مقالات

الليرة التركية وعهر التصنيف الائتماني!

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب


لأبدأ من الليرة التركيَّة وهي لست موضوعنا، ولٰكن لتكون مفتاحاً لفهم سياسة العهر والفجور التي تمارسها مؤسَّسات التصنيف الائتماني.
كان لنا أكثر من حديث عن تدهور الليرة التركيَّة بتفاصيل متعددة تكاد تكون شملت مختلف الجوانب ليتبين لنا أنَّ كل الأخطاء الاقتصاديَّة التركيَّة لا يمكن أن تكفي لتبرير هٰذا التدهور والانهيار في الليرة التركيَّة، وما يؤدي ذٰلك من انعكاسات سلبيَّة علىٰ الاقتصاد التركي.
تبين بالأدلة عدم وجود أخطاء في السِّياسة الاقتصاديَّة التركيَّة والنشاط الاقتصادي التركي تبرر انهيار الليرة التركيَّة واستمرار الانهيار في الأسعار في تركيا علىٰ الرَّغمِ من استقرار سعر صرف الليرة التركيَّة، ناهيك عن التنامي اللافت في النشاط الاقتصادي التركي.
كانت الذَّريعة الأساسيَّة والكبرىٰ وشبه الوحيدة هي قيام المصرف المركزي التركي بخفض أسعار الفائدة والاستمرار الدَّوري في ذٰلك. وتبين بالدَّليل والبرهان أنَّ هٰذه ذريعة لا سبباً ولا دليلاً. وعلىٰ افتراض قبول ذٰلك سبباً فإِنَّهُ لا يمكن أن يتوازىٰ مع حجم تدهور سعر صرف الليرة التركيَّة.
أشرت في بحث سابق إلىٰ أنَّ السر يكمن فيما يُسمَّىٰ سياسة التَّصنيف الائتماني ولٰكنِّي لم أتوسع في ذٰلك لأني هدفت إلىٰ تخصيص حديث خاص لهٰذا الموضوع.
هٰذه المؤسَّسات التَّصنيفيَّة للأمان الاستثماري، أي التصنيف الائتماني تقوم بَيْنَ الحين والحين بإصدار تصنيفاتها للدُّول، وهٰذه التَّصنيفات هي التي تحكم سعر صرف عملات الدُّول ومدىٰ إمكانيَّة التعامل مع هٰذه الدُّول استيراداً وتصديراً ، ومدىٰ المخاطر والأمان في هٰذه الدُّول للاستثمار وهلم جرًّا.
من جهة المبدأ هٰذا سلوك جيد، ولٰكنَّ مبدأ هٰذه المؤسَّسات هو الضلال والتضليل ومحاربة دول بعينها ومحاصرتها اقتصاديًّا من دون وجود عقوبات رسميَّة من دولة أو منظمة دوليَّة. وهٰذا الكلام في تحديد هويَّة مؤسَّسات التَّصنيف الائتماني ووصفها بأنها مؤسَّسات استخباراتيَّة أمريكيَّة وغربيَّة لمحاربة الدُّول ومحاصرتها بطريقة غير مباشرة، هٰذا الاتهام لها ليس من عندي، وليس من اجتهادي، وإنَّمَا هو أصابع اتهام كثيرة توجه لها منذ عشرات السِّنين وليس الأمر بالجديد، ومن قبل اقتصاديين من مختلف أرجاء العالم وليس من قبل أبناء المظلومين وحسب. كثيرون جدًّا في أرجاء العالم يطعنون في أمانة مؤسَّسات تصنيف الأمانة والأمان ويقطعون بخلوها من الأمان وافتقارها إلىٰ النزاهة، والطلاق بَيْنَها وبَيْنَ والصِّدق. وأَنَّهَا تقوم بذلك نيابة عن الولايات المتحدة الأمريكيَّة والغرب عامة في شن الحروب الظالمة علىٰ الدُّول لتدمير اقتصاداتها بغية إخضاعها وفرض سياسات محددة عليها… من دون أن تخسر أمريكا ولا الغرب قرشاً واحداً في هٰذه الحروب علىٰ هٰذه الدُّول. إنَّهَا فقط تصريح مؤسَّسة ائتمانيَّة بوضع هٰذه الدَّولة أو تلك في تصنيف متردٍّ.
ولذٰلك، كما سنبين بعد قليل، تجد الدُّول المنسجمة مع السِّياسة الأمريكيَّة والغربيَّة تصنيفها الائتماني أعلىٰ بكثير من الدُّول التي لا تنسجم سياساتها مع أمريكا والغرب، علىٰ الرَّغمِ من أن الدُّول المنسجمة مع السِّياسة الغربيَّة منعدمة أو شبه منعدمة النظام الاقتصادي، ومنعدمة الأمان، إذا ما قورنت من الطرفين مع دول تصنيفها الائتماني ضعيف بسبب عدم انسجامها مع السِّياسة الأمريكيَّة والغربيَّة.
أعود إلىٰ تركيا، وهي شاهد من كثير سيأتي، عندما كانت تركيا مدينة لصندوق النقد الدُّولي بـ 74 مليار دولار، وكانت تقمع الحريات الدينيَّة وحَتَّىٰ السِّياسيَّة، وكانت ضعيفة اقتصادياً، كان تصنيفها الائتماني جيدًّا أو ليس سيئاً علىٰ أقل تقدير، وعندما هب الاقتصاد التركي في النمو القوي والسرع والمستقر واستطاعت تركيا سداد ديون صندوق النقد الدُّولي وغير ذٰلك من عناصر القوة والنمو… هنا صارت مؤسَّسات التصنيف الائتماني ذاتها تصنف تركيا تصنيفاً سلبيًّا. كان ذٰلك منذ وضوح نجاحات حزب العدالة والتنمية الهائلة علىٰ المستوىٰ الاقتصادي المحلي والعالمي. ومنذ ذلك الحين إلىٰ اليوم وهٰذا التصنيف مستقر علىٰ مرتبة السوء والمخاوف. أي منذ ما قبل انهيار الليرة التركيَّة. ولٰكن في السَّنوات الأخيرة ازداد عهر المؤسَّسات الائتمانيَّة في محاربة تركيا مستغلة بعض الظروف لضرب الاقتصاد التركي ومحاربة حزب العدالة والتنمية تحديداً، وتم التركيز علىٰ سعر صرف الليرة التركيَّة بالتآمر والتزامن مع حرب العملات التي شنها الرئيس الأمريكي ترامب وبعض الدُّول العربيَّة ضد تركيا كما يعلم الجميع ولم يكن الأمر سرًّا أبداً.
علىٰ أي أساس يتم هٰذا التصنيف إذن؟
حَتَّىٰ ولو ان الأمر علىٰ أساس الاستقرار الأمني فإِنَّهُ لايوجد ما يكفي للاقتناع بهذا التصنيف، ولننظر في بعض التصنيفات لنفهم ذٰلك أكثر.

من الملاحظ في جدول التصنيفات أن الدُّول الغربيَّة عامة تصنيفها دائماً خارق في الأمان والأمانة والائتمان، وهٰذه عينة صغيرة يمكن تعميمها نوعاً ما. الدُّول الغربيَّة التي تشهد أعمال عنف وعنصريَّة أكثر من كثير من الدُّول تصنيفها الأماني والائتماني أعلىٰ درجة، بينما تركيا مثلاً التي لا تعرف ربع ما يحدث من عنف وعنصريَّة في تلك الدُّول تصنيف مخيف.
إذن، لا اقتصاديًّا صدقت معايير التصنيف الائتماني، ولا سياسيًّا، ولا اجتماعيًّا. ومع ذٰلك لننظر في شواهد أُخْرَىٰ.

تخيل الآن مع هٰذه العينة الجديدة التصنيف الائتماني لسنغافورة، إسرائيل آسيا الثانية كما يسمونها، أعلىٰ من التصنيف الائتماني لليابان التي هي من هي في الاقتصاد والقوة الاقتصاديَّة، وتخيل في الوقت ذاته أن سلوفاكيا بل وتايوان أعلىٰ أماناً اقتصاديًّا واستثماريًّا من اليابان. علىٰ أي أساس وما المعايير التي تَمَّ اعتمادهاً؟ لا قوة الاقتصادي تبرر، ولا الأمان الاجتماعي يبرر، ولا الاستقرار يبرر. فما الذي يبرر إذن؟ ومع ذٰلك لننظر في الشاهد الجديد الذي يهمنا أكثر من غيره.

مع هٰذا الجدول التصنيفي، وكل ما سبق في فترة واحدة، قلما تغيرت منذ نحو ثلاثين سنة إلا في حدود طفيفة. مع هٰذا الجدول تبدو المفارقات علىٰ نحو أوضح. إسرائيل التي منذ نشأتها وهي في حالة حرب مستمرة، ومقاومة مستمرة للاحتلال، واقتصاد قائم علىٰ المعونات والصدقات منذ نشأتها، وتجارتها محدود ومن باب الصدقة والإشفاق عليها والدعم لها من قبل العالم الغربي، وأي كلام عن تطور اقتصادي في إسرائيل كلام كاذب وتضليلي. وفي ظل ذٰلك كله تصنيفها الائتماني دائماً في الذروة، في المرتبة الأولىٰ. بَيْنَما جيرانها كلهم في مستوىٰ الخطر الائتماني، والتحذير من الاستثمار فيها بسبب المخاوف الأمنيَّة، علماً أن النشاط الاقتصادي لبعض الجوار أفضل من إسرائيل بكثير.
تخيل في الوقت ذاته أنَّ الائتماني للأردن مثلاً، وهي صفر في النشاط الاقتصادي والثورات والإنتاج من أي نوع مساوية لتركيا تماماً!!! ومع ذٰلك فإن سعر الدينار الأردني مستقر منذ سبعين سنة لا يتزحزح قيد أنملة!! وفي الوقت ذاته تخيل أن أوكرانيا مساوية في التصنيف الائتماني لتركيا علىٰ الرَّغمِ من الاضطرابات التي تنعيشها منذ أكثر من عشر سنوات، وعلىٰ الرَّغمِ من عدم جواز مقارنة اقتصادها بالاقتصاد التركي علىٰ مختلف المستويات!!
وهنا كان قديماً يخطر في بالي تساؤل عن سبب إقبال السِّياح إلىٰ بعض الدُّول دون سواها من الدُّول التي تفوقها قيمة سياحيَّة وتاريخيَّة، أو حَتَّىٰ جمالاً سياحيًّا. وإقبال السِّياح بكثرة علىٰ دول يقل الأمان عن مثيلات لها لا يتوافد إليها إلا قليل من السِّياح.
تبين أنَّ الأمر أمر المافيا العالميَّة ذاتها. هناك مافيا التَّصنيفات الائتمانيَّة التي تقود السِّياح إلىٰ دول لتنعشها اقتصاديا ولتوحي بأنها آمنة ومستقرة، أو مكافأة لها علىٰ سيرها وفق مقتضيات السِّياسة الأمريكيَّة والغربيَّة، أو حَتَّىٰ للإيحاء بأن أمريكا تحاصرها فيما هي ذيل كلب من كلابها. تماماً مثلما هو الأمر في سياسة التصنيف الائتماني.
بعض الدُّول تحاصر سياحيًّا بهذه التصنيفات من باب التضليل، كما أن التصنيف الائتماني الاقتصادي يخفض تصنيف بعض الدُّول، يضحي بها، من أجل إقناع الآخرين بأن التصنيف آمن ونزيه وأمين ولا يفرق بَيْنَ أحد، فتصنيف بعض الدُّول الأوروبيَّة المهمة نسبيًّا تصنيف ضعيف، وخطر استثماريًّا. انزر علىٰ سبيل المثال في الجدول التالي:

تقريباً فقط هٰذه الدُّول الأوربيَّة الغربيَّة الأربع هي التي تصنيفها الائتماني في أسوأ المتوسط. ومعها دول أوروبا الشَّرقيَّة كلها تقريباً، بَيْنَما سائر الدُّول الغربيَّة في الذروة الأمانيَّة الائتمانيَّة. والحقيقة أَنَّهُ حَتَّىٰ تصنيف هٰذه الدُّول الأربع هو تصنيف تضليلي الغرض منه الإيحاء بأن الدُّول الغربيَّة ذاتها لا مجاملة معها في التصنيف.
والسُّؤال الذي يبرز ختاماً: بأيِّ حقٍّ تقوم هٰذه المؤسَّسات بإصدار التَّوصيات والنَّصائح التي تشبه الأوامر في منع الاستثمار أو السِّياحة هنا وهناك، ويلتزم العالم بها.
صحيح أنَّ هٰذه المؤسَّسات خاصة فيما يقال ويشاع, ولا ننكر ذٰلك ولا نجادل فيه. إلا أنَّ السُّؤال الذي يبقىٰ منتصباً: فلماذا يخضع العالم لتوصياتها إذن؟
هٰذه المؤسَّسات كلها تقريباً أمريكيَّة. ومهمَّتها توجيه رأس المال الاستثماري في العالم لفرض ضغوط اقتصاديَّة علىٰ الدُّول التي تستهدفها السِّياسة الأمريكيَّة والغربيَّة، وليس فقط محاصرة ومحاربة الشركات والاقتصادات التي تنافس الشرَّكات والاقتصاد الأمريكي. إنَّهَا حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنىٰ. ولٰكنَّهَا الحرب العاهرة القذرة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هذا المقال الرائع من الدكتور عزت – حفظه الله – حفزني لهذا التعليق المتواضع :
    كما أن أعداء أمتنا يشنون حروباً اقتصادية على بلداننا – تركيا و من قبلها ماليزيا كأمثلة – توجد منهم أيضاً حرب شرسة على التعليم الجامعي تهدف لنزع الجوهر و تزيين المظهر . تسير الحرب كما يلي : بما أن محور العملية التعليمية الجامعية هو القطاع الأكاديمي لذلك تتركز الجهود على ضربه و لا مبالغة في تسميتها “حرب الأعداء على العلماء”. المستهدف بالهجمة هم العلماء الحقيقيون الذين لديهم معرفة متعمقة و إطلاع واسع و إبداع و تفكيرهم “من خارج الصندوق أو القالب”. هؤلاء يتلقون الضربات “المفتعلة” تلو الضربات من دون كلل أو ملل من جهات نافذة لشلَ قدرتهم على الإنتاج سواء في التدريس أو الأبحاث المفيدة لأمتنا. قلة العلماء المقهورة هذه محلَ إقصاء و تهميش و قمع و ليس مسموحاً لهم برأي مختلف و لا موافقة على مقترحاتهم لرفع كفاءة التعليم . لضمان ذلك ، تقوم الجهات المستبدة –بتنسيق مع مخابرات – بتعيين تافه مثلها على رأس الهرم.وحين يكون الرأس فاسداً ف (قد ضل من كانت العميان تهديه) لذلك الأصل أن لا نغتر بخدعة “جامعات” …جامعات من حيث المظهر و المباني و رياض أطفال من حيث المضمون و هي في الحقيقة المؤلمة “كل شيء إلا جامعات” . فيها ألقاب رنانة ما هي إلا “ألقاب مملكة في غير موضعها” فالترقيات والمكافآت والمنح و إجازات التفرغ تعطى فقط للموالين المتعالمين و من ارتضوا أن يكونوا عبيداً جواسيس على زملائهم .
    البحث في جامعاتنا علمي ظاهرياً ولكنه هزيل و هراء في الواقع و كثير من الأبحاث المنشورة للمتعالمين إما اشتروها من “عصابات أكاديمية” في بلاد كالهند مثلاً أو قاموا بتزويرها عن طريق الكلمات المترادفة و باستعمال ترجمة “غوغل”.. مثل هذه الأبحاث فيها خيانة و لا تستفيد الأمة منها شيئاً ، و المستفيد منها هو من يرفعوه للقب بروفيسور فيحصل على راتب أكبر بالحرام يأكل منه السحت هو و عياله .
    هذه المسماة “جامعات” مرصودة تماماً من مخابرات الاستعمار الفرعوني و أذنابهم ، و توجد لدى الغرب تصنيفات متعددة للجامعات ، فإن كان واقع جامعة عربية مزرياً من حيث إدارات صبيانية
    و تعيينات لأساتذة بالواسطة و بالمحسوبية و تدريس منخفض المستوى و بحوث هابطة و “سحل” للعلماء الحقيقيين وتخريج لعاهات فارغة مستهترة فهي ستنال رضا الأعداء الحاقدين ، و كلما كان سوءها أكبر جعلوا تصنيفها – من أكثر من جهة – أعلى فتصير الأولى محلياً و من ضمن العشرة الأوائل عربياً و بموقع في منطقة المائة عالمياً !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى