بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 23

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق 5

معاهدة 1975

الظروف الضاغطة لتوقيع الاتفاقية

حددت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية التي تم توقيعها في 23 أيار/مايو 1969، ودخلت حيز التنفيذ في 27 كانون الثاني/ يناير 1980م، شروطاً لا بد من اعتمادها، كي تأخذ المعاهدة أو الاتفاقية شرعيتها كاتفاقية دولية، وتأكيد صحة انعقادها، من أهمها أهلية التعاقد، والرضا، ومشروعية موضوع المعاهدة.
وفيما يتعلق بالأهلية، فإن جميع أشخاص القانون الدولي العام يملكون هذه الأهلية، ويشترط بالدول أن تكون متمتعة بتمام الأهلية، ولا تدخل في نطاق هذه الدول، الدول الواقعة تحت الاحتلال أو الحماية أو الوصاية أو الانتداب.
كما تشترط من أجل صحة انعقاد المعاهدة أن لا تكون مشوبة بأحد عيوب الرضا، وهي ثلاثة:
أ – الغلط: والغلط في قانون المعاهدات الدولية له معنيان:
الأول: الغلط في صياغة نص المعاهدة، وإذا ما ظهر هذا الغلط حتى بعد أن أصبحت المعاهدة سارية المفعول، يتم تصحيح الغلط.
الثاني: وقوع غلط في الرضا بين إرادة المتعاقدين، وهذا ينصرف إلى عنصر أساسي من مكونات المعاهدة، مما يؤدي إلى بطلانها.
ب – التدليس: ويقصد به إقدام أحد طرفي المفاوضات، على تقديم معلومات مضللة بهدف خداع الطرف الأخر موحياً أنها صحيحة، ولو أن من قُدمت له هذه المعلومات عرف بحقيقة الأمر، لكان قد رفض التوقيع على المعاهدة، وفي حالة اكتشاف التدليس، جاز للطرف الذي وقع ضحية له، أن يطالب بإبطال المعاهدة.
ج – الإكراه: والإكراه على نوعين، إما أن يتعرض له ممثلو الدولة من جانب ممثلي الدولة الأخرى، وإما أن يقع الإكراه على الدولة نفسها لتوقيع المعاهدة.
وما يعنينا هنا هو الإكراه الواقع على الدولة، فالعراق تعرض لظروف قاهرة أرغمته على توقيع معاهدة 1975م مع إيران، وغيرها من المعاهدات والاتفاقيات سواء عندما استقل عن الدولة العثمانية، أو قبل ذلك عندما كان جزء منها، من دون أن تنظر الإستانة إلى شؤون العراق إلا كإقليم محتل من بين عشرات الأقاليم الواقعة تحت سيطرتها.
ويلاحظ المراقب المحايد، أن الضغط الذي ظلت إيران تسلطه، على المجتمع العراق، فتفرض عليه حروبا داخلية وتثير له مشاكل وفتناً متعددة الوجوه، مثل الحرب المسلحة في شماله أو الفتن الطائفية في الأوساط التي تتأثر بالخطاب الإيراني، كانت من بين أكثر أدوات الضغط التي اتبعتها إيران، لإيصال العراق إلى النقطة التي كان يذهب مضطرا لاختيار توقيع معاهدة جديدة تجنبا لما هو أسوأ من ذلك، وهنا علينا أن نقر بحقيقة مؤلمة ومرة، وهي أن إيران هي البلد الأكثر قدرة على التلاعب على الوضع العراقي والتأثير السلبي فيه.
في مثل هذه الحالة، يذهب القانون الدولي في اتجاهين، الأول يرى (عدم جواز إرغام أي شعب على قبول معاهدة تفرض عليه أوضاعا وأحكاما لا يقرها، لمجافاة ذلك لمبادئ العدالة والقواعد القانونية، من جهة ولأن ذلك سيؤدي إلى عدم استقرار الوئام بين الشعوب من ناحية أخرى، فالشعوب لا ترضخ أبدا لما يفرض عليها رغم إرادتها، وإذا كانت قد خضعت لوسائل الضغط والإكراه المادي أو المعنوي، فإنها لن تستسلم لمثل هذه الظروف، وستسعى لاسترداد ما أخذ منها متى أتيحت لها الفرصة).
ولذا فإن اتفاقية الجزائر لعام 1975م بين العراق وإيران، تعد باطلة لأن الحكومة الإيرانية جرت العراق إلى حرب استنزاف واسعة النطاق، عبر تمرد مسلح طويل شهدته المنطقة الكردية، والذي كان يحصل على دعم إيراني وأمريكي وإسرائيلي مفتوح.
مع نقص في توريدات العتاد الحربي السوفيتي إلى الدولة العراقية، على الرغم من وجود معاهدة صداقة وتعاون تربط بين العراق والاتحاد السوفيتي، تلزم الأخير بتقديم كل أشكال الدعم، الذي يمنح العراق القدرة على الدفاع عن سيادته الوطنية بوجه الأخطار الخارجية، كما أن أي مجتمع يخطط للدخول في مواجهة للدفاع عن سيادته الوطنية ووحدة أراضيه، يجب أن يمتلك اقتصادا قويا قادرا على تلبية متطلبات هذه الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، ولأن العراق كان في ذلك الوقت ما زال يعيش تداعيات معركته مع الاحتكارات النفطية الدولية، فإن أوضاعه لم تكن تسمح له بفتح معركة إضافية، مع جار مدعوم دوليا، ويمتلك الكثير من أدوات التخريب في الداخل العراقي.
لقد تمكنت إيران، نتيجة الدعم الخارجي متعدد الجوانب، من إيصال العراق إلى استنزاف بشري واقتصادي، لم يكون ميسورا الخروج منه، إلا الذهاب إلى هذه الاتفاقية المجحفة وغير المتكافئة، صحيح أن غالبية فقهاء القانون الدولي التقليديين لا يجوّزون لدولة ما الاحتجاج بالإكراه، للتوصل إلى إبطال معاهدة أبرمتها تحت تأثير الضغط السياسي أو العسكري، إلا أن هذه القاعدة التي ظلت سارية في ظل الحالة البدائية للمجتمع الدولي، لم تعد منسجمة مع الأوضاع الجديدة التي طفت على السطح بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز نظام يستند على معايير وقواعد جديدة، فقد حرم ميثاق الأمم المتحدة، اللجوء إلى استخدام القوة لتحقيق أهداف تتنافى وأغراض الميثاق، على هذا فإن اتفاقية عام 1975 تُعد باطلةً من وجهة نظر القانون الدولي، على ما يرى فقهاء القانون الدولي الذين قدموا رؤى جديدة لعالم تسوده قيم ومبادئ العدالة والسلام.
إن المعاهدات التي لا تلتزم بمبدأ الامتناع عن التهديد باستخدام القوة، أو استخدامها فعلا ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي، لأية دولة أو على وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، أي بعبارة أخرى، إن المعاهدات التي تستند على الإكراه تعد معاهدات غير متكافئة، وهو حال اتفاقية الجزائر لعام 1975م بين العراق وإيران.
وإذا ما سحبنا هذه الظروف التي عانى منها العراق، نتيجة التدخل الإيراني في شؤونه الداخلية، واستقواء إيران بالدعم الأمريكي المفتوح لانتزاع تنازلات عراقية عن حقوقه التاريخية والقانونية في أراضيه، وفرض سياسة الأمر الواقع على إدارة شؤون الملاحة في شط العرب منذ عام 1969، ونتيجة لتصاعد العمليات الحربية في شمال العراق، بعد تحول الحرب هناك من مواجهات محدودة إلى حرب عسكرية شاملة بين جيشين، وخاصة بعد حصول التمرد على أحدث ما تنتجه مصانع السلاح الأمريكية، هذا التمرد الذي تم استخدامه ورقة من الجانب الإيراني، لينتزع التنازلات من العراق، فإن توقيع اتفاقية آذار 1975م هي نتاج لهذه الظروف القاهرة وتعد اتفاقية غير متكافئة، بكل المقاييس القانونية واستنادا إلى ميثاق الأمم المتحدة والصكوك الدولية، واتفاقية فيينا للمعاهدات الدولية.
وكجزء من تنويع مصادر الضغط على العراق، سارعت إيران إلى تنفيذ تجاوزات داخل الحدود البرية، تمثلت بإقامة مخافر إيرانية داخل الأراضي العراقية، ولم تكتف بذلك، بل بدأ الجيش الإيراني جهدا هندسيا كبيرا، لشق الطرق بين المخافر الجديدة وفي عمق كبير داخل الأراضي العراقية، لتسهيل حركة القطعات الإيرانية، وأغدق النظام الإيراني المال على العملاء في كل أنحاء العراق، والأسلحة على الأكراد، ووصل تدخله هذا إلى حالة أدت إلى إثارة القلق والتساؤلات في أوساط الشعب العراقي، عما يجب على حكومته أن تتخذه من ردود فعل على إجراءات الشاه المدعوم أمريكيا بلا حدود، على حين يفتقر العراق إلى قوة خارجية تدعمه على الأقل في مجال التسليح والتجهيز، في هذا الوقت كانت الإشارات الصادرة عن طهران تبعث برسائل إلى الحكومة العراقية تطالبها بتعديل الحدود في شط العرب، خلافا لما جاء في معاهدة عام 1937م والتي جاءت مجحفة أصلا بحقوق العراق، وحينما ألغت إيران المعاهدة من طرف واحد، فإنها فعلت ذلك بعد أن وجدت أن فرصتها قد حانت للتنصل من اتفاقية، وكانت قد أعربت عن رفض بنودها منذ 28 تشرين الثاني 1958م، أي أن إيران ظلت تحبس تململها من تلك المعاهدة أكثر من عشر سنوات، واعتُبر قرار إيران آنف الذكر، باطلا جملة وتفصيلا استنادا إلى مبادئ الرضا في توقيع المعاهدات وعدم وقوع إكراه عليها، حينما وقعتها ولم يكن العراق قادرا حين توقيعها على فرض رأيه على إيران أو التدليس عليها، ولكن هذا الالغاء لن يرتب لإيران على العراق شيئا من الحقوق، وتمسك العراق بحقوقه المنصوص عليها في معاهدة 1937م، على الرغم من خرق إيران لالتزاماتها في موضوع الإدارة المشتركة للملاحة في شط العرب، ومن دون أن يتمكن من منعها من ذلك، ومن أجل ان تفرض إيران الأمر الواقع على العراق، فقد بدأت صفحة جديدة من التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للعراق، فبعد أن كانت قد جندت رجال الدين الشيعة من الأصول الإيرانية، وخاصة مهدي الحكيم في مؤامرة الدركزلي الراوي، انتقلت إلى الملف الكردي من أجل إثارة التمرد الكردي في المنطقة الشمالية من العراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى