مقالات

أمريكا تُعد لتوليد الجمهورية اللبنانية الثالثة!

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

بعد انتظار طويل في الوسط السياسي اللبناني لعودة الرئيس سعد الحريري من “منفاه” الطوعي في الإمارات، لمعرفة قراره بشأن المستجدات السياسية في لبنان، وخاصة عن قراره حول المشاركة في الانتخابات النيابية المصيرية القادمة، والمقرر إجراؤها في 15 أيار القادم، عاد الحريري إلى بيروت يوم الخميس، 20 كانون الثاني، وبعد قيامه بسلسلة لقاءات مع كتلته و أبرز السياسيين، أعلن يوم الاثنين 24 كانون الثاني قراره بتعليق عمله السياسي، و عدم مشاركة تيار المستقبل في الانتخابات النيابية القادمة.

هذا الموقف “بدا” وكأنه “قنبلة” سياسية من العيار الثقيل، فقد هز الوسط السياسي الذي بادر كثيرون فيه، بمن فيهم خصمه اللدود النائب جبران باسيل، الى إبداء التعاطف مع “مظلومية” الحريري، الذي وصف نفسه بأنه “كبش فداء” لمساعيه المتكررة لمنع عودة الحرب الأهلية إلى لبنان.
لعله من المفيد، للإخوة القراء خارج لبنان، التذكير بأن النظام السياسي في لبنان يقوم على ما تم تقريره في مؤتمر الطائف الشهير الذي عقد في الطائف- السعودية في 1989 والذي وضع حدّاً للحرب الضروس التي أهلكت الحرث والنسل ودمرت البلاد والعباد ما بين 1975-1990.
“إتفاق الطائف” فرض تعديلاً جذرياً لصيغة النظام السياسي في الجمهورية اللبنانية، ما جعل البعض يطلق على الجمهورية اللبنانية بعده بالجمهورية الثانية، لتعديله صلاحيات الحكم التي نُقلت في جلّها من يد رئيس الجمهورية الماروني، وفقا لبنود الجمهورية الأولى التي صاغتها فرنسا قبل انهاء احتلالها للبنان وانسحابها في 1946، لصالح مجلس الحكومة مجتمعا بقيادة رئيس الوزراء السني، بينما تكرست طائفية رئيس البرلمان الشيعي.
ثم تعاظم نفوذ إيران في المنطقة، بمباركة أمريكية لا تخفى على كل ذي بصيرة في المشهد السياسي الإقليمي خاصة بعد الإحتلال الأمريكي للعراق في 2003 بحجة “ورقة التين لأسلحة الدمار الشامل” التي زعق بها قادة أمريكا لتبرير عدوانهم المجرم وتدميرهم العراق، الذي شرّعوا أبوابه أمام النفوذ الإيراني. ثم خاضت أمريكا جولات مديدة من المفاوضات النووية مع نظام إيران من 2002 وصولا إلى إتفاق فيينا الشهير في 2015 في عهد إدارة الرئيس الأمريكي أوباما. هذا الإتفاق الذي جاء برداً وسلاماً على النظام الإيراني الذي لم يتوان في توسيع نفوذه الإقليمي، بمباركة أمريكية شفافة، حتى تبجّح قادته علانية بتحكمهم بأربعة عواصم عربية.

في 1996 قام الرئيس رفيق الحريري، والد سعد الحريري، ب”شرعنة” سلاح حزب الله في لبنان برعاية أمريكية- فرنسية (وإن كانت أمريكا هي صاحبة القرار الفعلي). ومنذ ذلك التاريخ، وتحت عنوان مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأراض لبنانية تعاظمت قوة حزب الله، تحت سمع وبصر السفارة الأمريكية، وبرضا تام، بل ومباركة منها لأغراض لا يتسع المجال للخوض فيها الآن.
تعاظم قوة حزب الله العسكرية، بفضل الدعم الإيراني اللامحدود، شكلت الرافعة الأساسية لتنامي قوة “الثنائي الشيعي” أي كتلة حركة أمل التي يقودها نبيه بري رئيس البرلمان اللبناني، وكتلة حزب الله. “فائض القوة” هذا دفع بقادة الشيعة في لبنان إلى المطالبة بحصة عادلة في توزيع مغانم السلطة في لبنان، ووجدوا أن إتفاق الطائف عفا عليه الزمن ولا يعكس موازين القوى الجديدة، خاصة في ظل استقواء حزب الله بظل القوة الإيرانية المتعاظمة في الإقليم من سوريا إلى العراق واليمن. في المقابل شهد المسرح السياسي في لبنان، تحت عهد الرئيس الحالي ميشال عون، الشكوى المستمرة لعون وصهره باسيل من الغبن الحاصل في حقوق الطائفة المسيحية، وعزمهم الصلب على استرداد الحقوق المغصوبة. و بين مطرقة تحكم الثنائي الشيعي وسندان “العهد القوي” لعون وصهره، بات رئيس الحكومة “السني” أقل من باش كاتب، لا يحل ولا يربط إلا ما يتوافق عليه الطرفان الشيعي والماروني، كما بدا واضحا في الأحداث الأخيرة حين شل اعتكاف الثنائي الشيعي الحكومة ومنَعَها من الانعقاد تحت طائلة تفجيرها باستقالة الوزراء الشيعة مما يفقدها الميثاقية الدستورية، وهو ما حرص الرئيس نجيب ميقاتي على تفاديه متحليا بصبر أيوب للحيلولة دون تطيير الحكومة.
على هذه الخلفية جاء قرار الحريري الأخير صاعقا، منذرا بتغيير جذري في الحسابات السياسية للقوى المحلية المنهمكة باستنفار كل طاقاتها و “شوارعها” للاستحقاق الانتخابي المصيري القادم، الذي يراهن عليه سمير جعجع، غريم جبران باسيل والمنافس الشرس له، للفوز بمركز قيادة الشارع المسيحي، خاصة بعد غضب الشارع اللبناني على “العهد القوي” وتحديدا بعد أنفجار مرفأ بيروت، فضلا عن السياسات الكارثية للنظام، والتي اكتوت بنارها شرائح المجتمع في لبنان، مسّت كل الحاجيات الأساسية للعيش الكريم كما هو معروف.
فالمعروف أن الحريري، الذي يقود “تيار المستقبل”، هو ،في المجلس النيابي الحالي، صاحب أكبر وزن تمثيلي للطائفة السنية، و لطالما استثمر الحريري عصب الشارع السني على ملطومية “الشهيد رفيق الحريري” الذي ضحى بحياته وقُتل غيلةً، مع أنه اعاد إنبعاث الفينيق اللبناني من ركام الحرب الأهلية، ومن هنا جاءت تعابير الرئيس سعد في قراره المعلن بأنه يفتدي لبنان بنفسه لمنع عودة الحرب الأهلية سيئة الصيت.
ولكن ما حقيقة هذا القرار؟؟
لاحظ الجميع أن قرار الحريري تزامن مع مجيء وزير الخارجية الكويتي الذي قدم ورقة باسم الدول الخليجية والجامعة العربية ، التي ترأسها الكويت في الدورة الحالية، بل والمجتمع الدولي، اشتملت على 12 شرطا، أهمها لجم أنشطة حزب الله خارج لبنان وبسط سلطة الدولة في الداخل(بمعنى شطب أي “دويلة على حساب الدولة”)، وهذا مطلب تعجيزي للحكومة اللبنانية لا طاقة لها به، كما سبق أن صرح الرئيس عون في خضم أزمة تصريحات وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي. وجواب الحكومة “الدبلوماسي” بقبول المطالب “شكلا” مع الاعتذار عن عدم القدرة على تنفيذها عمليا سيدفع بمجلس وزراء الخارجية العرب الذي سينعقد يوم السبت القادم في الكويت إلى إعلان خروج لبنان عن الشرعية العربية تيجة سيطرة “دويلة حزب الله” على قراره، وهذا سيفتح الباب لتبرير المطالبة بتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ المنطقة من الشرور التي تطالها من فلتان الوضع في لبنان، ليس اقلها تصدير المخدرات الشهيرة (الكبتاغون) إلى دول الخليج، فضلا عن التورط المستمر لحزب الله في دعم الحوثيين في اليمن، والذين لم يترددوا في شن هجمات طالت عمق الامارات العربية المتحدة، مع التهديد بالمزيد، وسط تعاظم شهية نظام إيران للسيطرة على عاصمة عربية خامسة وسادسة، في ظل تفاهم فيينا القادم، وعودة الغزل بين طهران وواشنطن.
من اللافت أن الحريري كان صرح بعد عودته في دردشة مع الصحافيين بقوله: “بعض المرات يجب أن يخطو الشخص خطوة الى الوراء ليعود ويتقدم الى الامام” …من المعروف أن الحريري، بعد 17 سنة من الممارسة السياسية، تمكن من بناء شبكة من الخيوط مع العواصم الإقليمية، والدولية سواء في باريس أو واشنطن…
على هذه الخلفية جاء قرار الحريري الأخير، والذي يعد نعياً لجمهورية الطائف و تحضير لولادة الجمهورية الثالثة،بوصاية أمريكية دولية، ثم يعود بطلا منقذا في الجمهورية القادمة.
لعل تصريح الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية ألفرد رياشي الذي علق على اعلان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عن انسحابه من الحياة السياسية، بقوله “إننا نحيي خطوة الحريري حيث ان هذا النظام ينهار وبقي حارس واحد لهذا النظام المركزي واتفاق الطائف هو رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي اصبح الوقت ليس ببعيد لانهاء مسيرته السياسية… وبالتالي نكون قد انهينا فصل من فصول تاريخ لبنان المتمثل باتفاق الطائف تمهيدا للولوج للبنان الجديد ودولة لبنان الفدرالي”. هو أكثر المواقف تعبيرا عن تداعيات قرار سعد الحريري، الذي يمهد لولادة الجمهورية الثالثة.
كل من لديه أدنى إلمام بواقع السياسة اللبنانية يدرك جيدا أن كل قرار مصيري يتم “طبخه” عبر مشاورات تجرى مع أصحاب النفوذ الحقيقي في لبنان، وبالدرجة الأولى واشنطن، أما باقي الأطراف فهي “كومبارس” لا تملك إلا السير وفق ما تريده أمريكا.
وقد صرح وليد فارس ، كما نقلت قناة MTV في نشرتها 26-1-2022، أن هناك مشروع قرار في الكونغرس المريكي يدعو لإنشاء “منطقة آمنة safe zone” بتعبيره، تمتد من بيروت إلى الحدود الشمالية مع سوريا، لا تكون لحزب الله سلطة عليها، مما يؤمّن جوّا من الاستقرار “يطمئن” المجتمع الدولي ويفتح الباب للاستثمار، كما ذكر فارس.
ولا بأس من التنويه هنا إلى أن وزير خارجية الفاتيكان الكاردينال بياترو غالاغر سيزور لبنان في الثالث من شباط المقبل في “زيارة تحمل رسالة واضحة من قداسة البابا فرنسيس بالوقوف إلى جانب لبنان والاستعداد لمساندته للحفاظ على هذا النموذج في الشرق” ، وتأتي هذه الزيارة استكمالا لجهود الفاتيكان الذي سبق أن رعى، أول تموز الماضي، يوما خاصا للصلاة من أجل لبنان . كما لا يخفى تكرار البطرك اللبناني يطرس الراعي الدعوة لمؤتمر دولي للعلان عن الحياد الايجابي للبنان، بحيث ينأى عن التدخل في صراعات المنطقة، وهذه الدعوة يرى فيها حزب الله استهدافا له ولمشروعه في “مقاومة ” اسرائيل…مع أن حزب الله، منذ القرار 1701 هو الحارس الفعلي لحدود اسرائيل الشمالية.و تحت شعار المقاومة استباح حزب الله لنفسه التمدد خارجيا في سوريا واليمن والعراق، وبغطاء أمريكي تام.
أما الآن فالتوجه الأمريكي، بحسب مشروع القانون في الكونغرس يدفع لتقسيم لبنان إلى منطقتي نفوذ: الأولى برعاية الفاتيكان تكون الكلمة الأولى فيها للقوى المسيحية، أيا كانت من جبران باسيل الى جعجع وما بينهما، والثانية برعاية إيران تكون الكلمة الأولى فيها للثنائي الشيعي.

أهلا بكم في الجمهورية اللبنانية (الأمريكية) الثالثة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هوامش المقالة
    1- انظر “الرئيس رفيق الحريري شرعن المقاومة فأثمرت انتصار 25 أيار” 2000، موقع النشرة، 18 شباط 2015،
    https://www.elnashra.com/news/show/842430/الرئيس-رفيق-الحريري-شرعن-المقاومة-فأثمرت-انتصار-أي
    2- انظر مقالتي أمريكا رأس الأفعى- حالة لبنان أمريكا تقتل القتيل وتمشي في جنازته !
    https://resalapost.com/2021/11/01/أمريكا-رأس-الأفعى-حالة-لبنان-أمريكا-تق/
    3- انظر موقع قناة إم تي في اللبنانية، “منطقة آمنة من بيروت الى عكار.. مشروع قرار أمام الكونغرس الاميركي”،
    https://www.mtv.com.lb/News/مــحــلــيــات/1251519/منطقة-آمنة-من-بيروت-الى-عكار—مشروع-قرار-أمام-الكونغرس-الاميركي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى