بحوث ودراسات

سبل تحسين أداء قوى الثورة والمعارضة السورية

المرصد الاستراتيجي


خلال العقد الثالث من الألفية
يُعرّف النضج في علم النفس بأنه: “القدرة على الاستجابة للبيئة بطريقة مناسبة”، ويتمثل ذلك في التحلي باستيعاب الوقت والمكان المناسبين للسلوك، وفقاً لظروف وثقافة المجتمع.
ويضيف العامل التكنولوجي في حقبة “الثورة الرقمية” عوامل جديدة فيما يتعلق بمهارات التعامل والتفاعل مع المجتمع، حيث تتضاعف الحاجة إلى الاستقلالية في اتخاذ القرارات، والتعامل مع التبعات الناتجة عنها.
وإذا أخذنا بنظرية ابن خلدون في قياس الدول على نمط حياة البشر، فإنه يمكن قياس “النضج” في الممارسة السياسية على إدراك المؤسسة لواقعها الذي تتفاعل معه، وتصورها للمكانة التي يجب أن تتبوأها في البيئة المحيطة بها، وقدرتها على إقامة العلاقات الإيجابية والتواصل الفعّال.
ويضيف “علم النفس السياسي” (الذي يُعنى بتحليل الصفات المميزة للفعل السياسي الجماعي) عناصر مهمة في مجال تحسين الأداء لدى أحزاب المعارضة العربية، والتي يعاني معظمها من الشللية والمحاصصة، ومن ضعف العلاقات المجتمعية، ومن الفراغ الناتج عن إخفاقها في تقديم بدائل سياسية ناضجة عن النظم التي ثارت عليها.
أما على الصعيد الخارجي، فإن التوقعات المستقبلية تشير إلى:
1- تقلص شهية القوى الدولية في شن المزيد من الحروب في المنطقة.
2- انتهاء مفهوم “الصراع الصفري” الذي يتم من خلاله استئصال الخصم والقضاء عليه بالكلية، وذلك نتيجة عجز القوى الفاعلة عن تحقيق انتصارات نهائية في حروب أفغانستان (2001) والعراق (2003) واليمن (2014)، ولجوئها إلى التفاهمات المشتركة لإدارة الصراع بدلاً من حسمه.
3- لجوء القوى الكبرى إلى دعم “جماعات ما دون الدولة” من ميلشيات طائفية وعشائرية وإثنية لخوض المعارك بالنيابة عنها، وإدارة الصراع من خلال تمويل تلك الجماعات، فيما تقصُر دورها المباشر على نشر منظومات الردع وتقنيات التشويش، وشن هجمات محدودة النطاق بالمقاتلات والطائرات المسيرة، دون الرغبة في توسيع دائرة المواجهات.
وبالنظر إلى تقدير الخسائر الباهظة للمشهد السوري خلال العقد الماضي؛ فإن المشكلة لم تعد تقتصر على التكلفة العالية للحرب المستمرة فحسب، وإنما في استدامة المعضلات الناتجة عنها، وعدم القدرة على حسمها بالقوة المسلحة، نظراً لتعقد مشهد الصراع وتداخل أطرافه.
وفي ظل التحولات الميدانية والسياسية التي تشهدها الساحة السورية؛ تعالج هذه الورقة موضوع تحسين الأداء وتعزيز الاحترافية لدى مؤسسات الثورة في البيئة المعقدة التي يُتوقع أن تهيمن خلال العقد الثالث من الألفية، وذلك من خمسة محاور، هي: تحولات البيئة السياسية، وتطوير الأجندة السياسية، وإدارة الشبكات، وإدارة البيئة السياسية، وإدارة الترويج السياسي.
أولاً: تحولات البيئة السورية في العقد الثالث من الألفية
يرتسم مشهد مجتمعي جديد خارج إطار الجغرافيا السورية التقليدية، إذ يتوزع أكثر من نصف السكان خارج مناطق سكناهم في مناطق النزوح واللجوء، وفي المهجر، حيث أشار تقرير أصدرته منظمة “يونسيف” (في مارس 2021) إلى ولادة خمسة ملايين طفل سوري منذ عام 2011، ما يعني أن مجموع عدد مواليد الفترة (2000-2020) يبلغ نحو 10 ملايين نسمة (منهم 4,95 مليون ولدوا في الفترة: 2000-2010، وخمسة ملايين ولدوا في الفترة: 2011-2020).
وتؤكد هذه التقديرات خطأ توقعات، سابقة، بتناقص سكان سوريا خلال العقد الماضي، إذ بات من المؤكد أن جيل “ما بعد الألفية” (مواليد الفترة: 2000-2020) يفوق في تعداده الجيل السابق، “جيل الألفية” (مواليد الفترة: 1980-2000)، والذي بلغ تعداد مواليده 7,48 مليون نسمة. (بلغ عدد سكان سوريا؛ 2,86 مليون عام 1943، ونحو 6,7 مليون عام 1970).
ووفقاً لتلك التقديرات؛ فإن ساحة التفاعل السياسي السوري تشهد زيادة في الضخ البشري من نحو 350 ألف نسمة سنوياً قبل عام 2000، إلى نحو نصف مليون نسمة سنوياً بعدها.
وإذا كان “جيل الألفية” هو الذي أوقد نيران الثورة عام 2011؛ فإن أبناء “جيل ما بعد الألفية” يعانون اليوم من أكبر كارثة بشرية يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين، حيث تُقدر مصادر الأمم المتحدة أن 90 بالمائة من السوريين بحاجة للمساعدات الإنسانية، منهم مليون ولدوا في دول الجوار، ونحو 2,5 مليون طفل لاجئ و3 ملايين طفل نازح، لا يذهب نحو 3,5 مليون منهم للمدارس، ومن غير المتوقع أن يعودوا إلى البلاد في غضون السنوات الخمسة المقبلة، على أقل تقدير.
وتُفرز هذه المعطيات حزمة جديدة من التحديات التي لم تكن واردة في الحسبان قبل عشر سنوات، ما يدعو إلى بحث خطورة وحجم التحول في “البيئة السياسية” السورية، والمتمثل في:
1- أضخم زيادة سكانية عرفتها البلاد في تاريخها المدون، بالتزامن مع أكبر حركة تهجير قسري يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
2- تنامي أدوات التفاعل والاتصال، والتي تسهم في تشكيل رأي عام سوري نشط، وتتيح لملايين الأفراد مجال المشاركة اليومية في سائر الأحداث والتفاعل معها، ويؤدي تضاعف عدد المشاركين في العملية السياسية، داخل إطار الجغرافيا التقليدية وخارجها، وهي الظاهرة التي يطلق عليها اليوم مصطلح: “الديمقراطية الإلكترونية”.
3- اندفاع تيارات منظمة كشبكات الغلو والتطرف إلى ركوب موجة ثورة الاتصالات، والمحاولة في التأثير بالملايين من الشباب السوري الذي لا يجد من يخاطبه أو يتفاعل معه في أوساط النخب السياسية التي لا تزال تتحرك من خلال أطر كلاسيكية عفى عليها الزمن.
4- انهيار المركزية السياسية؛ حيث تؤثر التحولات الديمغرافية الكبرى على مفهوم “المركزية السياسية”، وتتراجع سيطرة نظام دمشق (العسكرية والاقتصادية) على العديد من المحافظات والمدن، مع استمرار عجزه عن استعادة السيطرة على تلك الأقاليم في المستقبل المنظور، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى إفراز نظام حكم “فيدرالي” أو أقاليم “إدارة ذاتية” تتمتع ببنية اقتصادية مستقلة ودعم خارجي.
5- تشنج الخطاب السياسي؛ وتنامي العدائية في التعامل مع الظواهر السياسية، نتيجة تنامي عصبويات ما دون الدولة (الإثنية، والدينية، والطائفية، والعشائرية، والمناطقية)، وتفشي مظاهر الانقسامية وتراجع الخطاب الوطني، بالإضافة إلى الإحباط السائد من استمرار انتهاكات النظام، وتقلص فرص محاسبته، وضعف أداء قوى الثورة والمعارضة، وتخاذل المجتمع الدولي إزاء جرائم القتل والاعتقال والتهجير القسري، وتردي أوضاع اللاجئين والنازحين، وتفشي الفقر والبطالة، وغيرها من الظروف القهرية التي يعاني منها السوريون.
6- انتقال جزء كبير من التأثير والفاعلية السياسية للخارج: فسواء أبقي بشار الأسد في سدة الحكم، أو غادر خلال السنوات المقبلة؛ فإن التحديات التي تشهدها سوريا في العقد الثالث من الألفية تتخطى مسألة بقاء الأسد من عدمه، خاصة وأن التحول الأكبر يتمثل في تغير مفهوم “سوريا” الوطن، على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتبرز ظاهرة أقرب ما تكون إلى تجربة الشتات الفلسطيني حيث يتركز الثقل في الخارج، ويصبح التأثير مرهوناً بقدرة الجاليات على الفاعلية أكثر من قدرة مواطني الداخل المقيدين بنظام الاستبداد وسطوة الأجهزة الأمنية.
7- احتدام معارك الهوية: يُتوقع أن تندرج معظم صراعات العقد الثالث من الألفية ضمن إطار “معركة الهوية”، بمختلف أبعادها، كالعلاقة بين الدين والسياسة في نظام الحكم، والإشكاليات المتنامية حول الهوية الوطنية والقومية في ظل الانسياب الإقليمي والأدوار التخريبية التي تمارسها الميلشيات العابرة للحدود، وتدهور العلاقة بين الهوية الجامعة والهويات الفرعية داخل الوطن، وهيمنة مشاكل الهوية في إعادة تشكيل النظام السياسي: كاللامركزية والحكم الذاتي والفيدرالية، وتنامي المطالب الفئوية بإعادة الفرز على أساس إثني-طائفي، بالإضافة إلى مشاكل العولمة السياسية والتي تدفع بعض الشباب المهاجر لتقمص هويات بديلة مغايرة للغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم.
ثانياً: تطوير الأجندة السياسية لمواكبة التحولات
لا شك في أن المحددات التي وضعتها مدرسة “الواقعية” الكلاسيكية للعملية السياسية مثل: “الوصول إلى السلطة والبقاء فيها لأطول فترة ممكنة”، قد حولت المشهد السوري إلى مشهد تضاد عبثي، ما أدى لتحول الساحة السياسية إلى ميدان صراع “استئصالي” يتمثل الهدف الرئيس فيه بضمان بقاء المتنفذين لأطول فترة ممكنة، والقضاء على المنافسين قضاءً مبرماً، دون الاعتراف بالتعددية في العملية السياسية أو استيعاب مقتضيات التنوع.
ويتطلب إصلاح مؤسسات قوى الثورة السورية؛ تعزيز مفاهيم: المنافسة المشروعة، والتداول السلمي، وضمان الحقوق المتساوية في الترشيح والانتخاب والتصويت، وإنشاء قنوات لإسهام المرأة وتعزيز المشاركة الشبابية في شتى المجالات.
ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال إيجاد الصيغ الإدارية والقانونية التي تتيح ممارسة تلك الحقوق، وتُحدّث هياكل تلك المؤسسات، وترفدها بهيئات رقابية تحدد المخالفات بصورة مستقلة عن الإدارة التنفيذية، بالإضافة إلى تعزيز الخبرات في شتى مجالات: الدبلوماسية، والإدارة الاحترافية، والعمل السياسي.
ويُطلق على هذه العملية: “معالجة الانحراف السياسي”، والتي تتمثل في: إنشاء منظومة شاملة تسهم في معالجة الإخفاقات التي وقعت فيها “ديمقراطيات” ما بعد “الربيع العربي”، حيث تمثل المطلب الأساسي للشعوب في العقد المنصرم بإسقاط النظم الاستبدادية، دون توفر الرؤية الواضحة لسبل إصلاح المنظومة السياسية الفاسدة، ما أدى إلى تكرار أخطاء الحقبة الاستبدادية، إذ استعاد العسكر هيمنتهم في مصر والجزائر والسودان، واندلعت الحرب الأهلية في ليبيا واليمن، وتراجعت الديمقراطية في تونس، وتغولت الميلشيات الطائفية العابرة للحدود في العراق ولبنان، فيما تعاني الساحة السورية من انسداد أفق الحل السياسي.
ونتيجة لتراكم الانحرافات: المفاهيمية، والمعيارية، والنُظُمية، فإن عملية الإصلاح تتطلب وقفة جريئة لتقييم مكامن الخلل، وأبرزها: فقدان استقلالية القرار، ولجوء قوى الثورة والمعارضة إلى استخدام وسائل متواضعة لتحقيق أهداف كبرى، حيث تلجأ بعض الفئات إلى تشكيل كيانات ذات طابع وظيفي أو مصلحي، دون تزويدها بأي بناء فكري أو بنية تنظيمية تتناسب مع متطلبات المرحلة.
ولا يمكن الخروج من هذه الدوامة إلا من خلال: تغليب الاحترافية على المحاصصة، وتعزيز دور المنظمات الرديفة، مثل: جماعات الضغط، ومجموعات اللوبي، ومنظمات المجتمع المدني.
وبناء على ذلك فإن الأجندة السياسية لقوى الثورة والمعارضة يجب أن تتسم بالتنوع في الخطاب، وبالتعدد في استخدام الوسائل والأدوات، وباعتماد نمط انتشار أفقي، خاصة وأن أكثر من نصف السوريين يعيشون اليوم خارج مناطق سكناهم في مواطن النزوح واللجوء والمهجر.
وقبل المضي في تنفيذ أية أجندة سياسية، يتعين على القوى الفاعلة مراجعة وسائلها وأدواتها وآليات عملها فيما يتواءم مع التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، ويتطلب ذلك تبني مشروع شامل يتضمن:
1- استيعاب الخبراء في شتى المجالات التنفيذية، وتغليب الاحتراف على المحاصصة السياسية في العضوية.
2- إنشاء قطاع “علاقات عامة” لنظم العلاقة مع البيئة الداخلية والخارجية، وصياغة أجندة علاقات مجتمعية، ونسج شبكة واسعة لتحقيق الانتشار الأفقي الشامل لشتى فئات المجتمع.
3- الاستفادة من المنصات الإعلامية القائمة بهدف تعزيز التواصل مع الجمهور المستهدف.
4- الاستعانة بمراكز المعلومات لتوفير الأرقام والإحصائيات الدقيقة، بدلاً عن العمل الانطباعي.
5- إنشاء “لوبيات” و”جماعات ضغط” متخصصة تعمل في الدول الخارجية ذات النفوذ في المنطقة.
6- الاستعانة بشركات قانونية تقدم خدمات الاستشارات في مجالات المحاسبة والعدالة الانتقالية.
ثالثاً: تطوير الأداء فيما يتواءم مع المستجدات المحلية والخارجية
ترتبط عملية تطوير الأداء مع مفهوم أساسي لا غنى عنه في الممارسة السياسية، وهو: “حيازة مصادر القوة”، ويُقصد بها القوة: الاقتصادية، والثقافية، والفكرية، وغيرها من المصادر التي تعزز الفاعلية والتأثير في البيئة المحلية والخارجية.
وتتطلب عملية حيازة القوة: دراسة مكامنها، ومعرفة مصادرها على المستوى الرسمي والشعبي والمؤسسي، والتي تتشكل في ثمانية عوامل رئيسة هي:

  • قوة الخطاب (الإعلام): المتمثلة في حيازة تقنيات وأدوات ممارسة الخطاب العام، وإقامة علاقات تعاون مع المؤسسات الإعلامية، وتمكين الشباب من المساهمة الإعلامية وتوفير التدريب اللازم لتعزيز الاحتراف.
  • القوة الاقتصادية (تنمية الموارد المالية): عبر تأطير وتنظيم قطاعات الإنتاج المحلي والمساعدات والهبات غير المشروطة، والتحالفات مع المؤسسات الاقتصادية.
  • القوة الشعبية (الامتداد الشعبي): عبر صياغة أنماط مختلفة من الخطاب، يشمل الفئات المؤيدة والمعارضة والمحايدة، بهدف الوصول إلى مختلف المناطق والقطاعات، والعمل على تخفيف حالة الريبة والعداء من قبل الأطراف غير المنسجمة مع البرنامج السياسي أو تلك المختلفة من حيث الانتماء المجتمعي.
  • القوة السياسية (التحالفات الإستراتيجية والتحالفات المرحلية): من خلال صياغة نسق شامل للتحالف أو التعاون أو التكامل مع مختلف القوى الفاعلة، ومنظمات المجتمع المدني، والفعاليات المجتمعية للتعاون في المجالات ذات الاهتمام المشترك.
  • القوة البنيوية (تعزيز البنية التنظيمية): من خلال مراجعة النُظُم الهيكلية والبنى الإدارية، وتطويرها وتحديثها، وضخ الدماء الجديدة فيها لضمان استمراريتها.
  • القوة الفكرية (مراجعة المنطلقات الفكرية وتحديثها وفق المستجدات): وذلك من خلال نسج منظومة فكرية تسهم في ترشيد الحراك الجماهيري المندفع في شتى الاتجاهات، وتسويق السياسات بآليات مبسطة تضمن القبول والانتشار.
  • القوة البشرية (تنمية المهارات): عبر تنفيذ برامج تطوير القدرات، وتعزيز القدرات في مجالات: العمل السياسي، وفض النزاعات، وإدارة التنوع، ونظم الإدارة والحوكمة، والعمل السياسي والدبلوماسي.
  • القوة المعلوماتية: المتمثلة في الاستفادة مما تتيحه ثورة الاتصالات والمعلومات في قراءة الواقع وتقييم المرحلة، والتعامل مع المستجدات بمهنية واحتراف، والتعامل مع مراكز الفكر، وأجهزة الرصد المعلوماتي.
  • حيازة مهارات “الفاعلية الشبكية”: حيث يشهد العالم نمواً في نفوذ الشبكات العابرة للحدود، مثل: الشبكات الاستخباراتية، وشبكات التطرف والغلو، والشبكات الإعلامية، والجماعات العابرة للحدود، والشبكات المالية التي يتفوق بعضها على الدول قوةً وتأثيراً.
    ويمكن ملاحظة تأثير تنامي الظاهرة الشبكية على تراجع السلطات المركزية في العالم العربي، وانعكاس ذلك على الجغرافية السياسية لتلك الدول، إذ لم يعد تمترس السلطات المركزية في العواصم والمدن الرئيسة كافياً لضمان سيطرتها على البلاد، بل نشأت حالة من السيولة غير المسبوقة انتشر بموجبها الحراك عبر الحدود، وتنامى تأثير الشبكات الهلامية التي فضلت البعد عن المركز لضمان حرية تحركها، ما أدى إلى انهيار المنظومة المركزية بالجمهوريات العربية.
    في هذه الأثناء يتراجع دور الجماعات السياسية التقليدية، مفسحة المجال لصراع من نوع آخر بين النخب الحاكمة التي تمتلك السلطة والثروة والقوة الخشنة (الجيش، والأمن، واحتكار السلاح، والسيطرة على الأرض، والتحكم بالموارد) وبين الشبكات التي تمثل القوة الناعمة بشتى مفاهيمها (الإعلام الاجتماعي، التظاهر السلمي، التحشيد الشعبي…).
    ومع تداعي السلطة المركزية في الجمهوريات العربية؛ بدأت تظهر ملامح تشكل شبكات مصالح بديلة، حيث حل الإعلام الاجتماعي محل الإعلام الرسمي، وتمكنت وسائل التواصل الاجتماعي من كسر احتكار السلطة المركزية للعلاقة الناظمة بين فئات المجتمع.
    وأصبح الصراع اليوم يدور في إطار “حروب الشبكات”: حيث تنخرط العديد من القوى المجتمعية في تشكيلات مناطقية وإثنية وإيديولوجية وعشائرية عابرة للدول، وتتصارع فيما بينها مستفيدة من امتدادها خارج الحدود، فيما تتنامى ظاهرة “تحالف الشبكات” المتمثلة في قيام الشبكات المتقاربة في أهدافها إلى تشكيل تحالفات وائتلافات مصلحية، تتفاعل بصورة أفقية، خارج المنظومة السياسية التقليدية.
    ولمواكبة تلك التحولات؛ يتعين على قوى الثورة والمعارضة تنمية مهارات العمل في البيئة الشبكية ذات الطابع الأفقي، من خلال استحداث تحولات جوهرية تتيح لها مجال الاستمرارية في المشهد الدولي المتقلب، واستحداث أدوات مختلفة في الخطاب وفي نمط الانتشار الفكري، وتحفيز التفاعل الشعبي.
    رابعاً: النهوض بالواقع الحوكمي والأمني
    كشف العجز الأممي والتخاذل الدولي إزاء الانتهاكات التي وقعت ضد الشعب السوري عن خطأ انتهاج الديمقراطيات الغربية مذهب “الواقعية السياسية” (الكلاسيكية) التي تمنح مواطنيها الحريات العامة وحقوق المواطنة، لكنها تتعامل مع الأمم الأخرى بمنظور مصالحها القومية دون مراعاة للقيم والأخلاق. حيث أفضت أحداث العقد الماضي (2011-2021) إلى تراجع ملحوظ في الأخلاقيات السياسية، فيما أمعنت الدول الغربية في دعم عصبويات ما دون الدولة في المجتمعات العربية، كالجماعات الإثنية والطائفية والعشائرية والمناطقية، ما أدى إلى تفشي مظاهر الاحتقان المجتمعي، وانتشار الميلشيات العابرة للحدود، وتعالي الأصوات المطالبة بالانفصال والتقسيم.
    وفي ظل تراخي المواقف الأممية إزاء انتهاكات النظم الاستبدادية، بات من الضروري صياغة مشروع محلي ينطلق من مفهوم “إعادة الإعمار السياسي”، ويسير بالتزامن مع المشاريع المطروحة لإعادة “الإعمار الاقتصادي”، وذلك بهدف معالجة الشروخ البنيوية التي عانت منها المنطقة العربية، وخاصة سوريا، لأكثر من قرن من الزمان، حيث انحصرت تجارب الحكم بين نظام الانتداب الذي هيمن في النصف الأول من القرن العشرين، وبين النظام الاستبدادي الذي ظهر في النصف الثاني من القرن نفسه.
    وتتحمل قوى الثورة والمعارضة عبء تلك العملية، حيث يتعين عليها تقديم بديل ناضج عن النظام الاستبدادي الذي ثارت عليه، والتأسيس لمنظومة قيمية تتضمن: صيانة الكرامة البشرية، وحماية الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية، وذلك من خلال عملية إصلاحية تشمل ثلاثة مجالات رئيسة هي:
    1 ـ المفاهيم المصطلحية: عبر إقرار تعريف وطني جامع للممارسة السياسية، يخرج عن دائرة التنافس العبثي، ويعزز الاحترافية لمعالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
    2 ـ المعايير الحاكمة: عبر التوافق على منظومة قيمية تشمل: التداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والتوافق على عقد اجتماعي ينبثق من تاريخ المجتمع وثقافته، وترسيخ الشفافية في السياسات المالية والاقتصادية، وضمان الرقابة على المؤسسات.
    3 ـ نُظُم الإدارة والحكم: من خلال صياغة نظام إدارة احترافي، لا يُشترط أن تكون مؤسساته قائمة على إيديولوجية معينة أو تفسير محدد دون غيره.
    ولا شك في أن نظام الحكم في سوريا قد وقع -خلال القرن الماضي- في انحرافات مفاهيمية ومعيارية ونظمية على حد سواء، حيث أخفقت الدولة الاستبدادية في تحقيق الرفاهية والأمن، فانتشر الفقر، وأصبح أمن الدولة مناقضاً لأمن المجتمع، ما أدى إلى ارتكاب الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة مجازر وانتهاكات مروعة.
    ووقف نظام آل الأسد ضد أي مشروع إصلاحي يهدف إلى معالجة “الانحراف السياسي” الذي عانت منه سوريا خلال العقود الخمسة الماضية، وأمعن في تقييد الحريات العامة، وفي ممارسة التضييق والكبت، وفي الاستحواذ على الثروات العامة.
    وبناء على ذلك فإن التحدي الأبرز يتمثل في استحداث مفهوم “الإدارة الاحترافية” لدى الحكومة المؤقتة، وفي سائر مؤسسات قوى الثورة والمعارضة، حيث يتزايد الوعي العالمي بضرورة تحرير الشق التنفيذي للدولة من بيئة “الصراع الحزبي-العسكري” إلى بنية “إدارية-احترافية”، وذلك من خلال التعامل مع مؤسسات الدولة كفاعل جماعي (corporate actor)، وليس كمنصة تتصارع فيها القوى السياسية والفصائلية، والتدخلات الخارجية، والمصالح المجتمعية المتباينة.
    ومن شأن العمل بهذا المفهوم، تحويل “البيئة السياسية” إلى “بيئة إدارية” يمكن من خلالها تطوير القطاعات الخدمية، وتعزيز دور أجهزة الإدارة العامّة في قياس أداء المؤسسات، وتحديد مقاييس الكفاءة، وممارسة الرقابة على المخرجات.
    يدفعنا ذلك للتأكيد على ضرورة تعزيز قدرات قوى الثورة والمعارضة في استخدام أدوات مغايرة لتلك التي ساد العمل بها في القرن الماضي، ومن أبرزها “إدارة البيئة السياسية” فيما يحقق التعددية ويحترم التنوع، وتحديث الهياكل التنظيمية، وضمان تداول المناصب القيادية بدلاً من احتكارها، والعمل على صياغة رؤية شاملة تقدم بديلاً ناضجاً عن الحكم الشمولي الذي قامت الثورة لاستبداله، وتحقيق المواءمة بين تلك الرؤية وبين بيئتها الخارجية، وتحديد أنماط العلاقة، فيما يحسن أداءها السياسي والدبلوماسي، وتعزيز مفاهيم الحكم الرشيد، عبر تحقيق التفاعل الاحترافي بين السلطات؛ التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وصياغة سلم علاقات يحكم نمط التعامل مع القوى: السياسية، والمجتمعية، والاقتصادية.
    خامساً: تعزيز العلاقة المجتمعية عبر أدوات الحشد والمناصرة
    نظراً لتداخل عدد كبير من الأطراف في مشهد الصراع السوري، فإنه من الضروري إنشاء قطاع يحكم العلاقات العامة وفق أجندة، تعمل في إطارين متوازيين: أحدهما، إيجابي، يشمل دوائر: التواصل، والحوار، والتنسيق، والتعاون، والتشارك، والتحالف، والاندماج.
    والآخر سلبي، يضم دوائر: الحياد، والتجاهل، والقطيعة، وفرض العزلة، والاستدراج، والإضعاف، والمواجهة. وذلك بهدف: تحقيق تموضع مركزي في المشهد المحلي والإقليمي والدولي، وإدارة العلاقات والتحالفات بطرق تتيح مجال الفاعلية والتأثير.
    وبعد مرور عقد على التجربة الثورية في سوريا؛ بات من الواضح أن القوى المجتمعية الجديدة، والمندفعة بشتى الاتجاهات دون انتظام، لم تتمكن من الارتقاء لمستوى المواجهة، بل وقعت ضحية خطاب التفتيت الذي انتهجه النظام، ما أدى إلى تزايد مظاهر الفوضى والانقسامية في المجتمع، وتشتت الخطاب الإعلامي، وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتصارع آلاف الحسابات الحقيقية والوهمية في صراع يصعب ضبطه من حيث المستوى أو المعايير، فيما يستمر الإخفاق المجتمعي في التوافق على خطاب وطني جامع، وتعجز النخب السياسية والفكرية عن ضبط التفاعل الشعبي الضخم ناهيك عن مواكبته.
    وفي ظل تدهور الخطاب الرسمي، تظهر الحاجة إلى توفير بدائل إعلامية ناضجة تتقن فنون مخاطبة الجماهير، وتسهم في استعادة اللحمة الوطنية ورأب الصدوع المجتمعية التي أحدثتها سياسات النظام.
    وعلى الرغم من القصور الإعلامي لدى قوى الثورة والمعارضة، إلا أن أحداث العقد الماضي قد أثبتت أنه لم يعد بمقدور السلطات الحاكمة احتكار الخطاب الإعلامي، وأن هذه السلطات الاستبدادية لم تعد قادرة على فرض رؤاها على المجتمع الذي بات أكثر وعياً من ذي قبل.
    ويتطلب ذلك التحول وضع إستراتيجية إعلامية تعمل على توحيد المجتمع، ومحاربة عوامل الانقسامية، ومكافحة خطاب الكراهية والتمييز.
    ويمكن تحقيق ذلك من خلال إتقان مهارات “الترويج السياسي”، الذي بات يشكل مكوناً أساسياً في الممارسة السياسية المعاصرة، وخاصة في مجالات: صناعة المنتج، والترويج للرموز والقيادات الوطنية، وتقديم المحتوى، وتعزيز مهارات التواصل ومخاطبة الجماهير.
    ولا يمكن تحقيق ذلك من خلال مبادرات فردية، أو تشكيل “لجان فرعية” متواضعة داخل المؤسسات، بل يتعين إنشاء قطاع متخصص في الترويج، والاتصال السياسي، والإعلام، والعلاقات العامة، وتطوير محتوى الرسائل السياسية، وذلك بهدف التعامل مع الطفرة العملاقة التي أحدثتها “الثورة الرقمية” في العالم العربي، والتي أثرت على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث أصبح نسب نمو قطاعات مستخدمي الإنترنت وانتشارها كوسائل لتلقي الأخبار والتواصل من بين الأعلى في العالم، وبنسبة نمو تتجاوز 3000%.
    ويضاف إلى كثافة الاستخدام السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية، ظاهرة توفر الجمهور على مدار الساعة، حيث تشير الدراسات إلى تفقد الأجيال الشابة مواقع التواصل الاجتماعي مرة كل 31 ثانية، ويبلغ معدل دخولهم على الوسائط نحو 150 مرة في اليوم، ويقضي بعض الشباب نحو 5 ساعات على الهاتف يومياً في مختلف الأوقات والأحوال.
    ولا شك في أن مؤسسات المعارضة تمتلك فرصة مهمة لتطوير قدراتها في هذا المجال، خاصة وأن إعلام النظام لا يزال حبيس “البروباغاندا” الخادمة للدكتاتور، ويعتمد وسائل لا تتواءم مع عمق التحولات التي تشهدها البلاد.
    ويُتوقع أن يبرز “الترويج السياسي” في العقد الثالث من الألفية، كأحد أبرز مصادر القوة الناعمة لاستمالة الرأي العام السوري، وبث رسائل إيجابية تهدف إلى تقريب المسافات بين مختلف فئات المجتمع، خاصة وأن الثورة الرقمية قد فتحت آفاقاً واسعة في عالم الترويج ومخاطبة الجماهير وتطوير المحتوى السياسي.
    ربما يدفع البعض، بأن مؤسسات المعارضة السورية، قد لجأت بالفعل إلى شركات خارجية لنظم علاقاتها والترويج لقضاياها، إلا أن تلك العملية قد فشلت، نتيجة عجز القائمين عليها عن تشكيل خطاب ينبع من الهوية المحلية ومضامينها الثقافية والاجتماعية، واعتمادها على أنماط غربية في عالم الترويج، وارتهانها بالمال السياسي الخارجي.
    ويمكن تحديد أبرز الأدوات التي يتعين أن تحوزها قوى الثورة والمعارضة في معركتها ضد النظام الاستبدادي (لو امتلكت المهارات اللازمة لذلك) فيما يلي:
    1- تيسير عملية الحوار السياسي على مستوى الأفراد والجماعات من خلال المجموعات النقاشية.
    2- توظيف كثافة التفاعل والمشاركة للتأثير في مجالات: التدوين والتعليق والتقييم والنقد.
    3- تعزيز حرية التعبير وإبداء الرأي والتوقيع على العرائض والانضمام للاحتجاجات الإلكترونية.
    4- نقل العملية التفاعلية من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع كالدعوة إلى التصويت والتظاهر والاحتجاج.
    5- فتح مجال الممارسة الشعبية عبر قنوات: التطوع، والتبرع، والحشد، والتعبئة، والترويج، ونشر الفيديو.
    6- تعزيز ثقافة حقوق الإنسان من خلال فضح الممارسات القمعية للنظام والدعوة للعدالة والمحاسبة.
    7- الاستفادة من الشبكات الافتراضية لتخطي القيود القانونية والإجراءات القمعية في مناطق النظام.

وفي ظل التغيير الديمغرافي الذي تشهده البلاد؛ فإنه من الواضح أن التحديات المقبلة ستتخطى مسألة إسقاط الحكم الشمولي، وستمتد لتشمل مخاطر فقدان الدولة دورها، وتنامي أدوار المجموعات الإثنية المدعومة من الخارج، ما يهدد بتحول المشهد السوري من ثورة ضد الحكم الاستبدادي إلى صراع مجتمعي خارج عن نطاق السيطرة، ويدفعنا ذلك بدوره للحث على استحداث آليات جديدة في الممارسة السياسية تتواءم مع التحولات الكبرى التي تشهدها البلاد، وذلك بهدف رأب الصدوع المجتمعية، وحماية الهوية الوطنية، ومعالجة الكوارث الناتجة عن الانهيار الاقتصادي، وسياسات التهجير القسري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى