مقالات

صراع الحضارات أم حوار الحضارات الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وجها لوجه

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

في كتابه تثبيت دلائل النبوة (1/ 190)، ذكر القاضي عبد الجبار الهمذاني (450 هـ) فرية الروم على رسول الله فقال:” هم اصل النصرانية ولكنهم لم يجدوا في رسول صلّى الله عليه وسلم مغمزا فعابوه بحمل السيف واتخاذ الأزواج، وهم يعيبون هذا منه صلى الله عليه وسلم ويدّعون انّ الله قد اتخذ مريم امّا لولده، واتخذ الولد لنفسه ،وإن لم يسموا مريم زوجة”.

وهذا هو ديدن الروم في الأمس و الغرب اليوم: لا يمتلك الغرب أي حجة أو برهان على ضلالات حضارته المنحطة فيلجأ إلى سلاح القمع والبطش والخداع والكذب ، وذلك بشقين:الأول العسكري حين اجتاحت دول الاستعمار القارات لتستعبد الشعوب المغلوبة ولنهب ثرواتها بعد سفك دمائها، والشق الثاني: ستار رقيق من البروباغاندا لا يخفى على من كان عنده مسكة من عقل، بزعم “تمدين الشعوب الهمجية” ونقلها إلى عالم الحضارة الغربية، وتستخدم هذه البروباغاندا الشعارات البراقة سواء “عبء الرجل الأبيض” بالأمس أو نشر الديمقراطية وحماية الحريات و حقوق الإنسان اليوم..

فإذا جاء من يكشف دجل هذا الخداع الإعلامي والتضليل الفكري والتسميم الثقافي، وقام النذير من بني قومه ليفضح هذا الدجل جوبه بكل الحملات الهادفة إلى خنق صوته، ومنع الشعوب الغربية من سماع صوت الحق..

الدكتور مراد هوفمان، رحمه الله، الألماني المولد والنشأة، ليس  الغربي الوحيد الذي إعتنق الإسلام عن قناعة فكرية تامة بل هو من ضمن قافلة مديدة من الرجال والنساء الذين شرح الله صدورهم للإسلام فدخلوا فيه عن طواعية، بعد أن رفضوا كل ضلالات سدنة الحضارة الغربية، و نبذوا وراء ظهورهم كل الحملات التي رعتها الأنظمة الغربية عبر قرون لتطعن بالإسلام بكل ما أوتيت من دهاء ومكر تزول له الجبال. فجهود المستشرقين المتعاقبة عبر القرون والهادفة الى التشكيك بأركان الإسلام والطعن في عقيدته حينا، وفي رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أحيانا وهو الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، ولم يرسله لقومه من العرب أو خاصة لقريش، وهذا ما اقتضى الوعد الرباني بحفظ الوحي الرباني الأخير للبشرية والى يوم الدين (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)….

هذا الدين العظيم الذي قام على قاعدة (لا إكراه في الدين) فلم يفرض قط على أي إنسان أو شعب على الدخول فيه بالجبر والإكراه، كما فعل سدنة الحضارة الغربية المتوحشة الذين تنافسوا في حملاتهم الاستعمارية المسعورة في التفنن في أعمال القتل والتدمير في الشعوب المغلوبة بما تمكنت أيديهم من صناعة وسائل الفتك والتنكيل، والتي لم يكفوا عن تطوير المزيد منها والمزيد حتى أصبحت الأرض تنام وتصحو خوفا من الإنفجار الكوني الذي سموه Mutual Assured Destruction   MAD  المختصرة بكلمة ( MAD  ماد) والتي تعني الجنون…نعم هذا هو الجنون بل الشقاء الذي تعيشه البشرية اليوم، و هي تتابع أخبار أزمة الصواريخ الكوبية بالأمس، أو أخبار أوكرانيا اليوم والتوترات التي تنذر بإشعال فتيل صدام كوني لا يبقي ولا يذر وكذلك غدا في بحر الصين الجنوبي أو في غيرها من ساحات الصراع التي تتداعى عليها ضباع الاستعمار العالمي المزودة بآخر ما تفتق عنه العقل الإجرامي من صواريخ فرط صوتية ، إلى الهجمات السيبرانية إلى حرب النجوم والكواكب، كل هذا في سباق مسعور تقوم فيه حفنة من الآلهة الزائفة من سدنة الحضارة الغربية المفلسة باستعباد الشعوب الغربية، وتجهد لاستعباد البشرية كافة.

ولكن تقف في طريقها الشرير عقبة كأداء تحول دون استكمال فتنتها و خططها الخبيثة،  فهذا الإسلام العظيم، العظيم بالحق الذي يحمله، يبقى عصيا على كل مكرها، وتبقى شعلة الحق مضيئة تنير درب البشرية للخروج من ظلمات الحضارة البهيمية .

فالحضارة الغربية المفلسة في عالم القيم، و المنحطة التي مسخت الإنسان وحولته إلى كائن مشوه، تملك من الإمكانات المادية ما يمكنها من تدمير الأرض بما عليها، ولكنها لا تملك من قوة الحق والبرهان ما تستند إليه لإقناع البشرية بما تحمله من افكار و مٌثل وقيم…ورغم أن الإسلام مُغيّب في الحياة اليوم فليس هناك دولة تطبقه ولا نظام يحميه ولا كيان سياسي يقوم على نشر رسالته للعالمين، فالصراع غير متكافيء، بل لا يرد في البال: فحين تحشد الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح الأشد فتكا في الأرض وفي الجو بل وفي الفضاء، فمن هو الجيش في الضفة المقابلة لخوض الصراع؟؟ لا أحد…لا يوجد جيش ولا نظام ولا دولة قادرة على مواجهة الحلف الغربي، ولا يوجد كيان سياسي للمسلمين “يفكر” في ذلك!! وما الأنظمة التي سلطها الاستعمار الغربي على رقاب المسلمين إلا نواطير تحرس حظيرة سايكس بيكو و تبطش بكل من يعمل للتحرر من الهيمنة الغربية.

ولكن التاريخ القرآني يعلمنا أن موسى عليه السلام نشأ في كنف فرعون المتفرعن الذي زعم لنفسه الربوبية العليا (أنا ربكم الأعلى)، والذي يسير على خطاه  سدنة الحضارة الغربية اليوم من زعماء سياسيين ومن مفكرين(يزعمون أنهم مفكرون)…

فالدكتور هوفمان رحمه الله بعد أن شرح الله صدره للإسلام، لم يطق أن يبقى إيمانه حبيس صدره مكتفيا بالتقرب إلى الله سبحانه بالطاعات الفردية، بل أدرك أن عليه واجب الصدع بالحق في وسط قومه وبني جلدته علّه ينجح في إشعال شمعة، على قدر استطاعته الفردية، وسط الظلام الدامس الذي يلف المجتمع الغربي، والذي يجتهد سدنة الحضارة الغربية على إحكام طوق التضليل و الخداع والكذب تحت عناوين شتى من قبيل: صراع الحضارات، و ضرورة مواجهة الإرهاب الأصولي، مع أن الدول الغربية بلغت شأوا لا يضاهى في تاريخ البشرية في سياسات البطش والتنكيل، وتكفي الحرب الدولية الأولى والثانية شواهد سريعة على ذلك…

فقادة الغرب يدركون جيدا هشاشة الفكر الغربي وأنه لا يقوم على حجة ولا برهان، ولو كان الأمر خلاف ذلك لما ترددوا في تطبيق ديمقراطيتهم المزعومة في حظيرة مستعمراتهم سواء في مصر أو تونس أو الجزائر أو سوريا…ولكن دعمهم لحثالة الطغاة الانقلابيين كشف دجلهم و كذبهم. كما كشف أن حظيرة سايكس بيكو التي فرضوها بالحديد والنار على المسلمين فشلت، بعد قرن من تطبيقها مدعمة بكل أساليب المكر الغربي العسكري والثقافي والسياسي والاقتصادي، فشلت في أن تستقر في قلوب المسلمين، ولولا دعم الاستعمار الغربي للكيانات الكرتونية التي صنعها لتهاوت بين عشية وضحاها.

فقد حرص قادة الغرب، منذ الحروب الصليبية، كل الحرص على بناء جدران من الكراهية في نفوس الأوروبيين ضد الإسلام والمسلمين، فحاجز الكراهية الذي عملوا على ترسيخه عبر الأجيال الناشئة في الغرب كفيل ب”شيطنة” الإسلام ، ومتى وجدت الكراهية في النفس الإنسانية ضد العدو الموصوف فمن الصعوبة بمكان الإستماع إليه بإنصاف.

ولهذا وصل الأمر بمارغريت تاتشر رئيسة الحكومة البريطانية أن أعلنت شعارها المعروف: “لا يوجد بديل عن الحضارة الرأسمالي”   There Is No Alternative TINA؛ و هذا ما أكده الكاتب الأمريكي ألان بلووم في كتابه The Closing  of The American Mind إذ قال:” إن أنجح الدكتاتوريات ليست تلك التي تقود الناس بالقهر والتسلط، بل هي التي تعمل لمنع الناس من إدراك وجود خيار بديل لنظامها”….

فحين يقوم الدكتور مراد هوفمان، رحمه الله، وأمثاله ممن شرح الله صدورهم للإسلام كمحمد أسد رحمه الله، و أحمد فون دنفر و غيرهم من الرجال والنساء، بقرع جرس الإنذار للقوم الغربيين، وهو في ذلك يمثل الناصح الأمين الذي يريد لقومه، بل للبشرية كلها، من الخير ما يريده لنفسه، و سبيل ذلك الحجة والبرهان وليس البطش والقمع ولا التضليل الاعلامي، بل يطرح الإسلام سبيلا لخلاص البشرية من بؤس الحضارة المادية المفلسة، فهذا التحدي الحضاري يقض مضاجع فراعنة العصر من الساسة الغربيين فيفزعون إلى كل حيلة للحيلولة دون سماع صوت الحق، ويغرقون قومهم بأكاذيب الإرهاب وما شاكل من ضلالات، وآخر ذلك من قبيل المثال ما صرح به (11-1-2022) قبل 10 أيام، قائد الشرطة الإسبانية السابق هوزيه فيلاريهو أمام المحكمة الوطنية الإسبانية بأن المخابرات الإسبانية دبرت الهجوم الذي وقع في برشلونة في 17 آب 2017 ونتج عنه مقتل 17 شخصا، وأن رئيس المخابرات الإسبانية أراد من الهجوم “إرسال رسالة تخويف” إلى الكتالونيين عشية إجراء الاستفتاء على الإنفصال عن إسبانيا الذي كان مقررا في الأول من تشرين الأول 2017، ولكنه “أخطأ الحساب”(أي في عدد الضحايا).

فهذه  العمليات و أشباهها تغذّيها المخابرات الغربية لتكرّس في نفوس الشعوب الغربية حاجز الكراهية ضد الإسلام والمسلمين لتصرفهم عن سماع صوت الحق.

ولكن يأبى الله سبحانه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ففي عصر القرية العالمية لم يعد من السهل على سدنة الحضارة الغربية إبقاء النوافذ والأبواب محكمة الإغلاق، كما تدل على ذلك أعمال الدكتور مراد هوفمان رحمه الله، ومنها كتابه “الإسلام كبديل” و “الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود”، وفي هذا أبلغ جواب على مقولة فرانسيس فوكوياما التي وردت في كتابه “نهاية التاريخ”  حيث زعم أن مسيرة التاريخ أثبتت بشكل قاطع أن الحضارة الرأسمالية الليبرالية هي النموذج الأمثل للبشرية، وأنه ليس هناك من منافس لها. مع أن فوكوياما نفسه إعترف في مقالة كتبها في الغارديان البريطانية إثر الأزمة المالية المدوّية في 2008 بالخزي والعار، قائلا: “كنا نفتخر على البشرية بتفوق النموذج الليبرالي الغربي حتى أتت الفضائح المخزية لغوانتانامو وأبي غريب لِتُجللَنا بالعار، وكنا نفتخر على البشرية بتفوق النظام الرأسمالي القائم على  اقتصاد السوق الحر حتى جاءت الأزمة المالية 2008 لتنكّس رؤوسنا بعد سقوط هذا النظام والافتضاح المهين”.

ختاما ينبغي تنبيه الغافلين إلى الحقيقة التالية: إن قادة الغرب حريصون كل الحرص على الحفاظ على معبد حضارتهم الفاجرة رغم سقوطها وانهيارها في عالم الفكر والقيم الأخلاقية والإنسانية، وكل ما يحتاجونه هو منع ظهور البديل، ولا بديل سوى الإسلام.

ولكن الإسلام لا يكفي تقديمه عبر صفحات كتاب هنا أو هناك مهما تضمن من حجج باهرة ساطعة، بل النموذج العملي الماثل بتطبيق أحكام الدين يكون خير شاهد على عظمة هذا الدين الرباني وكونه رحمة للعالمين، وليس للمسلمين فقط…لذا فأوجب الواجبات على المسلمين، فرادى وجماعات، أن يصلوا الليل بالنهار  للعمل على وضع أحكام الدين موضع التطبيق العلمي، فيحققوا بذلك معنى الشهادة على أنفسهم أولا وعلى الناس ثانيا، كما جاء في قول الحق سبحانه ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى