بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 27

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق (9)

اتفاقية عام 1975 في الميزان

لم تكن اتفاقية الجزائر، أكثر من رقم جديد أضيف إلى الاتفاقيات والمعاهدات السابقة، والتي امتلأت بها أدراج وزارتي الخارجية في كلا البلدين، وكانت إيران تخرقها بصفة مستمرة، ولكن هذه الخروقات، كانت للأسف تُواجه بصمت، أو بحرب مذكرات رسمية من الخارجية العراقية، من دون أن تسفر عن نتائج إيجابية تُعيد الحق إلى نصابه، وعلى الرغم من أن إيران تعرف مسار الحدود بين البلدين، فإنها وكما أكد الكتاب الصادر عن وزارة الخارجية العراقية عام 1960م، بشأن مشكلة الحدود بين البلدين، فإنها كانت تبادر لإقامة مخافر إيرانية ترفع علمها عليها، بأعماق مختلفة داخل الأرضي العراقية، ولا تمتلك الحكومات العراقية وفي مختلف العهود، غير تقديم مذكرات الاحتجاج، أو التماس خجول من الجانب الإيراني لإزالة تلك المخافر، ولم يصادف ولو لمرة واحدة، أن استجابت إيران لمناشدات العراق، ولم يصادف بالمقابل أن قام العراق ببناء مخفر حدودي واحد، ولو لمسافة متر واحد داخل الأراضي الإيرانية، إما لأنه من الضعف بحيث لا يجرؤ على القيام بعمل كهذا وهذا هو المرجح، أو لأنه يتصرف كدولة لها قواعد تحركها في علاقاتها مع الدول الأخرى، مع طرف لا يقيم وزنا للقوانين والعلاقات الدولية.
وفي كل الاتفاقيات الموقعة بين بلاد فارس من جهة والدولة العثمانية، أو الدولة العراقية بعد استقلال العراق من جهة أخرى، كان العراق أو الطرف الذي يُمثله في وضع المضطر لتوقيع تلك الاتفاقيات، وكانت إيران هي المستفيدة منها على طول الخط، ولم تُوقعها عن ضغط تعرضت له أو اضطرار أو إكراه، بل كانت تفعل ذلك وهي تُخطط لتحقيق قفزة أخرى على حساب الحقوق العراقية الثابتة.
ولا تخرج اتفاقية الجزائر لعام 1975م عن هذا السياق، ويمكن للباحث أن يؤشر حقيقة ثابتة تلتقي عندها جميع الحكومات الإيرانية، وهي أنها ومهما اختلفت في برامجها السياسية والاقتصادية عمن سبقتها، فإنها تلتقي عند برنامج واحد وهو الزحف والتوسع غربا على حساب الأراضي العراقية.
كما تجاوزت إيران على الأنهار المشتركة، التي تنبع من إيران، وقامت بتغيير مجاريها، بحيث لم تعد تصب في الأهوار أو الأنهار التي تجري داخل العراق منذ الأزل، وأقامت الكثير من السدود والخزانات الكبرى عليها، من دون التشاور مع العراق كما تقتضي القوانين الدولية، وكما نصت على ذلك محاضر قومسيون الحدود لعامي 1913 و1914م، وقد أدى ذلك إلى إلحاق أضرار كبيرة في الأراضي الزراعية العراقية في المناطق الحدودية، كما أدى إلى هجرة سكان المناطق الحدودية من قصباتهم وقراهم إلى مختلف المدن البعيدة.
ولعل اطروحة النظام الجديد في إيران، بعد وصول الخميني للسلطة عام 1979، بعدم الاعتراف باتفاقية الجزائر التي كان حبرها لم يجف بعد، عندما دعا لنسف تلك الاتفاقية، اطروحة لا مكان لها في عالم العلاقات الدولية، أي انه عندما صرح أكثر من مرة بعدم الإقرار بما كان الشاه المعزول قد وقّعه من معاهدات واتفاقيات مع العراق، فإنما أراد فرض رؤية غبية نابعه عن مشاعر حقد شخصي، وليس عن منطق زعيم دولة يسعى لتعبيد الطرق إمام بلاده لإقامة علاقات حسن الجوار مع الدول الأخرى.
إن منطقا كهذا، يُهدد انسيابية العلاقات الدولية بالاستقرار، فلو تم اعتماد هذا المنطق المتخلف في العلاقات بين دول العالم المتحضر، لضربت الفوضى أطنابها في كل المحافل، ولما استقرت اتفاقية جماعية أو ثنائية على قوائمها لفترة طويلة.
لكن اللافت للنظر في ما كان نظام خميني، يطرحه من وجهات نظر، أنها محصورة في علاقات بلاده مع العراق، وهذا استخفاف بمكانة العراق، فإيران لها حدود برية مع عدة دول غير العراق هي، تركيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان من الشمال، وأفغانستان وباكستان من الشرق، هذا من غير دول الخليج العربي المتشاطئة معها، مما يؤكد أن بوصلة كل حاكم إيراني ومهما كانت توجهاته، لا مؤشر لها إلا العراق كهدف نهائي في لائحة الأطماع الإيرانية.
إن الفكرة التي تعكزت عليها الزعامة الإيرانية الجديدة، من أن معاهدة 1975 عقدت من قبل نظام غير شرعي، تعكس استهانة إيران بالمواثيق الدولية، فإيران عندما استنفدت غرضها من الاتفاقية وانتزعت نصف شط العرب، راحت تختلق الذرائع والظروف الطارئة التي تُتيح لها ركنها جانبا، ووضعها في درج أرشيف وزارة الخارجية الإيرانية للمواثيق الدولية التي تعود لعهود قديمة، فراحت تتطلع إلى مكاسب أكبر مما حققته في الاتفاقية السابقة، ذلك أن إيران تنظر إلى كل اتفاقية توقعها مع العراق، على أنها درجة واحدة ترتقي بها سلما عاليا، لا تستطيع القفز إلى أعلى درجة فيه دفعة واحدة، فسقف المطالب الإيرانية يضع نصب عينه ابتلاع العراق بكامله، وهذا ما قاله ملوك إيران السابقون، وما أكده قادة إيرانيون معممون وسياسيون وعسكريون في عهدهم الجمهوري، فهذا قائد القوة البرية الإيرانية بعد 1979، وبعد لقائه مع الخميني وبني صدر رئيس الجمهورية المعزول، يشير بصراحة إلى نظرة إيران إلى العراق في عهدها الجديد ومخططاتها المستقبلية فيه، أما صادق قطب زادة وزير الخارجية الذي أعدمه خميني في وقت لاحق بتهمة التآمر، فقد قال إن بغداد وعدن تابعتان لإيران، وتعكس هذه التصريحات التي تخرج من أفواه كبار المسؤولين المقربين من الخميني، أمراً في غاية الخطورة، وهو حقيقة ما تضمره إيران من نوايا وأطماع في العراق.
جاء توقيع التصحيح المضاف إلى اتفاقية الجزائر لعام 1975م، في بغداد في السادس والعشرين من كانون الأول عام 1975م، من جانب وزيري خارجية البلدين، وبعد نحو تسعة أشهر فقط على توقيع المعاهدة المذكورة، وليكون جزءً لا يتجزأ منها، جاء ليؤكد أن عقد اتفاقية عام 1975م، تم على عجل ومن دون مراجعات متأنية، لعوامل تتعلق بالعراق خاصة، فلقد كان العراق مضطرا لها اضطرارا، لحماية وحدة أراضيه جرّاء تهديد داخلي مدعوم من الخارج، إما إيران فقد كانت حريصة على تكريس مكاسبها باتفاقية رسمية مع الجانب العراقي، ولهذا تم توقيع الجانبين على اتفاقية الجزائر بتلك العجلة، أمراً مستغربا وكأن الوقت يوشك أن يفلت منهما.
ولو أن الاتفاقية، من جانبها العراقي (وهو ما يعنينا)، قد طُرحت على الرأي العام بنقاش مفتوح، أو عرضت على الأقل على أساتذة القانون الدولي في الجامعات العراقية عبر مؤتمر اختصاصي، أو على الجهاز الحزبي بمستوياته المتقدمة، لكان ممكنا التوصل إلى صياغات أكثر دقة لبنودها، بحيث تقطع الحاجة إلى مثل هذه الاضافة السريعة التي تقلل من قيمتها القانونية، بل وتحفظ حقوق العراق التاريخية والجغرافية والسياسية، ولكن الظرف السياسي الذي مرّ به العراق، دفع بقيادته إلى القبول بتوقيعها قبل أن يُضطر لتقديم تنازل أكبر، ومع ذلك فإن التصحيح الذي أضيف إلى المعاهدة، يعكس حرص العراق على تفويت الفرصة على إيران من استغلال الثغرات القانونية في الاتفاقية، للتلاعب في قضايا التحكيم بالخلافات الناتجة عن التفسيرات المتباينة، التي تنحصر بإيران، استنادا إلى تجارب عراقية طويلة مع الحكومات المتعاقبة في طهران، والتي لم تحترم تعهداتها وتتلاعب بالوثائق كما حصل عبر تاريخ طويل، واتفاقيات كثيرة بين الجانبين، فالعراق كان يحترز لنفسه ومصالحه وحقوقه من نوايا إيران التي لا يمكن الركون إليها، قدر ما يُتاح له ذلك.
إن أهداف إيران وأطماعها في العراق، حاضرة في أذهان الزعامات الإيرانية السياسية والعسكرية وأخيرا الدينية، ولو أن المعلومات الاستخبارية كانت متاحة وفي متناول القيادة السياسية العراقية، عن حقيقة الوضع الداخلي في إيران، وما كانت تعيشه من غضب مكبوت ونقمة شعبية عارمة، في وقت توقيع الاتفاقية، ولو أنها كانت متوفرة لدى صانع القرار السياسي العراقي، لما أخذت الأحداث هذا المسار، لكن شاه إيران عزم على تصدير أزمته الداخلية إلى الخارج قبل فوات الأوان، إذ حاول أن يصنع انتصارا مع العراق يُغطي على ما يعيشه الشارع الإيراني من جزع وغضب واحتقان، ولو كانت هذه الحقائق حاضرة أمام القادة السياسيين في العراق، كان يمكن أن تكون الأمور قد أخذت منحى آخر، ولما اضطر العراق لتقديم التنازلات التي قدمها للشاه المخلوع، فالعراق لم يحشد جهد أجهزته الأمنية من مخابرات واستخبارات، للتعرف على حقيقة أوضاع إيران الداخلية ومن مصادرها المتاحة، لاسيما وأن هناك حركات سياسية كان بإمكان العراق الوصول إليها، مثل حركة مجاهدي خلق، وغيرها من القوى المناهضة لحكم الشاه، أو من خلال عملاء يسهل شراؤهم.
لو أحصينا عدد المرات التي ورد فيه مصطلح صيانة الأمن، ومصطلح بصورة نهائية، وغيرها من العبارات المماثلة، والتي تُذيّلُ بها الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات الثنائية والموقعة بين العراق وإيران، لوجدناها وعلى كثرتها، مجرد عبارات مجاملة خالية من أية إرادة سياسية حقيقية، تهدف إلى وضعها موضع التنفيذ على الأرض، وخالية من أي مضمون قانوني جدي ملزم، بل كانت لمجرد المخادعة، وعندما تتعهد إيران بممارسة أعلى درجات الصرامة والتشدد، لمنع كل أشكال التسلل التخريبي عبر الحدود، فإنها في واقع الحال هي التي تبعث بالمتسللين إلى العراق للقيام بمتخلف المهمات التخريبية والاستفزازية، فهل من المتوقع أن تلتزم بذلك إلا للفترة التي تكون علاقاتها مع العراق طيبة، وهي فواصل عابرة في تاريخهما، فالأمر يرتبط بطبيعة العلاقات والإرادة السياسية، واحتمال تغيّر النظرة السياسية لقيمة هذه العلاقة، فطابع عدم الثبات في مواقف إيران من كل اتفاقياتها مع العراق، يُعد هو السمة الأساسية التي تطبع نوايا إيران الحقيقية.
منذ أن قامت دول على جانبي الحدود في العصور الغابرة، كانت السلطة في إيران توظف الداخل العراقي لصالحها، من دون أن تتمكن السلطات في العراق من توظيف أي ملف إيراني داخلي ضد السلطة الحاكمة هناك على كثرتها، العراقيون هم من أعطى الإيرانيين فرصة التدخل في شؤونهم الداخلية، لعوامل مختلفة منها ما هو عرقي أو مذهبي أو سياسي، وبالتالي فإن من العبث تقديم افتراضات عن عبقرية المخطط الاستراتيجي الإيراني، الذي يعرف ماذا يريد ويعرف طريق تحقيقه، ويمتلك فائضا من الصبر للوصول إليه، لأن البعض يحاول أن يضفي على هؤلاء القوم صفة الحنكة السياسية، على حين أن تقليد صناعة السجاد العجمي الذي قد يستغرق سنوات طويلة، قد انتقل إلى عالم السياسة وصار جزءً منها، هذا ما يتميز به الإيرانيون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى