مقالات

مقوّمات التحليل السياسي

فهد السالم صقر

محلل سياسي وباحث في العلاقات الدولية
عرض مقالات الكاتب

لا شك أن وسائل التواصل الإجتماعي ساهمت إلى حد كبير في نشر الأفكار والأخبار ( والوعي) بطريقة غير مسبوقة و لم تكن معهودة في عصر ما قبل الإنترنت أو ما يسمى بالسوشال ميديا. هناك مقولة مأثورة للإعلامي السوري الشهير فيصل القاسم ” أُكتُب وأنشُر والملايين ستقرأ ” فكل فكرة جديدة تُنشر على تويتر أو الفيسبوك أو أي وسيلة تواصل أخرى من أي ناشط مغمور أو شخص عادي ستصل إلى الملايين وتنتشر بطريقة التواليات الهندسية ، عاجلاً أم آجلاً وستصل الى كل الناس. 

إلا أنّ هذا الأمر لم يأتِ دون مساوئ و منها على سبيل المثال ، أن التحليل السياسي أصبح وظيفة من لا وظيفة له، وانتشرت ظاهرة سلبية في المجتمع سواءً على الجروبات في الوتساب أو على الفيسبوك حيث أصبح الكل “يفتي” ويدلو بدلوه في أمور مهمة، ويحلل سياسيا وإقتصاديا وكأنهم خبراء، إما بعلم و اجتهاد شخصي ، أو نقلاً عن ما سمعوه من أشخاص آخرين بطريقة القص واللزق ( (copy-paste دون الإشارة إلى أصحاب هذه الأفكار أو ذكر المصدر. والأدهى من ذلك وأمّر ،  هو بروز ظاهرة الفيديوهات والبث المباشر لبعض الأشخاص المغمورين يُعّرفون أنفسهم كمعارضين للنظام يهرفون بما لايعرفون، وبضاعتهم السبّ والقدح والذم والحديث بسفاسف الأمور قي ظاهرة البث المباشر. 

بداية لا بدّ من الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية ، وهو أن هناك فرقاً بين رجل سياسة يمارس العمل العام كعضو برلمان أو وزير أو سفير وبين المحلل السياسي من جهة، وبين دارس العلوم السياسية من جهة أخرى. فالعلوم السياسية أكاديمياً علم قائم بذاته وله فروعه، ومعظم جامعات العالم الشهيرة من هارفارد إلى أكسفورد إلى كامبريدج إلى جامعة لندن للإقتصاد وغيرهم لديها أقسام منفصلة لتدريس العلوم السياسية يدخلها خيرة الخيرة من الطلاب الأذكياء والمثقفين من الطبقة الوسطى والغنية في أمريكا وبريطانيا ويتخرجون بعد ذلك ليصبحوا مسؤولين حكوميين وحكاما وقضاة ( في حال أكملوا دراسة القانون) ويتسلمون مناصب قيادية في مجتمعاتهم ويمارسون العمل العام سواءا بالتعيين أو الإنتخاب. 

إن الدراسة الأكاديمية للعلوم السياسية قد تساعد صاحبها بلا شك في التحليل السياسي ولكن ليس هذا صحيحاً بالضرورة . لأن التحليل السياسي مَلَكَة ( موهبة) قد لا يمتلكها دارس العلوم السياسية، فدارس العلوم السياسية لا يدرسها لكي يصبح محللاً سياسياً وإنما يدرسها كعلم أكاديمي وللحصول على وظيفة مستقبلية قد تكون بعيدة كل البعد عن التحليل السياسي.  والأمر نفسه ينطبق على السياسي المُمارس للعمل العام، فقد يٌتقن عمله جيدا ويكون مُبدعاً كسفير أو وزير أو عضو برلمان ممثلا لمنطقته الجغرافية أو قبيلته أو حزبه ولكنه قد يكون فاشلا ًفي التحليل السياسي وجاهلا به تماماً. 

إن النجاح في التحليل السياسي يحتاج أولا لشَغَف وثانيا لإطلاع واسع على التاريخ  ومتابعة يومية للأحداث على مدى سنين طويلة ،  فالمحلل الناجح هو ذاك الذي ، بالإضافه لشغفه في السياسة ودراسته وتجاربه ،  لم يَفتهُ خبر أو حدث على مدى ما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين عاماً، وفي حالة كاتب هذه السطور 40 عاما. والأهم من هذا وذاك هو إمتلاك المحلل السياسي لفكر أو عقيدة يستند عليه كقاعدة صلبه في قياس وتحليل الأمور.  ومع الوقت يطور المحلل قدراته التحليلية ويصبح لدية إرث معرفي وتجارب حقيقية مما يمكنه من قراءة الأحداث بعين ناقدة ، فاحصة ، ناظرة بين السطور ، تقيس الأمور وتقارن و تحلل وتَخلُص إلى إستنتاجات لا تصدق كل ما تقرأ  أو تسمع كأنه من المسلمات. فالخبر أو التصريح قد يكون المقصود منه هو عكسه، أو قد يكون مجرد جس نبض أو تسريب أو ذر رماد في العيون أو …أو…فالمحلل الذكي والمتمرس هو الذي يستطيع أن يميز ما وراء الخبر ولماذا وتوقيته وما هو المقصود منه الخ . وفي نهاية المطاف قد يصيب وقد يخطئ في تحليلاته ، فلا أحد معصوم عن الخطأ، والكمال لله وحده. 

ما يحدث الآن على وسائل التواصل الإجتماعي في الأردن خاصة والوطن العربي عامة أنك تجد طبيبا متقاعدا أو مهندسا ميكانيكيا عاطلا عن العمل أو ضابطا متقاعدا أو سائق جرافة أو ممرضا في مستشفى لديه حسابا على الفيسبوك فيحلل في السياسة يمينا وشمالا ويدلي بدلوه في أمور الحرب والسلم الدوليين ويتحدث كخبيرا في الإقتصاد السياسي الدولي ومعظمهم – إلا من رحم ربي- يهرف بما لا يعرف ويتسلى أو قد يسرق أفكار غيره وينسبها لنفسه. وإن جادلته بالتي هي أحسن ستندم ولن ينالك إلا الندم. 

ماذا تقولون في شخص لم يدرس الطب ولا التمريض و يعمل محاسباً في شركة أو مديراً مالياً ويكتب بوستات ( منشورات) في طرق الوقاية من الكورونا وعلاجها أو يعطي نصائحه لمرضى الضغط والسكري ويتحدث بذلك كأنه خبير في مجاله؟ حتى لو كان هذا الشخص يستمد أفكاره وكلامه من مصادر علمية طبيه ،فأولى به أن ينسبها إلى أصحابها أو أن لا يخوض في أشياء ليست في مجال تخصصه.  الأمر نفسه ينطبق على  أولئك الذين يكتبون في السياسة والاقتصاد وهي ليست ( كارَهُم) ولا تخصصهم، فالتحليل السياسي ليس مهنة من لا مهنة له… ولو كانت السياسة والتحليل السياسي أموراً يتعلمها الإنسان مع الولادة ،وتأتي وحدها تلقائيا لما فتحوا المعاهد والكليات في أرقى الجامعات لتدريسها، ومنحوا فيها درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.  

 هناك مقولة شهيرة للفيلسوف اليوناني الشهر أرسطو حين قال ( Politics is the master science) أي أن علم السياسة هو العلم الرئيسي ويقصد بذلك أن علم السياسة هو العلم الذي يعتمد عليه كل أنواع النشاط الإنساني. 

خلاصة الموضوع ، الحديث في السياسة ليست “شغلة” من لا شغل له فيا حبذا لو أننا نحترم تخصصاتنا ومهننا فلا نتعدى على مهم وتخصصات الغير. ولكن عزائي الوحيد أن الغالبية الساحقة من المتابعين ورواد السوشال ميديا هم من الصامتين ، الذين يقرأون ويتابعون بصمت ، إما طلبا للسلامة أو من باب “رحم الله إمرؤ عرف قدر نفسه فوقف عنده “، و الحمدلله على ذلك. ,غلا لتحول الأمر إلى فوضى فكرية لا أول لها ولا آخر. 

 وأخيرا وليس آخرا، لقد درست أنا العبد الفقير لله العلوم السياسية لمدة أربع سنوات في الجامعة في كندا وعندما تخرّجت ، والله وتالله وبالله  لم تزدني دراستي إلا جهلاً.  وأقصد بذلك، أنّ دراسة  أربع سنوات في  العلوم السياسية وإنهاء متطلبات التخرج  والحصول على الشهادة أشعرتني كم  كنت جاهلاً في علم السياسة وكيف أن العلوم السياسية هي بحر وأن كل ما فعلته 4 سنوات في الجامعة هو أنني بللت قدمي فيه. أتقوا الله يا فرسان السوشال ميديا وأرحمونا من تحليلاتكم العشوائية. وأذكروا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه معاذ بن جبل …..   قال : ( رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد ) . ثم قال : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ ) فقلت : بلى يا رسول الله . فأخذ بلسانه وقال : ( كفّ عليك هذا ) . قلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال :  ثكلتك أمّك ، وهل يَكبّ الناس في النار على وجوههم – أو قال : على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم  . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. حقيقة مؤلمة
    أصبح الجميع فعلا محلليين وأصحاب رؤية ومفكرين . ومقتنعين انهم أصحاب فكر.

    شكرا اخ فهد وبوركت جهودكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى