مقالات

الماركسية –اللينينية والفكر الشيوعي المُتحَور وموقفه من الدين – ماذا بعد (الأردن مثالاً)

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

كان الإتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة (1946-1989) يُوفر مقاعد ومنح دراسية مجانية لآلاف الطلبة من جميع أنحاء العالم ، و بخاصة من الدول العربية ومن ضمنها الأردن . وقد تخرج آلاف االطلبة العرب في مختلف المهن من روسيا ودول المعسكر الشرقي و ساهموا بشكل كبير ولا يزالون يساهمون في نهضة بلدانهم وخدمة مجتمعاتهم . ففي الوقت التي كانت الدراسة في بريطانيا وأمريكا تكلف الطالب بمعدل عشرة آلاف دولار سنويا ولا يقدر عليها إلا الأغنياء ، كانت الدراسة في الإتحاد السوفييتي لا تكلف الطالب ألف دولار طيلة فترة دراسته. ولولا هذه المنح لما استطاع الكثيرون إكمال دراستهم الجامعية وهذا أمر يُذكر ويُسجل لروسيا.

لكن هذا التعليم ” المجاني” ظاهرا ، لم يكن مجانيا تماما كما نتصور إلا بمقدار مجانية الفيسبوك والواتساب ووسائل التواصل الإجتماعي الأخرى ، حيث الزبون هو البضاعة. فقد كان الطلاب المبتعثون يخضعون في السنة التحضيرية لعملية أدلجة فكرية ( غسيل دماغ) تزرع فيهم القيم والأسس الإشتراكية والأممية والنضال الطبقي لتكَسبَهُم كأتباع أو متعاطفين مع روسيا و”القضية الأممية” إذا جاز التعبير. وقد كان الفكر الإلحادي و نبذ الدين والتدين جزءا لا يتجزأ من حزمة الأدلجة هذه. فقد كان الطلاب يذهبون مؤمنين ويعودون مُلحدين ومشككين، و لو من باب النفاق والمجاملة والسباحة مع التيار -إلا من رحم ربي – . أرجو أن لا يخرج علّي أحد الآن و يبدأ بكيل الإتهامات لي بأنني تكفيري و داعشي ومتطرف وأنني أوزع صكوك غفران الى آخر هذه الأسطوانة المشروخة ، فأنا لا أصدر أحكام على أحد، بل “أوصف حالة” و أتناول واقع عايشته و لمسته بنفسي سواءا عندما زرت الإتحاد السوفييتي في أوج قوته عام 1979 أو من خلال معرفتي الشخصية بأصدقاء وأقارب درسوا في روسيا ودول المعسكر الشرقي ، أو من خلال نشاطاتي ومشاهداتي اليومية على وسائل التواصل الإجتماعي حاليا.

علما بأن الإلحاد والفكر اللاديني-العلماني لم يكن حكرا على الشرق الشيوعي فقط، بل أيضا كان – ولا يزال- منتشرا في الغرب و أمريكا وفي الصين خصوصا وكل أنحاء العالم، بل إن هناك مفارقة غربية عجيبة ألا و هي أن غالبية سكان الكيان االصهيوني هم من الملحدين أو العلمانيين ولكنهم في نفس الوقت يؤمنون بأن الله هو الذي منحهم الحق في” أرض الميعاد” أي فلسطين في تناقض عجيب !

الشاهد أن عجلة التاريخ دارت وسقط الإتحاد السوفييتي وتَفَكّك ، وسقطت معه الماركسية -اللينينية وعادت روسيا ودول المنظومة الاشتراكية السابقة ، الواحدة تلو الأخرى، الى الإعدادات الأصلية ال (Original settings) ؛ إلى حضن النظام الرأسمالي وإلى أحضان الكنيسة الأرذوكسية ولم يعد الدين أفيون الشعوب ، بل أن رئيس الكنيسة الارذوكسية الروسية الآن يعتبر التدخل الروسي في سوريا حربا مقدسة… ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 2014 صرح بالحرف الواحد أن التدخل الروسي في سوريا هو لمنع قيام دولة ” سُنية” -على حد تعبيره- . ضمنيا هو يقصد أنهم ذهبوا الى سوريا لتكريس حكم الطائفة العلوية الأقلوي الجاثم على صدر الشعب السوري منذ آذار 1963 ولمحاربة الإسلام.

الشاهد أن المصيبة التي نواجهها الآن مع بعض إخواننا الذين درسوا في الإتحاد السوفييتي هي أن معظم االمثاليات ومبادئ الإشتراكية والمساواة والنضال والتنظير الطبقي والدفاع عن الكادحين وما إلى ذلك أختفت من خطابهم السياسي و أصبحت أثرا بعد عين ، و لكن بقيت لديهم قيم الالحاد وفوبيا الدين. هم يذكرونني بالمثل الشعبي ( قال يا ماخذ القرد على ماله بروح المال وبظل القرد على حاله). فالمراجعات الفكرية للنظرية الإشتراكية وللماركسية اللينينية تحديدا ولتطبيقاتها العملية شملت كل مناحي الحياة وإثبتت عُقمها وفشلها في إسعاد المجتمعات بإعتبارها فكرا طوباويا لا يصلح للتطبيق ، ما عدا موقفها من الدين للأسف ، فقد بقيت قيم الالحاد وفوبيا الدين مُتجذرة في النفوس وبقي الكثير من الشيوعيين العرب والأردنيين خاصة متمسكين بإلحادهم ومعاداتهم للدين ويسخرون من الذين آمنوا وقد أخذتهم العزة بالإثم.

ولا يزال هناك في أنحاء متفرقة من عالمنا العربي جيوبا معزولة من بقايا الشيوعيين في العراق والسودان واليمن ومصر وسوريا ولبنان من الذين فاتهم القطار، ما زالوا يكابرون ويتمسكون بالشيوعية ويريدون أن يُحيوا عظام الماركسية- اللينينية وهي رميم بعد أن سقطت في مهدها سقوطا مدويا، وأنا لا أقصد الحزبيين والنشطاء فقط، وإنما أيضا الأنصار والمتعاطفين والمؤمنين بنفس الفكر من خارج الحزب. وموضوع مقالي اليوم هو مظهر واحد فقط من مظاهر هذا التحور الفكري وهو موقف هؤلاء الناس من الدين والمتدينين.

بداية لا بد من التنويه بالخطأ الشائع والإفتراض المُضلّل عند البعض، وهو أن الالحاد وإنكار وجود خالق هو إختراعا عصريا، توصل اليه العقل البشري بفعل التقدم المادي والتطور الفكري، أو أنه إرتبط حصريا بالماركسية، ومن هنا يحلو للإشتراكيين وصف أنفسهم ” بالتقدميين” وفكرهم ” بالتقدمي” . يقصدون هم متقدمين أو سباقين في المقدمة في فكرهم عن الآخرين ” الرجعيين” الذين يؤمنون ب”خرافات الدين والبعث” وما إلى ذلك من غيبيات جاءت منذ القدم، بالإضافة طبعا لمفاهيم أخرى نبيلة (في ظاهرها فقط) مثل التوزيع العادل للثروة وقيم المساوة والعدل والملكية العامة لوسائل الإنتاج الخ. بينما في واقع الأمر ، أن الالحاد وإنكار البعث وإنكار وجود خالق للكون هي صفة إنسانية ملازمة للبشر منذ الأزل و منذ عهد سيدنا نوح عليه السلام قبل أكثر من عشرة آلاف سنة ، ولا يوجد فيها –كفكرة- أي شئ تقدمي أو حداثي .

قالوا يا نوح قد جادَلتَنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. سورة هود 32. وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يُهلكنا إلا الدّهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون. الجاثية 24 صدق الله العظيم . هذا الكلام قاله كفار قريش لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وقاله الناس لرسلهم قبل كفار قريش بآلاف السنين ويقولونه الآن لنا ، وسيقولونه في المستقبل لأحفاد أحفادنا الى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها. لأن هذه هي سنة الله في خلقه ، فليس ثمة أي حداثة أو تجديد في الموضوع فارتاحوا يا أولي الألباب. وربما يتسائل البعض ؛ إذن ما الفائدة من الأديان إذا كان الناس سيكذبون بها، الجواب تجدونه في الآية 165 من سورة النساء ( رُسُلا مبُشرين ومُنذرين لئلا يكون على الله حُجّة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما. صدق الله العظيم.

ولكن لماذا بالغ الإتحاد السوفييتي السابق بالفكر الإلحادي وتبناه رسميا في الدستور وحارب الدين و التدين بلا هوادة ؟ هل كان السبب يا تٌرى لأن لينين وماركس وأنجلز وتروتسكي ومعظم أعضار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي وكثير من أعلام الإشتراكية الدولية وقادة الأحزاب الشيوعية في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين كان جُلّهم من اليهود ؟ وبالتالي أرادوا أن يُحيّدوا الدين عن الحياة العامة تماما ويصرفوا أنظار الناس عن ديانتهم اليهودية لينظر الناس إليهم كشيوعيين عقائديين فقط؟ هل كانت الشيوعية والإشتراكية الدولية حصان طروادة إستعمله اليهود في اوروبا للسيطرة على العالم ( العُلّو الكبير) كما إستعملوا جمعيات سرية أخرى ومؤسسات مالية ؟ هذه مجرد أسئلة أكاديمية مشروعة قابلة للبحث والنقاش ولكنها ليست موضوع هذا المقال.

ولكن ما أود قوله في عُجالة هو أن الالحاد وإنكار وجود خالق للكون والبعث والآخرة هو فكر بشري إنساني رافق البشرية منذ بدايتها كما أسلفت ، وبالتالي لا علاقة له بالتطور المادي والتقدم الحضاري. أي أنه لا يوجد علاقة بين القِدَم والإلحاد ، فليس صحيحا أن الأنسان القديم كان مؤمنا بوجود خالق كما يُصوره البعض ( رجعيا) ثم بدأ يتطور فكره رويدا رويدا حتى وصل إلى إكتشاف الإلحاد كما أكتشف الكهرباء (فأصبح بذلك تقدميا) كما يحاول البعض أن يُصوّره في تخرصاته الفكرية مستشهدا بعصر النهضة الأوروبية وإنهاء سيطرة الكنيسة، ومحاولات خبيثة لإسقاط ذلك التطور التاريخي في الغرب على واقعنا العربي الإسلامي، وهو إسقاط مُغرض وغير صالح ويفتقر للأمانة العلمية لأنه لا يوجد عوامل تشابه موضوعية مشتركة بين أوروبا في العصور الوسطى وبين المجتمعات الإسلامية من جهة وبين المسيحية والإسلام من جهة أخرى.

كل الرسل والأنبياء جرى تكذيبهم وتعذيبهم على أيدي أقوامهم و أتُهموا بالسحر والجنون فكأنما الأقوام المتعاقبة والحضارات القديمة البائدة كانت تُوصي بعضها بعضا بالكفر….كما قال الله عز وجل { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} الذاريات 83 وقوله تعالى في سورة التغابن الآية 7 ” زَعَمَ الذين كفروا أن لن يُبعثوا قل بلى وربي لتُبعثّن ثم لتُنبؤّن بما عملتم وذلك على الله يسير. صدق الله العظيم. أي زعم الذين كفروا أن لن يبعثهم الله من قبورهم بعد مماتهم. وكان إبن عمر يقول زعم: كنية الكذب. ثم لتنبؤن بما عملتم يقول: ثم لتخبرن بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وذلك على الله يسير أي بعثكم من قبوركم بعد مماتكم على الله سهل هين.

وبناءا على ما تقدم فإنه لا يمكن وصف قوم نوح أو الملأ من قوم فرعون أو كفار قريش بالتقدميين ، كما لا يمكن وصف الملحدين في زماننا بأنهم تقدميي عصرنا وأصحاب الفكر المُنفتح وأن المؤمنين هم الظلاميين الذين عطلوا عقولهم كما يصفونهم ” بأصحاب العقل المستقيل” وما الى ذلك من إصطلاحات تحقيرية إقصائية تستخف بالآخر وتعتقد أن الله لم يمنح العقل إلا لهم هم فقط وأن عقولهم مازالت على رأس عملها لم تقدم إستقالتها بعد.

التقدمية هي ممارسة الإنسانية على الفطرة وإحترام الآخرين والمحافظة على كرامة الجميع وإحترام العلم والعلماء والسعى الدؤوب نحو التطور والتعلم والرقي الحضاري بتبني قيم الإتقان في العمل والإحسان وليس التقدمية هي سب الدين على الطالع وعلى النازل ونسب كل مثلبة الى الدين والتدين والسخرية من المؤمنين. الإسلام والأديان السماوية كلها مليئة بالسمو والرقي في التعامل والأخلاق وقلناها ألف مرة وسنكررها ألف مرة أن الدين لا يحول بين الإنسان والصناعة والإختراعات واستخدام أحدث التقنيات والأدوية والعلاجات والأخذ بأسباب القوة وكل الوسائل المادية والصعود الى المريخ لتحسين حياة الناس وإسعاد المجتمعات لأن الأديان تقوم على الفطرة السوية.

أقول للبعض كفاكم محاربة للدين ،وبدلا من توجيه سهامكم لطواحين الهواء لماذا لا توجهوا سهامكم لمحاربة الفساد السياسي المستشري الذي نخر في بلداننا ؟، لماذا لا تطالبوا حكامكم بالحريات وبإرجاع الأموال المسروقة وبالتوقف عن بيع مقدرات البلد ورهن إرادته وسيادته للخارج؟. ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ .
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.

وسلام على المرسلين و الحمدلله رب العالمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى