية أو سلوفاكية، وجميعهم لا بد أن يحق لهم حق الانتقال الحر بين أي من دول الاتحاد الأوربي الذي تتربع على عرشه ألمانيا نفسها. ولكن الحقيقة الواقعة تخالف ذلك الظن النظري المحض، إذ أن كل الآلة البيروقراطية للدولة الألمانية شرطة، وقضاءً، وبلديات، مسخرة «لكنس» أولئك المستضعفين من البشر «غير المنمقين»، وحصارهم أساساً للعيش في مجمعات سكنية شبه معزولة، يتم التدقيق الشرطي في كل داخل إليها وكل خارج منها، بشكل لا يختلف كثيراً عن النهج الألماني في تخليق مفهوم «الغيتو» وباللغة الإنجليزية «Ghetto» والذي كان النهج الاجتماعي الأوربي السائد في كل أوربا باستثناء بولندا منذ القرن الخامس عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية في عزل «اليهود» في مناطق محددة لهم لا يستطيعون الانتقال منها أو السكن خارجها، وهي الممارسة التي تم نقلها إلى مستوى وحشي لا سبق له عبر توسعتها، لتصبح معسكرات للاعتقال الجماعي، إبان العهد النازي في ألمانيا، وهي التي تم استدماج غرف الإعدام بأفران الغاز فيها، لشواء بضعة ملايين من اليهود فيها، بالإضافة إلى بضعة مئات الألوف، التي قد تصل إلى أكثر من مليون ونصف من نفس شعوب الروما والسندي الغجرية التي أشرنا إليها آنفاً، في حلقة معيبة مخزية يبدو فيها أن التاريخ يكرر نفسه بإعادة إنتاجها بخبث ودهاء منتجاً إفرازات قيحية جديدة لا تختلف إلا في مظهرها وآلية تشكلها عما كان يحدث في ألمانيا في زمن غير بعيد.

وفي نفس السياق لا بد من التشديد على حقيقة حاولت كل وسائل الإعلام العالمية المتسيدة إخفاءها، والمتمثلة في سياسة غض النظر التي اتبعتها الحكومة الألمانية خلال السنين الأخيرة، والمتمثلة بعدم الضغط على شريكاتها من الحكومات الأوربية التي تطل دولها على الساحل الجنوبي لأوروبا على البحر المتوسط، لغاية دفعها لاتخاذ إجراءات وقائية ذات معنى يمكن أن تسهم في إنقاص أعداد اللاجئين الذين يقضون نحبهم أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط من سواحله الجنوبية في شمال أفريقيا عبر «قوارب الموت» سعياً لحياة من نوع ما تتفارق مع حالة «الموت المقيم مع وقف التنفيذ» الذي يكابدونه في مجتمعاتهم المنهوبة المفقرة. وهو الواقع الذي حول البحر المتوسط إلى ما يشبه «المقبرة الجماعية» لكل أولئك المظلومين الذين لم يجدوا أيادٍ تسعفهم من الغرق في لج البحر، وهو ما كان ممكن التحقيق في حال وجود إرادة سياسية لدى الساسة الألمان لتحقيق ذلك بقوة سيطرتها الحديدية على مفاصل الحل والعقد في الاتحاد الأوربي، وخاصة «البنك الأوربي» الذي تمثل قروضه شريان الحياة الذي حمى اقتصادات إسبانيا، وإيطاليا، واليونان من الانهيار وإعلان إفلاسها في غير مرة وحتى اللحظة الراهنة.

وهو الواقع البائس الذي لم يحظ بأي تصريح أو تلميح سياسي ألماني لرفض مفاعيله الإنسانية المهولة المتمثلة بغرق المئات من البشر ذوي اللحم والدم إلى أعماق البحر المتوسط، وهو ما قد يشي بأن ما قامت به ألمانيا تجاه اللاجئين لم يكن إلا إجراءات تكيفية لإدارة أزمة طرأت على الاتحاد الأوربي، وتلاقت مع أهداف ذرائعية محضة ترتبط بمصالحها الاقتصادية والإعلامية المباشرة، دون أن يقترب ذلك كثيراً أو قليلاً من حياض الأخلاق والإنسانية التي كل الوقائع تشي بأنها معدومة في القاموس السياسي الذرائعي الألماني منذ تأسيس ألمانيا دولة وحتى اللحظة الراهنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى