مقالات

مستقبل الربيع العربي بين “ديمقراطية الغرب” و بين “ديمقراطية المتفرنجين”

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب


لفت نظري، وانا أراجع شريط أحداث “ثورة يناير” في مصر، الخطاب الذي ألقته المستشارة الألمانية، يوم السبت 5 شباط/ فبراير 2011، أنجيلا ميركل أمام مؤتمر ميونخ للأمن، الذي يعقد في شباط من كل سنة ويضم جمهرة من القادة والسياسيين والعسكريين. 5 شباط أي قبل “تنحي” مبارك عن السلطة لصالح الجيش بستة أيام (الجمعة 11 شباط 2011). في خطابها لاحظت ميركل أن أحداث الربيع العربي فاجأتهم، فلم يلحظوها في التحضير لمؤتمر ميونيخ، و مع ذلك حاولت أن تطرح رؤية وسطية تدور بين الإعتزاز بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، جاعلة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن منظمة الأمم المتحدة المرجعية العليا التي يجب التمسك بها والاحتكام اليها لجهة احترام الحريات و حقوق الإنسان، قائلة :” لا يمكننا خيانة أنفسنا بالتخلي عن مطالب هؤلاء المتظاهرين الذين تحدوا حاجز الخوف وخرجوا بشجاعة للاحتجاج ضد الظلم….فيجب إحترام الحريات العامة و حرية التعبير وحرية الإعلام وحرية التعبير ليس فقط في أوروبا وأمريكا بل على السلطات في مصر أن تحترمها….التغيير قادم في مصر ولا بد، ولكن يتوجب علينا “ضبط” التغيير القادم.هذا هو واجبنا، و قد اتفقت مع هيلاري كينتون (وزيرة الخارجية في عهد أوباما) على هذا، خاصة ونحن لنا صلات بشبكة منظمات المجتمع المدني هناك…”
من جهة أخرى ، وهنا بيت القصيد، حذرت ميركل في كلمتها بضرورة الحفاظ على مصالح الغرب التي تتطلب وجود الاستقرار( في البلاد التي تشهد فورة التغيير في تونس ومصر وشمال افريقيا، ولم تذكر سوريا ولا ليبيا إذ لم تكن الأحداث فيهما بعد)..فقالت:” هناك تعارض بين المحافظة على قيمنا (المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات العامة) وبين الحفاظ على مصالحنا… وعلينا أن نعي أنه ليس بوسعنا تصدير نموذج الديمقراطية كما هي في ويستمنيستر، (مقر حكومة لندن) وأنا أقول هذا بحضور رئيس الوزراء البريطاني (ديفيد كاميرون يومذاك)…فللمناطق الأخرى ثقافات خاصة لا نستطيع التدخل فيها لنفرض نموذجنا”…
كان كاميرون متفقا تماما مع ميركل، وكذلك هيلاري كلينتون. ففي 21 شباط/ فبراير قام كاميرون بجولة واسعة في دول المنطقة من مصر الى الكويت و البحرين والامارات، مصطحباً معه وفداً ضم 36 من كبار ممثلي الشركات البريطانية وعلى رأسها شركة بريتيش ايروسبيس BAE. وكان ليام فوكس ،سكرتير وزارة الدفاع في حكومة كاميرون، صرّح يومها بأنه حريص على أن تحصل الشركات البريطانية على “حصة وازنة” من سوق السلاح في الشرق الأوسط. في 22 شباط/ فبراير 2011 نشرت جريدة الغارديان تفاصيل تجارة السلاح بين بريطانيا و حكومات الشرق الأوسط والتي بلغت بين أوكتوبر 2009 إلى أوكتوبر 2010 قرابة مليارين جنيه استرليني، متجاوزة سقف 2008 البالغ 1.6 مليار جنيه، ضمت كافة أنواع الذخيرة والغاز المسيل للدموع والأدوات اللازمة لشرطة مكافحة الشغب!
طبعا هذا كله ليس مفاجئا للمراقب الحصيف، فمن المعلوم بداهة أن المجمع العسكري المالي الصناعي يتحكم في مفاصل القرار في عواصم الدول الغربية، هذا المجمع الذي ينصّب الحكومات ويطيّرها وفق ما تقتضيه مصالحه، ولا يوجد في قاموسه أي إشارة لحقوق الإنسان والحريات وما شاكل من الألفاظ المثيرة، عندهم، للغثيان، وإن كانوا لا يمانعون في إستخدامها كورقة التواليت متى ناسبتهم، كما نسمع من حين لآخر انتقاد لهذا الحاكم أو ذاك.
والسجل الاستعماري الكالح للحضارة الغربية، التي بنت ثرواتها على جماجم وأشلاء الشعوب المغلوبة على أمرها سواء في قارات العالم القديم أو في العالم الجديد المكتشف أمريكا، غني عن الذكر، ولا يتسع المجال لاستعراض أبشع ما فيه.
ولكن ما صدمني، ليس إعلان جورج بوش للحرب الصليبية حين أطلق عدوانه على أفغانستان في 2001، ولا تصريح فرانسوا ميتران قبله بأن فرنسا ستجتاج الجزائر إذا وصل الإسلاميون، الجبهة الإسلامية للإنقاذ يومها، إلى الحكم، وهذا ما أراحه جنرالات الجيش الجزائري من عبئه، كما لم يصدمني أن ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني، الذي كان حاضرا في خطاب ميركل سالف الذكر في 5 شباط/ فبراير 2011، أرسل وفدا من كبار مساعديه لتهنئة جزّار رابعة الجنرال السيسي في 11 حزيران 2014 بعد تنصيبه رئيسا لمصر، ولا استقباله للسيسي في لندن عاصمة الماغنا كارتا في 5 نوفمبر 2015، مع علمه التام بوجود عشرات الآلاف من المعتقلين في زنازين جزّار رابعة…
ما صدمني كان تصريح الدكتور منصف المرزوقي، في المحاضرة التي استضافها ، في 24 كانون الثاني 2022، الإعلامي معتز مطر بعنوان ”الربيع العربي..مسارات الحركة وآفاق النصر” حيث دعا المرزوقي، ضمن نصائحه للموجة القادمة للتغيير، إلى ضرورة إقصاء تيار الإسلام السياسي الديمقراطي من بين صفوف الحراك الشعبي، وذلك لعدم فقدان تأييد الطبقة الوسطى كما قال.
فهذه الدعوة تُريح قادة الغرب في اوروبا وأمريكا من همّ اجتياح الجزائر أو مصر أو غيرها إذا ما تجرأ الناس فيها على التعبير بحرية عن مكنونات صدورهم فانتخبوا شخصاً مثل الدكتور محمد مرسي رحمه الله، أو الشيخ علي بلحاج في الجزائر…فإذا كان الدكتور المرزوقي لا يتحمل مشاركة تيار الإسلام السياسي الديمقراطي، فهل يريد أن يخرج الناس من صلاة الجمعة إلى الميادين متحدّين جلاوزة النظام بصدورهم العارية للمطالبة بالعلمانية التي تُرضي قادة الاستعمار الغربي، الذين لا يرضون بغير قيود العبودية التي تمكنّهم من التحكم برقابنا ونهب ثرواتنا!
تلك، لعمري، إذن قسمة ضيزى! وهذا يكشف أن مستقبل الربيع العربي لا زال ضائعاً وسط ضباب انعدام الرؤية الحضارية المنبثقة من عقيدة الأمة المتجذرة في قلوبها عبر القرون.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. ان العلمانيين هم فراخ المبدأ الرأسمالي مهما هبطت درجاتهم او ارتفعت عمليا او علميا فهم فراخ مزارع الرأسماليه فإن لانوا في الحديث فقد حذرنا الله من لين حديثهم فإن في السنتهم السم الزعاف ، وهم اعتادوا على بيع اوطانهم واعراضهم ارضاء لأسيادهم الذين اشبعوهم ذلا وهوان ولذلك لايرجى منهم خيرا ولو اقبلوا على الخير فقلوبهم تأنفه ولا تستسيغه تربوا في احضان الرذيلة فسقطوا فما لهم من مرد ولذلك هم العدو فإحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ، ولذلك يجب ان يكونوا الهدف الاول في العمليه التعبيريه وعلى رأس قائمة الاهداف التي لايجوز ابدا أن تغيب عن الاذهان وان تكون ركنا ركينا في مخططات التغيير القادمه (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار)

    1. أخي الكريم سالم …أتفهم حدة تعبيرك في رفضك لفراخ الاستعمار..وهذا تعبير جميل..ومع ذلك فأذكّر بالقول الماثور للإمام علي رضي الله عنه ( ليس من طلب الباطل فأدركه كمن طلب الحق فأخطأه)…وأرى التفرقة بين من روّج لمقولات الاستعمار والمستشرقين وهو يعي ما يفعل، وبين من اختلطت عليه الأمور نتيجة سوء فهم أو فهم خاطيء، أو قصور من جانب الدعاة إلى الإسلام..وأذكر هنا حديثا للشيخ حازم أبو اسماعيل، فرّج الله عنه وعن سائر المعتقلين في زنازين جزّار رابعة، قال فيه: قد يكون الدعاة إلى الإسلام هم دعاة إلى العلمانية من حيث لا يشعرون، ثم شرح بأنه حين يقصر الدعاة في طرح الإسلام كنظام متكامل للحياة، ويقصرونه فقط على جوانب ضيقة من أمور العبادة فهذا الطرح يكرّس عمليا النظرة العلمانية بأن الإسلام يدور حول الأمور التعبدية ولا شأن له في قضايا المجتمع والدولة..و فالأولى بنا أن نعمل على إزاحة الغشاوة على أبصار هؤلاء المنضبعين بالطروحات الغربية، فنحرص على أن يشاركوا معنا في التخلص من رواسب الاستعمار كما يشاركوا في تعظيم شعائر الله بتطبيق شرعه في شؤون المجتمع والدولة كافة..والله الهادي إلى سواء السبيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى