الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 32
العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق
موقف القانون الدولي من عدم اعتراف الحكم الجديد في إيران بالاتفاقية (2)
جاءت المادة الثالثة من اتفاقية الجزائر لعام 1975م، بنص يلزم الجانبين بفرض رقابة صارمة على حدودهما المشتركة، لمنع كل أشكال التسلل التخريبي، يقول نص المادة الثالثة (يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان بأن يمارسا على الحدود بصورة دائمة، رقابة صارمة وفعالة لغرض وقف كل تسلل ذي طابع تخريبي من أي محل نشأ، وذلك على الأسس وطبقا للأحكام التي تضمنها البروتوكول وملحقه، المتعلقان بالأمن على الحدود الملحقة بهذه الاتفاقية).
وجاء في المادة الرابعة من الاتفاقية نفسها، أن المواد 1و2و3 ستكون جزء لا يتجزأ منها، أي أن خرق أي بند منها يعرض الاتفاقية كلها للخطر.
فماذا ترتب على إيران لعدم تنفيذها بعض بنود الاتفاقية؟ لا شيء بالمرة، وهل كانت لدى العراق فرق التسلل التخريبي التي يرُسلها إلى إيران لتنفيذ عمليات تخريبية لصالحه؟ كما كانت إيران تفعل ذلك، سواء عبر فرق ترتبط بالأجهزة الأمنية الإيرانية، أو عبر تنظيمات إرهابية تم تأسيسها لتضم في صفوفها عناصر تدين بالولاء الكامل لإيران، بصرف النظر عن شكل نظام الحكم فيه، لأنها تنحدر من أصل فارسي، أو ارتبطت بإيران استنادا إلى برامج سياسية وطائفية تم غرسها خلال قرون طويلة، ولم تتمكن من الخروج على ولاء غرسته عقول فارسية منذ عهد الكليني ومَنْ جاء من بعده.
أما العراق فقد تحرك على أساسين راسخين، دولة عصرية مدنية تسعى لتثبيت مفاهيم احترام القوانين الدولية، وعدم إثارة النعرات الطائفية، لأن من حكم العراق منذ قيام الدولة العراقية عام 1921، اعتمد برنامجا وطنيا يعتبر التدخل في شؤون الدول الأخرى من مخلفات الماضي ومما يهدد السلام الإقليمي وينسف العلاقات بين الدول.
وفي جانب آخر فقد كان الخطاب القومي واضح المعالم في سياسة العراق، لا سيما بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى حكم العراق في 17 تموز 1968، وربما حاول في مرحلة ما، توظيف القضية القومية في إقليم الأحواز، ولكنه لم يستطع فهم، أو لم يُرد أن يفهم، كيف أن العصبية المذهبية تمكنت من عرب الأحواز، وسَمَتْ على الانتماء القومي، وهذا ما لم يستطع البوح به رغم مرارته، وخاصة بعد اصطفاف الأحوازيين، إلى جانب نظام الخميني أثناء حرب الثماني سنوات.
على العموم في نهاية عام 1978م، اندلعت في إيران اضطرابات احتجاجية، على الظلم الذي مارسه نظام الشاه محمد رضا بهلوي على جميع أبناء الشعب الإيراني، واستئثار الطبقة السياسية الحاكمة والمقربة من الشاه، بكل امتيازات الحكم من مال ونفوذ، وتعريض الملايين من أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى في البلاد، لظلم وتمييز سياسي ومالي، وزج عشرات الآلاف من المعارضين الإيرانيين في السجون التي أقيمت لمنع الإيرانيين، من التعبير عن آرائهم السياسية، ومارس النظام قمعا متعدد الصيغ والوجوه والأساليب للحركات والأحزاب السياسية، التي كانت تتطلع لحكم عادل يتم منح الشعب، الحرية باختيار ممثليه في حكم نفسه في بلده، ووضع حد للتوزيع غير العادل للثروة في المجتمع الإيراني، بما يضع حدا لاستئثار حفنة من أفراد الحاشية، بثروات البلد على حساب عشرات الملايين من المعدمين.
هذه الظروف مجتمعة أدت إلى تنمية اقتصادية غير متوازنة، وقادت إيران إلى خلل في التنمية الاجتماعية، وفورات غضب شعبي من قوى كانت قد رفضت قيام نظام الحكم باستعراضات فارغة، من قبيل مهرجان قورش الذي أقامه الشاه في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك الانفاق العسكري الذي لا يتناسب واحتياجات إيران الدفاعية، وانصراف الشاه إلى جني الأموال ووضعها في حسابات مصرفية خارجية، مما عزله عن جماهير الشعب الإيراني، فصب جهوده لتنشيط دور الأجهزة الأمنية، لتكون له عونا من أجل الاستمرار في سلطة الظلم والثراء من المال العام.
كانت الأحداث تتسارع في البلاد، وتتصاعد بكيفية شلّت قدرة الشاه على التفكير، والتحكم بالنهايات السائبة لخيوط اللعبة السياسية المعقدة، في بلد يقوده من وراء الستار مئات الآلاف من المعممين، المعارضين سرا والموالين في العلن، والذين يشكلون طبقة متنفذة في مجتمع متخلف، ويعاني من مستويات عالية من الأمية والجهل.
كان الخميني مقيما في العراق لزمن طويل، وعاش في مدينة النجف العراقية، وكان يحمل ضغينة شخصية على الشاه لأسباب خاصة، ويراقب ما يحصل في إيران عن بعد، فبدأ تحركا سياسيا، وذلك بتحريض الإيرانيين على الاستمرار بالثورة، حتى اسقاط حكم الشاه، في حين كان العراق ملتزما بالمبادئ التي استندت عليها اتفاقية عام 1975م الموقعة بين البلدين في الجزائر، لأن للعراق تجربة مرة مع إيران ولعدة قرون، بشأن عدم التزامها بما توقعه من اتفاقيات تحت ذرائع مختلقة، ولأن اتفاقية عام 1975م تنص على عدم التدخل في الشأن الداخلي من كلا البلدين، فقد أراد العراق قطع الطريق على إيران الشاه، ومنعها من اتهامه بالتدخل بشؤون إيران الداخلية، فاختار التدخل الرسمي، لوقف التحريض الذي كان الخميني يمارسه من داخل الأراضي العراقية على نظام الحكم الإيراني، خاصة وأن عدة مذكرات من وزارة الخارجية الإيرانية كانت قد سلمت للسفارة العراقية في طهران، أو من قبل السفارة الإيرانية في بغداد لوزارة الخارجية العراقية، تشكو من دور الخميني في عملية التحريض على العنف، (وأشار الشاه أنه طبقا للاتفاقية المبرمة بينهما في مارس 1975م تعهد كل من العراق وإيران بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلد الآخر، ومن الواضح أن نشاطات الخميني تتعارض مع هذا التعهد، وكان ذلك متسقا مع روح الاتفاقية بين العراق وإيران، وهكذا ذهب السيد سعدون شاكر مدير المخابرات، والذي أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية، إلى الخميني وأخبره أن الشاه قد طلب تنفيذ اتفاقية 1975م، لذا فعليه أن يختار إما أن يتوقف عن دعوته للثورة أو أن يرحل عن البلاد، وبعد مناقشة قصيرة فضل الخميني أن يرحل)، وحاول الذهاب إلى الكويت لكن السلطات الكويتية منعته من دخول أراضيها وبعد فشله في الذهاب إلى الكويت، اختار السفر إلى فرنسا حيث بقي هناك يوجه الرسائل إلى معارضي نظام الشاه ويحرضهم على مواصلة الثورة، وأخيرا عاد إلى طهران على متن طائرة جامبو(بوينغ 747) أمريكية الصنع وتابعة للخطوط الجوية الفرنسية.
وإذا ما أضيف هذا العامل الشخصي بالنسبة للخميني، المعروف عنه أنه من الذين يحبسون حقدهم في صدورهم، وتأجيله لحين الفرصة المتاحة، ويوصي الخميني الإيرانيين بـ(احفظوا حقدكم وغيظكم الثوري في صدوركم، أنظروا بعين الغضب والنقمة إلى أعدائكم)، وبهذا النص فإننا سنفهم مكنونات الخميني وطريقة تفكيره وتعامله مع الأحداث، والنص وإن كان قد وضع نهاية للحرب عام 1988، إلا أنه في واقع الحال سيضع أمامنا واحدا من أهم عوامل نشوب الحرب وأكبرها، في أسباب استمرارها بعد ذلك، ظنا من الخميني أنه سيثأر لنفسه من العراق ونظام الحكم الوطني فيه، ومن الرئيس صدام حسين شخصيا، لما اعتبره طردا غير مشرف له من الأراضي العراقية، ولما تأكد له أنه غير قادر على تحقيق النصر الموهوم، فإنه أوصى أتباعه باختزان الحقد في صدورهم، فهل من صفات المسلم أن يحقد؟
على الرغم من أن ما حصل في إيران كان بمثابة إعصار أهوج اقتلع نظام حكم أراد أن يجعل من نفسه شرطي حراسة للمصالح الغربية في منطقة الخليج العربي، وعلى الرغم من حالة انعدام الوزن التي مرت بها إيران والشعارات التي كانت تموج بها من دون أن يعرف أحد أين سترسو سفينة الفوضى التي اجتاحتها، وخاصة بعد أن رفع الخميني شعار تصدير الثورة، ليؤجج نيرانا ظلت إيران تسعى لإشعالها على مقربة من أكبر خزان نفطي في العالم من أجل الهيمنة على المنطقة، وعلى الرغم من أن الشعارات التي رفعتها إيران في عهدها الجديد كانت تضعها في موضع العداء من الولايات المتحدة التي حملت بجدارة اسم الشيطان الأكبر، وتهدد المصالح الغربية بأقسى الضربات وتتوعدها بتدابير للحد من نفوذها، وعلى الرغم من كثرة التصريحات النارية التي كانت تخرج من طهران بمناسبة وغير مناسبة وعلى ألسنة كبار المسؤولين في النظام الجديد، وخاصة ما يرتبط برفضهم الاعتراف باتفاقية الجزائر لعام 1975م، على الرغم من ذلك كله فإن الأمم المتحدة ممثلة بأمينها العام، والمنظمات الأخرى مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، والدول الكبرى بصورة فردية أو جماعية وقفت موقفا متفرجا تجاه هذا التهديد الخطير الموجه للعراق البلد المؤسس لثلاث من هذه المنظمات وعضو في المنظمة الرابعة وهي منظمة التعاون الإسلامي، كانت الدول الكبرى تريد ضرب رأسين كبيرين في المنطقة ببعضهما وتشغلهما في اشتباك طويل، وتحاول منع أي منهما من أن يخرج منتصرا في الحرب والتي ستضمن للدول الكبرى بالتقرب من منطقة أوشكت أن تغادرها، لذلك كانت الأوساط السياسية الدولية الفاعلة في الساحة الدولية، ومعها المصادر الصحفية المرتبطة بها والمعبرة عنها تركز على أن الحرب هي حرب (لا غالب ولا مغلوب)، واحتل هذا الشعار مكانا مهما في مراكز الدراسات لتسويقه وإقناع زعماء البلدين بأنه الخيار الوحيد المتاح لهم، وعليهم أن يروضوا أنفسهم لقبوله، غير أن الحرب التي أخذت مسارات متعرجة في مراحلها المختلفة، عادت لتستقر على تفوق عراقي حاسم وخاصة في معارك شرق البصرة عام 1987م، (معركة نهر جاسم) والتي كسرت العمود الفقري للقوات الإيرانية، وصدر بعد تلك المعارك بستة أشهر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 لسنة 1987م، ووافق عليه العراق بعد صدوره مباشرة، على الرغم من أن جزء مهما من أراضيه كان تحت الاحتلال الإيراني، وخاصة مدينة الفاو التي احتلتها القوات الإيرانية في شباط 1986م، كانت موافقة العراق بكل المقاييس مجازفة كبيرة، لأن من يعرف نمط التفكير الإيراني، يتحتم عليه أن يعي جيدا أن الزعامة الجديدة في إيران والتي تستند على حيز ملموس من عناصر التأثير المذهبي في العراق وخاصة الأحزاب الطائفية، ما كان لها أن تنسحب من أرض احتلتها بقوة السلاح، وخاصة بوزن مدينة كالفاو، ولكن إيران رفضت القرار وإن كانت لم تعط موقفا قاطعا ورفضا صريحا له، ولكن موقفها كان مفهوما تماما وهو رفض القرار جملة وتفصيلا، وكان الرفض الإيراني من حسن حظ العراق، كي يحشد امكاناته البشرية والاقتصادية للجهد العسكري الذي خطط به لاستعادة الفاو وسائر الأراضي العراقية المحتلة الأخرى، وفي الوقت نفسه مضى العراق في حملته الدبلوماسية لحشر إيران في زاوية دولية حرجة بسبب رفضها لقرار مجلس الأمن آنف الذكر، كانت سياسية العراق تدعو إيران للموافقة على قرار مجلس الأمن وفي الوقت نفسه تستعد لمعركة فاصلة تعرف القيادة العراقية، أنها وحدها هي التي ستؤدي إلى وقف إطلاق النار، وهذا ما حصل في نيسان عام 1988م حينما حررت القوات العراقية مدينة الفاو في عملية عسكرية بمنتهى الدقة من حيث التخطيط والتنفيذ ، وبعد تحرير الفاو انطلقت القوات العراقية في عمليات متلاحقة فأنجزت تحرير كل ما تبقى من أراض عراقية كانت تحت الاحتلال الإيراني، مما أدى إلى انهيار شامل للقوات الإيرانية ومعنوياتها، وذهول كبير للزعامتين الدينية والسياسية في إيران عن أسباب هذا التداعي المفاجئ في قدرات القوات الإيرانية وكفاءتها، وبدأت الزعامات الإيرانية الأقل تشددا بممارسة أقصى درجات الضغط على الخميني، ليوافق على قرار مجلس الأمن، والذي أعطاه بعد عام كامل من صدور القرار، ولكن بعد أن ضيعت إيران على نفسها أكبر فرصة لعزل العراق سياسيا ولإجباره على تقديم التنازلات السياسية، بشأن استعادة الأراضي التي كانت ما تزال تحت الاحتلال.