ثقافة وأدب

وقفة مع رواية : ” مدن الضجر “

د. منذر عياشي

أكاديمي وناقد سوري
عرض مقالات الكاتب

إذا كان من الظلم _ كما قال لي بعضهم _ مقارنة الروائي العربي والروائي الغربي ، ولا أدري لماذا هو ظلم ، فكذلك هو ظلم أن تعطي رواية عربية جائزة ما وهي دون هذا الاستحقاق .
وصلتني ، بوساطة أديبة سورية، منذ أيام رواية للكاتب الأستاذ نادر منهل حاج عمر رواية بعنوان : ” مدن الضجر ” . وللوهلة الأولى احتلت ” فاكرتي ” وذاكرتي رواية عبد الرحمن منيف : ” مدن الملح ” . ولكن …
مضيت بالقراءة ، بناء على وعد كنت قد قطعته للأديبة الفاضلة ، ولولاه لما أتممت . وكان لي موقف سلبي من الرواية ، يتلخص في النقاط الآتية :
١ — عنوان الرواية : ” مدن الضجر ” . كي لا أجري مقارنة مع الروايات التي اتخذت من المدن موضوعاً لها ، فيمكنني بداية أن أقول إن عالم المدينة وعالم الرواية هو عالم واحد . وكذلك يمكن القول على نحو أدق أيضاً : إن الرواية حيز تسكنه المدن وتقيم معمارها فيه : بشراً وحجراً ، حضارة وثقافة ، فناً وأدباً ، ديناً وفلسفة ، تراثاً وحداثة ، تعايشاً وصراعاً ، اقتصاداً واجتماعاً وسياسة ، إلى آخره . والمحيط أنك حين تدخل رواية تعنون لنفسها بلفظ ” المدن ” الملح أو الضجر أو الجريمة أو أي شيء ، فإنه بالضرورة ، ولا أحد الأدنى يجب أن تكشف عن هذه الوجوه التي ذكرت ، والتي لولاها تكف الرواية عن أن تكون رواية . والمذهل ، أن هذه الرواية فيها غياب كامل للمدن التي ذكرت أسماءها : غزة ، دمشق ، طرطوس ، وغياب مخيف لمخيم من أعظم مخيمات اللجوء ربما في العالم ، وهو مخيم اليرموك الموجود على طرف من أطراف دمشق . ومن يعرف ، يمكن أن يخبر عن العلاقة : دينياً ، وثقافياً ، وحضارياً ، وسياسياً ، واجتماعياً ، وأنترولوجياً ، بي المخيم ودمشق . وحين تفتش في الرواية ، لا نجد أي أثر من هذا القبيل ولا من غيره في هذه الرواية. بل إننا إذا سألنا هذه الرواية عن الجامع الأموي ، وأين هو ، وعن سوق الحميدية ، وأين هو ، وعن وعن وعن مئات الأماكن في دمشق وفي مخيم اليرموك وفي غزة وفي طرطوس على كل صعيد لما وجدنا شيئاً . فبأي شيء حملت هذه ” الرواية ” اسم ” مدن ” . ولأنني هنا لا أقدم دراسة نقدية ولكن ملاحظة ، سأكتفي بهذا المقدار لأنتقل إلى النقطة الثانية .
٢– الرواية ، لأنها معمار مديني ، فإنها تشكل هاجساً وأطروحة تتقابل فيه المتناقضات التباينات وتبرز فيه التوالفات والمصالحات . وإذا سألنا أنفسنا ونحن في ساحات هذا المعمار المدني ، ماهو الهاجس المهيمن وما هي الأطروحة البارزة الذي به والتي بها يقوم هذا المعمار ، فإننا نقف أيضاً طويلاً طويلاً طويلاً على امتداد سرد ثم سرد ثم سرد من غير أن تلتقط هاجساً أو أطروحة . وحينئذ نتساءل لماذا كتبت هذه ” الرواية ” إن صح أن نسميها كذلك .
٣ — قيل بحق : إن الرواية بديل قوي للفلسفة ، وقيل أيضاً : إنها فسحة لبناء النظريات الاجتماعية ، والنفسية ، والاقتصادية ، والأنتروبولوجيا الثقافية . ولنا في بلاك ما يدل على المنحى الأول ، وفي دوستوفسكي ما يدل على المنحى الثاني ، وفي خلاصات زولا في البنى الاقتصادية لبطن باريس ما يدل على ذلك ، وفي كل موضوعه تولستوي وغيره كثرٌ .. كثرٌ .. كثر ما يدل على ذلك . ولن أعود هنا إلى الدراسات التي استثمرت ذلك في الأدب . وخلاصة ما يمكن قوله هنا هو أن الرواية ما كان لها أن تكون كذلك إلا لأنها تقدم إشكالية تدور الأحداث بها وتتقدم . ولذا ، نجدها تسير في خط طولي تعاقبي ، وإنما في بنية تركيبية توازي بين خطين أفقي تتراصف فيه الإشكاليات اقتصاداً واجتماعاً ومكاناً وزماناً، وعامودي تتصاعد في الإشكاليات سمواً ثقافة ومعرفة وفناً .
وعند النظر في الرواية ، نفتقد إلى كل هذا جملة وتفصيلاً . وحينئذ نسأل أنفسنا ، نحن ماذا نقرأ ، وعن أي شيء نبحث ، وما هو المحصول المعرفي الذي يمكن أن نجنيه .
٤ — إن الشخصيات في الرواية ، عمال تصنع بها الرواية ثقلها المعرفي والوجودي ، وتأخذ مكانها بين الأعمال التي بهم يشار إليها . ولذا ، هم يتمتعون في أبسط الأحوال بعمق نفسي ، وبعد اجتماعي ، وسوية ثقافية إن لم تتمثلها قولاً ، فعملاً . وهذه الأمور هي التي تجعل حضورها فاعلاً ومؤثراً وصانعاً لنفسها ووجودها الروائي . ويؤسفنا أن لا نجد هذا التصور تعمل به هذه الرواية . وما نجده هو أن الرواية قد تعاملت مع شخصياتها وكأنها دمى خشبية أو قطنية ( ماريونيت ) تحركها من الخلف يد مخفية ، في مشهد مشاهد مسرح العرائس : هذه الشخصية تختفي ، وتلك تتزوج ، والثالثة تموت ، وهكذا .
٥ — اللغة المستخدمة في البناء الروائي تقوم على عنصر واحد ، وهو عنصر الوصف السردي فقط . ولقد نعلم أن الرواية متعددة المستويات والأصوات لغة . ولذا ، فإننا نفتقد في هذه الرواية إلى اللغة التحليلية التي تربطها بالفكر الإنساني ووجوده واقعاً في حياة كل مجتمع . ولذا، كانت اللغة ساكنة ، لا تثير الأسئلة ، ولا تحركةالراكد ، ولا تمتلك سببيات تساعد نفسها في إنشاء بنية تفسيرية إزاء أحداث مصنوعة أو قدرية. ولقد جعل كل هذا من اللغة الروائية لغة غير بنائية ، هشة ، وغير قادرة على صوغ الأحداث فيها موضوعاً متماسكاً ومتعالق العناصر . وهذا ما طبعها بطابع تفكيكي .
٦ — الرواية زمنان : زمن داخلي ، وزمن خارجي . ولا يمكن لأي رواية ، مهما علت درجة التجريد فيها أن تخلو من هذين الزمنين . وإذا عدنا إلى هذه الرواية ، فإننا لا نجد ، تقنياً ، استخداماً لهذين الزمنين . ولذا، فإننا عندما نقترب الشخصيات ، نجدها كائنات في أفعالها تحركاتها غير مبنية زمنياً بناء داخلياً متوازياً ومتلازماً زمنياً مع بنائها الخارجي . وهذا ما يجعل الشخصيات شخصيات ورقية ، نحط على سطحها ما يشبه حكايات شخصية عابرة .
٧ — الرواية كائن لغوي لا يحتمل ، لغة ، أكثر مما يحتاجه ويعيش فيه. وقد كان بإمكان الرواية أن تكتفي بماقالته ، وما قالته كثير جداً ، عند الصفحة ٢١١ ، ولكن رغبة الحكي ذهبت بها في حشو زائد إلى أن وصلت بلا ضرورة إلى الصفحة ٢٥٦ .
أكتفي بما فدمت ، وما قدمت هو رأي يقف دون الدراسة الدقيقة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى