بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 24

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق 6

معاهدة 1975

لم تتوقف إيران عند استفزازاتها التي استمرت لعدة سنوات، منذ أن ألغت من طرف واحد معاهدة 1937م، بل ذهبت أبعد من ذلك، إذ شهدت الأعوام اللاحقة تحرشات عسكرية مناطقية على كثير من نقاط الحدود، وتعدتها إلى العدوان المسلح على مناطق حدودية كثيرة، من أجل فرض الأمر الواقع على الحكومة العراقية.
ونتيجة لتصاعد وتائر التدخل الإيراني المباشر في الشؤون الداخلية العراقية، ذهب العراق إلى اعتماد منطق الدول المتمدنة، فقدم مذكرة احتجاج رسمية إلى الأمم المتحدة بتاريخ 12 /2 /1974م، للنظر في الاعتداءات الإيرانية المتكررة على سيادته الوطنية. وعقد مجلس الأمن الدولي جلسة لمناقشة الوضع على جانبي الحدود العراقية الإيرانية، يوم 28 شباط/ فبراير1974م وأقر المجلس توصية، دعا فيها الأمين العام للأمم المتحدة إلى تعيين ممثل شخصي له لزيارة المنطقة، ودراسة أبعاد الأزمة، وتقديم تقرير مفصل حولها للمجلس.
وتم تكليف السفير المكسيكي (ويكمان مونيوز) للقيام بمهمة الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، فزار بغداد في 3 نيسان/ أبريل 1974م وقابل المسؤولين في وزارة الخارجية العراقية، الذين أطلعوه على الوثائق التي تؤكد حقوق العراق التي تسعى إيران للعدوان عليها، ومن ثم إضافتها إلى مكاسبها التي راكمتها في عهود سابقة، وأخذوه في جولة ميدانية في مناطق النزاع البرية والمائية في شط العرب، وبعد زيارة للعراق استغرقت اسبوعا، توجه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى طهران، وبحث مع المسؤولين هناك ظروف المشكلة وتطوراتها الجديدة، وعند قيامه بزيارة للجانب الآخر من المناطق المختلف عليها، أطلعه الجانب الإيراني على خرائط، وجد أنها تختلف كليا عن الخرائط التي أطلعه عليها الجانب العراقي.
وبعد ثلاث زيارات لكل من بغداد وطهران، قدم ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 16/5/1974م، موثقا فيه حوادث الحدود التي وقعت بين البلدين، وأكد قناعاته الشخصية بصحة الخرائط والوثائق التي قدمها الجانب العراقي، وقدم تقريره النهائي وقال فيه إن الجانبين قد اتفقا على:
1 – أن يلتزم كل من الطرفين بقرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار والذي كان قد اتخذه في السابع من آذار/ مارس 1974م .
2 – أن يلتزم كل من الطرفين بسحب قواته العسكرية المتمركزة على طول الحدود بموجب ترتيبات يتفق عليها الطرفان.
3 – أن يلتزم كل من الطرفين بتهيئة الجو المناسب للبدء في المفاوضات وذلك بالامتناع كليا عن القيام بأية أعمال عدوانية.
4 – أن يلتزم كل من الطرفين بالاستئناف المبكر وبدون أية شروط مسبقة لعلاقاتهما، من أجل تحديد مكان ومستوى المفاوضات المباشرة، من أجل تسوية جميع القضايا المتنازع عليها.
وتم عرض التقرير على مجلس الأمن الدولي، الذي أصدر قرارا برقم 348 في 28 /5 /1974م، وتضمن القرار الفقرات الأربع التي وردت في تقرير ممثل الأمين العام، وقبلت الحكومة العراقية بقرار مجلس الأمن آنف الذكر، وبدأت المفاوضات العراقية الإيرانية في مدينة اسطنبول التركية، وفي أعقاب الاجتماعات صدر في 31 /8 /1974م بيان صحفي، جاء فيه أن وفدي العراق وإيران، عقدا سلسة اجتماعات في اسطنبول للفترة من 12 إلى 18آب/ أغسطس 1974م، لتبادل الآراء والتحضير لاجتماعات أخرى بين ممثلي الحكومتين، وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عقد وزيرا خارجية العراق وإيران لقاءً في نيويورك في 16 تشرين الأول 1974م، أعلنا فيه عن استئناف المفاوضات بين البلدين.
ومع ذلك وعلى الرغم من صدور قرار مجلس الأمن، فإن إيران في واقع الحال، واصلت تحديها للعراق والمجتمع الدولي ممثلا بمجلس الأمن كما هو سائد اليوم، وما كان لها أن تفعل ذلك، لو أنها وجدت دعما عربيا ولو من الناحية السياسية للعراق، سواء في تفعيل ميثاق جامعة الدول العربية، أو عملاً بمعاهدة الدفاع العربي المشترك، ولو لم تكن إيران تتوقع أن الولايات المتحدة لن تخذلها في ساعة العسرة وستقف إلى جانبها، على عكس حليف العراق الاستراتيجي الاتحاد السوفيتي، الذي لم يسجل لنفسه مأثرة واحدة بالوقوف إلى جانب أصدقائه، بل كان يورطهم بمواقف صعبة تماما، ويتركهم عند منتصف الطريق، ليواجهوا قدرهم أمام تحديات ظنوا أنه سيؤازرهم فيها ويقف إلى جانبهم، لأنه كان يوظف علاقات الصداقة التي تربطه ببعض البلدان العربية، في معادلة صراعه مع المعسكر الغربي.
وقد حصل هذا للعراق في علاقاته مع الاتحاد السوفيتي في أكثر من حالة، صحيح أن العراق لم تكن له أوهام بالمراهنة على أية قوة خارجية لتحارب نيابة عنه، ولكنه كان يظن أن هناك طرفا دوليا سيقف إلى جانبه في المحافل الدولية، إلا أن الاتحاد السوفيتي كان طيلة علاقاته مع العرب، كان يمد يد الصداقة مع أعدائهم، ظنا منه أن العرب لن يفرطوا بعلاقاتهم معه، لأنهم يحتاجونه في كثير من الصفحات الاقتصادية والعسكرية، هذا حصل في علاقاته مع مصر وإسرائيل، وفي علاقاته مع العراق وإيران، ربما يتحمل العرب هذا القصور في طريقة إدارتهم لسياستهم الخارجية، لأنهم تعاملوا بأخلاق الفرسان في صداقاتهم وعداواتهم، ولم يتحولوا إلى منطق الدولة العصرية التي ترتقي في تعاملاتها الخارجية استنادا إلى منطق المصالح المشتركة، وخطوة صداقة بخطوة صداقة، مع الاطراف الدولية أيا كان الحليف أو الطرف الصديق.
إن طبيعة المعارك العصرية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتطلب تسليحا لا يستطيع تأمين منظوماته المتكاملة في العالم، في مناطق التوترات الثابتة والحروب المحتملة، إلا الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، وربما ستبقى هذه المعادلة سارية المفعول لوقت طويل.
وقد خذل الاتحاد السوفيتي العراق أكثر من مرة، وأوقف عنه، تجهيزات السلاح والعتاد الحربي، عندما كان العراق بأمس الحاجة إليها، لخوض معركته في الدفاع عن سيادته ووحدة أراضيه، من تهديد أطراف تدعمها أمريكا وإسرائيل وإيران، ولهذا مر العراق في ظروف صعبة وخيارات محدودة لم تصادفها دولة أخرى من دول العالم، فإما أن يحافظ على وحدة أراضيه الوطنية، كي يمضي في برامج التنمية للتحرر من الحاجة إلى الآخرين، في مجالات الصناعة بشكل خاص، ومن ثم ليمتلك قراره السياسي السيادي الوطني، وإما أن يتمسك بشيء يعرف أنه لن يستطيع المحافظة عليه، لأنه أصلا بحوزة الطرف الآخر وهو التمسك بحقه في كامل شط العرب، ومع هذه الخسارة المرة فإنه سيدفع ثمنا أكبر، بتفكيك وحدته الوطنية، على وفق ما كان دافيد بن غوريون قد رسمه من مستقبل للعراق، بتفتيته إلى ثلاث دول، كردية في الشمال وسنية في الوسط وشيعية في الجنوب.
وعلى الرغم من أن المشكلة كانت من الخطورة بمكان، وفي منطقة لها أهميتها في الاستراتيجيات الدولية، إلا أن حجم الاستجابة التي تحركت بها الأسرة الدولية لتطويق المشكلة، كان باهتا ولافتا لنظر المراقبين، مما حدا بكثير منهم إلى الاعتقاد، بأن رأس العراق مطلوب في كل الظروف، سواء تراجع عن موقفه أو ثبت عليه، “وما أشبه يوم العراق بعد الاحتلال الأمريكي/الإيراني البغيض، بما عاناه في الماضي القريب”.
لقد تعّرض الاقتصاد العالمي في أوقات سابقة لهزة كبيرة وخطيرة، وخاصة بعد عام من أكبر أزمة في توريدات للنفط الخام إلى أوربا، بعد قرار استخدام النفط العربي كسلاح في المعركة، أثناء حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973م، بوجه الدول التي كانت تساند إسرائيل في حروبها المستمرة ضد العرب، مما أدى إلى رفع أسعار النفط إلى مستويات غير معهودة من قبل، ولو أن المشكلة المستمرة بين العراق وإيران، كانت تحظى باهتمام من جانب الولايات المتحدة، أو لو كان طرفا النزاع يحظيان بمكانة واحدة لدى واشنطن وبقية الدول الكبرى، لكانت قد رمت بثقلها من أجل أن يرشح الأمين العام للأمم المتحدة ممثلا له أكبر مكانة وأكثر خبرة في قضايا المنطقة من السفير المكسيكي، ولكن التحالف الغربي أراد الإبقاء على جذوة النار تحت الرماد، لإيقاده في أي وقت يشاء عن طريق تحريك شاه إيران.
ويمكن التعرف على ذلك من خلال النتائج التي تم التوصل إليها، سواء من بعثة السفير المكسيكي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، أو قرار مجلس الأمن الدولي واجتماعات اسطنبول، ولقاء وزيري خارجية البلدين في نيويورك، فإن كل هذه الفعاليات لم تمنع شاه إيران من مواصلة تحرشات جيشه على طول الحدود البرية، وتحدي سلطاته البحرية لحقوق العراق في شط العرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى