بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 26

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق (8)

إيران تجني مكاسبها فور توقيع اتفاقية 1975

كما قلنا اضطر العراق تحت ضغط الظروف، لتوقيع معاهدة الجزائر لعام 1975م بعد أن وُضع بين خيارين لا ثالث لهما، إما انفصال المنطقة الكردية من جسم الدولة العراقية، نتيجة رمي إيران بكل ثقلها في دعم الحركة الكردية المسلحة ودخول الولايات المتحدة على خط دعم القضية الكردية، بحثا عن منفذ للتسلل إلى أي ملف يُعطيها موطئ قدم في الشرق الأوسط.
وفرضت الاتفاقية على العراق أن يتخلى عن جزء من الخط الملاحي في شط العرب، وكان على إيران تُعيد للعراق أراضٍ في قاطع محافظة واسط، وهي منطقة ميمك (سيف سعد)، ومنطقة “زين القوس” في محافظة ديالى، التي كانت قد استولت عليها في أوقات سابقة، مع أنني أميل إلى فكرة تقديم التنازلات السياسية للداخل أكثر من ميلي لتقديمها للخارج، فما يُمنح للداخل لن يذهب إلى عدو تاريخي يتربص بالعراق الفرص للنيل منه، لا سيما مثل إيران التي تحمل تاريخاً متصلاً من الغدر، ونسف المعاهدات والاتفاقيات الدولية الموقعة مع العراق ونكث العهود معه، بسبب ما تختزنه من عُقدٍ تاريخية جغرافية، تُلبسها أحيانا بُعدا دينيا طائفيا، واحيانا تلبسها رداءً من المدنية والتطور، ثم إن أي تراجع عن اتفاقية دولية موثقة لدى المنظمات الدولية القائمة، سيترتب عليه موقف مضاد من قبل العالم.
صحيح أن كثيرا مما لحق بالعراق بل ومعظمه من مآسٍ منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، كان بتأثير الحركة الكردية المسلحة وتداعياتها على أمنه القومي، وعلى الرغم من أن الحركة الكردية اختارت الطريق الخطأ الذي يصل حد الاستقواء ببلدان معادية للعراق، وكأنها اقتبست من إيران مبدأ (خذ وطالب)، إلا أن الصحيح أن الوطن هو البيت الكبير للمواطن، والسلطة الحاكمة بمثابة أب وأم، وما يُمنح للداخل، مثل تحفة ثمينة تُنقل من غرفة إلى أخرى.
على العموم شارك خبراء جزائريون في عمل اللجان المشتركة بين العراق وإيران، في كل مراحل تنفيذ الاتفاقية وبروتوكولاتها، وكما هو ديدن إيران في كل الاتفاقيات والمعاهدات السابقة، فقد كانت تتراجع عن تعهداتها والالتزامات التي تفرضها عليها اتفاقياتها مع العراق، ولم يكن شأن اتفاقية 1975م أفضل من غيرها، فلم تُعِدْ إيران للعراق، الأراضي التي كان عليها إعادتها إليه من دون تأخير، مع أن العراق نفذ كل تعهداته المنصوص عليها في الاتفاقية، بحسنِ نيةٍ وبشهادة الخبراء الجزائريين، وربما هذا من أخطاء العراق الكبرى، أن يمنح ثقته لإيران في أي حوار أو مفاوضات، على الرغم من أن العراق وحده هو من يجب أن يكون أكثر دولة وحكومة وشعب في الأرض حذرا من إيران، بحكم اللوعة التاريخية والمعاناة المتصلة من هذا الجار التوسعي العدواني الطامع بأرض العراق، كان على العراق أن يمارس أقصى ما لديه من قدرة على المناورة مع إيران.
فشاه إيران عندما وقّع اتفاقية الجزائر، كان يضمر انتزاع اعتراف العراق له بنصفِ شط العرب، من دون أن يُرتب على إيران أي التزام جدي مع العراق، ودون أن يُعيد إليه شيئا من الأراضي العراقية، التي احتلتها إيران في أوقات مختلفة، كجزء من الضغط على الحكومة العراقية للتنازل عن نصف شط العرب، فقد حقق الشاه هدفَ بلاده في الحصول على خط التالوك، وماطل في تنفيذ التزاماته المنصوص عليها في الاتفاقية، انتظارا لفرصة سانحة، يساوم العراق على ما بقي لديه من أراضٍ عراقية، مع توظيف ملف أي داخلي عراقي قابل للتوظيف وبجهد خارجي، لانتزاع تنازلات أخرى في منطقة مؤشرة لدى الحكومات الإيرانية، التي تتعاقب وتُسقط إحداها الأخرى ولكنها تبقى متمسكة ببرامجها التوسعية على حساب العراق.
على الرغم من ترحيب الدول المنتجة للنفط الأعضاء في الأوبك، باتفاقية الجزائر من أجل الإبقاء على سياسة التنسيق في عمليات الإنتاج والتسعير، ومن أجل ضمان عدم الخروج على قرارات الأوبك، وعلى الرغم من أنها رأت فيها تعزيزا لوحدتها التي كانت تتعرض لتهديد خارجي من الدول الكبرى المستهلكة للنفط، والتي أنشأت منظمة مضادة للأوبك هي “الوكالة الدولية للطاقة”، على الرغم من كل ذلك، ألا أننا نستطيع أن نلمس بوضوح أن القيادة العراقية، عندما أقدمت على توقيع الاتفاقية، فإنها كانت تستشعر مدى الحيف الذي لحق بالعراق من توقيعها، لأنها أعطت نصف شط العرب لإيران من دون وجه حق معزز بالتاريخ أو الجغرافية، ولكن الاتفاقية وكما جاء في خطاب الرئيس صدام حسين أمام المجلس الوطني في 17/9/1980م، تعكس مدى ما رافق التوقيع عليها من شعور بالغبن، إذ يقول (لقد كان العراق في مخاطر جدية كانت تهدد وحدته وأمنه ومستقبله، واتاحت الفرصة لشعبنا المضي في ثورته والمضي في عملية البناء والنهوض، والوصول إلى مستوى عالٍ من القوة والتقدم والرفاهية، يحفظ شرف العراقيين وسيادتهم، ويضع العراق القوي المقتدر على طريق خدمة الأمة العربية ورسالتها العظيمة، لم يكن القرار استسلاما لواقع مرير، رغم أن الواقع كان مريرا وخطيرا، وإنما كان اعتلاءً لصهوة الواقع بفعل قيادي مقتدر، مع حسابات الظروف والامكانات، لقد كانت اتفاقية آذار بنت ظروفها وقد فهمها شعبنا واعتبرها في إطار تلك الظروف، انتصارا عظيما واستقبلها بفرح عظيم، لأنه ادرك مغزاها بالنسبة لوحدة الوطن ومستقبله وقدّر ظروفها الموضوعية).
ومع ذلك فإن الاتفاقية المذكورة تبقى محطة إخفاق لمركز صنع القرار والمفاوض العراقي بشكل خاص، الذي يتميز باستعجال النتائج، وكأن طائرة سفره توشك أن تُقلع وتتركه في مطار بعيد وغريب.
لم يمتلك المفاوض العراقي “في كل مرة يدخل العراق مفاوضات مع إيران وعلى أي مستوى”، القدرة على المناورة والصبر الاستراتيجي، وحتى لو كان هناك قرار سياسي من أعلى المستويات، يُوجه بالتعجل بالتوصل إلى حلول، فإن واجب المفاوض ذي الاختصاص الفني، يُحتم عليه تقديم المقترحات البناءة التي تمنع التفريط بالحقوق الوطنية، بصرف النظر عن اسم وطبيعة الطرف الآخر.
هكذا حققت إيران مكسبا فوريا بمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، فقد أصبحت شريكا بكل ما تعنيه هذه الكلمة في السيادة على الجزء الأكبر من مجرى شط العرب، ابتداء من نقطة الحدود المشتركة وحتى مصبه في الخليج العربي، وتم بموجب بنود الاتفاقية، تشكيل لجنة مشتركة من الطرفين لتثبيت الحدود البرية، وبناء الدعامات القديمة استنادا إلى بروتوكول عام 1913م، وعددها 126 دعامة، تضاف إليها الدعامات الجديدة بموجب اتفاقية 1975م، وعددها 593 دعامة، على طول الحدود المشتركة بين البلدين، كما تم تشكيل لجنة مشتركة لإدارة شؤون الملاحة في شط العرب، تطبيقا لحقوق إيران بالاتفاقية والبرتوكولات الثلاثة الملحقة بها، أما الحدود البرية فقد تعرقلت إجراءات تسليم إيران للعراق أراضيه، التي كانت قد زحفت عليها في ظروف سابقة، نتيجة لاندلاع أعمال العنف التي ضربت المدن الإيرانية وأدت إلى سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي في 11شباط/ فبراير 1979م.
لم تكن نظرية الثالوج (التالوك) قدرا مفروضا على الدول المتشاطئة على الأنهار الحدودية الملاحية، فهناك كثير من القواعد المتعارف عليها في القانون الدولي، التي لا تتعامل بنفس النظرة، (حيث أن هناك عشرات من المعاهدات تشير إلى أن الحدود تمر من إحدى ضفتي النهر الفاصل بين الدول، وتعود ملكية النهر إلى إحدى الدولتين المتعاقدتين، فنهر الدانوب الحدودي بين فرنسا وسويسرا يفصل بينهما، وتمر الحدود في الضفة اليسرى من النهر وتعود ملكية النهر لفرنسا)، ولا يعني خط التالوك خط منتصف النهر في الأنهار الملاحية، وإنما يعني حصرا المجرى العميق الذي يصلح للملاحة بصفة مستمرة، وعلى هذا فإن خط التالوك لا يقسم النهر إلى نصفين متساويين، وإنما يسير خط الحدود بموجبه مع خط أعمق مجرى للنهر الملاحي الحدودي.
تعمدت إيران في تأخير تسليم الأراضي التي كان عليها إعادتها للعراق، بموجب البروتوكول الثالث من الاتفاقية، ولو أنها كانت نزيهة حقا في التزاماتها في ما تتفق عليه ولو أنها دولة تحترم القانون الدولي، لكان عليها القيام بذلك طيلة أكثر من سنتين، وهي الفترة الممتدة من منتصف سنة 1975م أي السنة التي وقعت الاتفاقية فيها، وأواخر عام 1978م، والتي شهدت اندلاع الاضطرابات في الشارع الإيراني، والتي أطاحت في نهاية المطاف بالشاه ونظام حكمه، ولتبدأ مرحلة خطيرة من التطورات المتسارعة، لم تنته بحرب الثماني سنين، وما تزال حتى اليوم تترك ظلالها القاتمة على وضع الحدود المشتركة، وما يمكن أن تؤول إليه، في حال توفر الاستعداد الحقيقي للحكومة الإيرانية في التوصل إلى حل يرضي الطرفين، وخاصة أن إيران لم تعلن موقفها الصريح من مضمون الاتفاقية التي تريد اعتمادها في علاقاتها مع العراق، إضافة إلى أن من يحكم العراق اليوم، هم حكام لهم ارتباطات متينة مع الزعامات الإيرانية، وسبق لكثير منهم أن قاتلوا في صفوف الحرس الثوري، ضد القوات العراقية في القادسية الثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى