بحوث ودراسات

مستقبل العلاقات الروسية التركية: سوريا نموذجًا

المرصد الاستراتيجي


نشر معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) دراسة بعنوان: (Regional Competition and the Future of Russia-Turkey Relations) تناول فيها الباحث (Jeffrey Mankoff) مسألة التنافس الإقليمي والعلاقة المتشابكة بين روسيا وتركيا في عدة مناطق أبرزها: شمال إفريقيا، والبلقان، وسوريا، وجنوب القوقاز، ووسط آسيا، مؤكداً أن المراقبين الغربيين يشعرون بالقلق والحيرة إزاء التقارب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، بالتوازي مع المنافسة الروسية-التركية على الهيمنة والنفوذ.
ورأى الباحث أن الطموح المشترك لإضفاء الشرعية على فكرة قيام قوى إقليمية بممارسة النفوذ على محيطها، وبناء نظم حكم بديلة خارج الأطر الدولية، والعمل على تعطيل السلامة الإقليمية للدول الأصغر قد وفر أسساً جديدة للتعاون الروسي-التركي، فمن خلال إقحام نفسيهما بشكل مباشر في نزاعات وصراعات جيرانهما؛ ضاعفت كل من روسيا وتركيا نقاط الاحتكاك بينهما، حيث تتبع أنقرة وموسكو نمطاً من النهج التشاركي الهادف إلى إضعاف النفوذ الغربي في جميع مناطق الصراع، إلا أنهما في الوقت نفسه يدعمان أطرافاً متعارضة تتقاتل فيما بينها، كما هو الحال في سوريا وليبيا، ويؤدي ذلك إلى قيام أنقرة وموسكو بتطوير عملية مساومة تتمحور حول الدبلوماسية الشخصية بين بوتين وأردوغان.
ففي سوريا؛ اضطر أردوغان إلى الإقرار بأن بشار الأسد سيبقى في السلطة خلال المستقبل المنظور؛ وذلك مقابل موافقة روسيا على احتفاظ تركيا بسلسلة نقاط عسكرية تمتد على طول الحدود السورية-التركية للحد من وجود المقاتلين الأكراد.
أما في ليبيا، فتسعى كل من روسيا وتركيا للسيطرة على الموارد، ويعارض كل منهما الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لاستبعادهما من شبكات خطوط الأنابيب الجديدة في شرق البحر المتوسط، إلا أن افتقار تركيا للمصالح الحيوية في ليبيا جعلها أقل تحفظًا في استخدام القوة ضد المصالح الروسية، ما زاد من مخاطر سوء التقدير والتصعيد الأفقي من جانب موسكو.
وأسفرت حرب ناغورنو كاراباخ (2020) في تشكيل جبهة منافسة روسية-تركية، حيث ساعد الدعم التركي المباشر في قلب الطاولة على الأرمن، وعمق وجود تركيا في جنوب القوقاز.
وعلى الرغم من التدخل التركي غير المرغوب به، في منطقة طالما اعتبرتها روسيا حديقة خلفية لها؛ تمكن البلدان من فرض وقف لإطلاق النار، ما عزز دور تركيا كلاعب إقليمي، فيما حافظت روسيا على مكانتها كوسيط رئيسي بين باكو ويريفان.
وتمثل أوكرانيا الجبهة الأكثر اشتعالاً في الوقت الحالي، حيث يهدد الروس باجتياحها، بينما تنصب تركيا نفسها راعية لتتار القرم، الذين احتلت روسيا مناطقهم عام 2014، وتقوم تركيا في الوقت الحالي بتعزيز الروابط التجارية والعسكرية مع أوكرانيا من خلال تقديم الطائرات.
ووفقاً للدارسة فإن موسكو وأنقرة تسعيان لمزيد من الانخراط في شتى المناطق التي ترتبطان فيها بروابط التاريخ واللغة والثقافة والعرق، وخاصة في جوارهما الإقليمي، حيث يروج الروس في شرق أوكرانيا والأتراك في شمال سوريا لمفهوم “التماثل الهوياتي”، وينتج عن ذلك بروز نموذج جديد مشابه للنموذج الإمبريالي في السياسة الإقليمية كسبب مباشر لفشل كل من روسيا وتركيا في تحقيق الاندماج السياسي والمؤسساتي مع الغرب، ومن المبكر الحكم إن كان هذا النموذج سيؤدي إلى علاقة تعاون بين البلدين أم أنه سيتسبب بعلاقة تنافس غير منضبط بينهما.
النموذج السوري
منذ التدخل الروسي في سوريا (2015)؛ طورت أنقرة وموسكو عملية مساومة مُمنهجة تتيح لكليهما مجال المناورة لتحقيق المكاسب، والحد من احتمالات المواجهة المباشرة في الوقت نفسه، حيث يعمد الطرفان إلى الاعتراف بشرعية ادعاءات الطرف الآخر، ويحافظان على اتصال منتظم، ويسعيان للتوصل إلى حلول سياسية مقبولة للطرفين.
وترى الدراسة أن الصراع في سوريا يمثل الاختبار الأهم لمآلات العلاقة الروسية-التركية المعقدة، حيث تقوم علاقة تعاون أمني وعسكري (بالتعاون مع إيران) عبر منصة دبلوماسية بديلة عن المنصة الأممية لفض النزاع، وذلك نتيجة شعور تركيا بأن الولايات المتحدة لم تقدم الدعم الكافي لها خلال الأزمة الناجمة عن إسقاطها للطائرة الروسية، وإصرار واشنطن على دعم “قوات سوريا الديمقراطية” المقربة من “حزب العمال الكردستاني”، ما دفع بأنقرة للسعي إلى تأمين مصالحها الأساسية في سوريا من خلال محاولة إبرام صفقات مع موسكو، التي كانت قلقة من تآكل نفوذها في حال سقوط الأسد.
وبدورها؛ سعت موسكو إلى تعزيز علاقاتها مع نظام الأسد ومع القوات الكردية، وضغطت من أجل إدراج “حزب الاتحاد الديمقراطي” في محادثات أستانا، متحدية أحد الخطوط الحمراء الرئيسية لتركيا.
وبوجود قوات البلدين على الأرض، شهد المسرح السوري أخطر الاشتباكات بين القوات الروسية والتركية، بما في ذلك إسقاط الطائرة الروسية (2015)، والضربات الجوية الروسية التي أودت بحياة عشرات الجنود الأتراك جنوب إدلب مطلع عام 2020.
وبقدر اختلاف الأهداف السياسية لأنقرة وموسكو في سوريا؛ إلا أن الطرفان تمكنا من التوصل إلى تسويات مؤقتة، أصبحت تمثل نموذجاً للتفاعلات بينهما في مناطق أخرى، حيث أعطى هذا الترتيب تركيا “فسحة” للحد من التهديد الكردي وتأمين مصالحها الخاصة في سوريا، إذ توصل الطرفان إلى اتفاق لوقف النار في حلب (ديسمبر 2016)، وقاما بإنشاء إطار لإجراء مشاورات المنتظمة، واستحدثا “خطاً ساخناً” بين رؤساء الأركان، وتوصلا إلى خارطة طريق في محادثات “أستانا” التي تجرى بالتوازي مع الوساطة الأممية في جنيف.
ولاحظ الباحث أن عملية “أستانا” قد همشت دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لصالح إيران وروسيا وتركيا، وهي الدول “المستعدة لتحمل مخاطر كبيرة واستخدام القوة العسكرية لتشكيل النتائج السياسية”، حيث ينخرط زعماء الدول الثلاثة في مشاورات مكثفة بشأن سوريا.
وأتاحت تلك الآلية لتركيا المجال لحماية مصالحها الخاصة في سوريا، ولا سيما بناء السلام والاستقرار في المناطق الحدودية، وذلك في مقابل إقرار أنقرة فعلياً أن الأسد سيبقى في السلطة، وأنه لن يكون هناك حل للصراع القائم دون التوافق مع الروس والإيرانيين، حيث قبلت تركيا بالتعزيزات العسكرية الروسية في سوريا، ولم يعارض الكرملين بدوره العمليات التي شنتها تركيا للسيطرة على مناطق في شمال سوريا مثل “درع الفرات”، التي كانت الأولى من عدة عمليات عسكرية عبر الحدود تهدف إلى إبعاد تنظيم “داعش” و”وحدات حماية الشعب” عن الحدود السورية-التركية، وإتاحة المجال لتركيا بالسيطرة على مساحة شاسعة تمتد على طول الحدود غرب نهر الفرات.
وفي أكتوبر 2019؛ وكجزء من عملية “نبع السلام”، تقدمت القوات التركية عبر الحدود إلى شمال شرق سوريا، إلا أن الدخول المفاجئ للقوات الروسية وقوات النظام السوري أجبر أنقرة على التوصل إلى اتفاق لوقف لإطلاق النار، تشرف بموجبه القوات الروسية على إبعاد المقاتلين الأكراد، وتقوم بدوريات مشتركة مع القوات التركية، مقابل التزام موسكو بكبح المقاتلين الأكراد وإبقائهم بعيداً عن الحدود.
ودفعت معارضة “الناتو” للعملية التركية بأنقرة للتعامل مع روسيا بشكل ثنائي، حيث نصت اتفاقية أستانا على إنشاء أربعة “مناطق خفض تصعيد”، واضطرت قوات النظام لتعليق عملياتها القتالية في تلك المناطق، وذلك بالتزامن مع انسحاب فصائل المعارضة من ثلاثة من مناطق خفض التصعيد الأربعة بحلول عام 2020.
وتحرص أنقرة في الوقت الحالي على الاحتفاظ بإدلب، ليس لأنها تؤوي عشرات الآلاف من النازحين الذين قد يفرون نحو الحدود في حالة وقوع هجوم لاستعادة المدينة فحسب، ولكن لأن وجود فصائل المعارضة فيها يمنح أنقرة ورقة مساومة مع موسكو وطهران ودمشق.
ويمكن ملاحظة تدهور التنسيق الأمني بين الطرفين عام 2020، حيث اتهمت موسكو أنقرة بالفشل في تنفيذ التزامها بعزل “هيئة تحرير الشام” وعدم فتحها الطرق السريعة التي تربط دمشق بحلب واللاذقية، ما دفع بالقوات الروسية لشن عمليات عسكرية (فبراير 2020)، وتوقف الدوريات المشتركة في محيط إدلب، الأمر الذي قابلته أنقرة بإرسال آلاف القوات الإضافية إلى شمال سوريا، وشن هجوم كاسح أسفر عن خسائر فادحة في صفوف النظام، وتم احتواء الأزمة من خلال اتفاق مباشر -بين بوتين وأردوغان- على وقف إطلاق النار، منحت بموجبه قوات النظام السيطرة على طريق دمشق-حلب، فيما احتفظت تركيا بوجودها العسكري في محيط إدلب.
وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال تطمح بإعادة توحيد البلاد تحت سلطة الأسد؛ إلا أنها مضطرة للقبول في الوقت الحالي بواقع الوجود التركي في إدلب وعلى طول الحدود الشمالية، بينما تقر تركيا من طرفها بأن الأسد -إلى جانب رعاته الروس والإيرانيين- هو لاعب مهيمن في بقية أنحاء البلاد.
ويرى الباحث تشكل نظام إقليمي بين روسيا وتركيا يقوم على المزج بين:
1- شن المعارك الجزئية بالوكالة
2- المساومة الدبلوماسية رفيعة المستوى
3- تجاوز المؤسسات الدولية
ويتوقع أن يستمر هذا النموذج (الناتج عن فشل كل من روسيا وتركيا في تحقيق التكامل السياسي والمؤسسي مع الغرب) في المستقبل المنظور، إذ إن محاولات الدول الغربية لتسويق نموذجها الأمني عقب الحرب الباردة قد باء بالفشل، وانعكس ذلك بصورة واضحة على محاولات موسكو وأنقرة العودة إلى النموذج “شبه الإمبراطوري” في سياساتهما الإقليمية.
في هذه الأثناء؛ تنخرط كل من موسكو وأنقرة في الصراع على مناطق “منكوبة”، وذلك في سعي حثيث لبناء نُظم إقليمية مغايرة تقوم على التسلسل الهرمي، والسيادة المحدودة، وتعطيل وحدة وسيادة الدول الصغيرة، فيما تُنصّب روسيا نفسها كمنافس إستراتيجي للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة في أوراسيا من خلال العمل على كسب تركيا وغيرها من “الدول المحورية”، ومداعبة إحساسها بالعظمة، وإشباع تطلعاتها إلى تحقيق التأثير الإقليمي.
كما توفر روسيا لتركيا طوق النجاة إثر علاقاتها المشحونة مع حلفائها في “الناتو”، وتعمل في الوقت نفسه على إضفاء الشرعية على طموحاتها التوسعية، وستعتمد العلاقة الروسية-التركية في الفترة المقبلة على قدرة بوتين وأردوغان (أو من يأتي بعدهما) على إدارة القائمة المطولة المستمرة من الأزمات ونقاط الاحتكاك بين دولتيهما.
وعلى الرغم من المتاعب الاقتصادية التي تعاني منها كل من موسكو وأنقرة؛ إلا أن التحولات الكبرى تشير إلى أنهما سيستمران في القيام بدور قيادي داخل مناطق نفوذهما، وفي تعزيز استقلاليتهما الإستراتيجية خارج الإطار الدولي، ويعتمد ذلك بصورة أساسية على نجاحهما في إدارة قائمة الصراعات الإقليمية المتزايدة بشكل سلمي، وإذا أضيف لهما تنامي طموحات كل من الصين وإيران والقوى الإقليمية الأخرى في أوراسيا، فإن الأوضاع تنذر بنشوء نظام دولي “إمبريالي” جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى