بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 22

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق ( 4)

ظروف العراق الصعبة وممهدات معاهدة 1975

عانى العراق من أزمات كثيرة منذ نشوء الدولة الحديثة فيه عام 1921م، ومن بينها، بل لعل من أكثرها تعقيدا، كانت القضية الكردية، التي عانت من تصادم وجهات النظر بين الأكراد من جهة، والسلطات الرسمية في بغداد من جهة أخرى.
وانعكست آثار المعالجات المتسرعة التي طُرحت للقضية التي كانت تزداد تعقيدا مع الوقت، على الآراء والأفكار والحلول المطروحة، حتى اذا كانت بأعلى درجات حسن النية.
وانتقلت اختلافات وجهات النظر من طرفين اثنين فقط، إلى اختلافات مركبة، فمن جهة عانى الأكراد من تباين في وجهات نظرهم فيما بينهم في كيفية الحل، ووصلت الأمور إلى حد الصدام بين توجهين، الأول يمثله الملا مصطفى البرزاني ومعه الشطر الأعظم من الأكراد، ويمثل هذا التوجه الحزب الديمقراطي الكردستاني، وفي الجانب الآخر يقف تيار جلال الطالباني ومعه شطر من الأكراد لا سيما في محافظة السليمانية، ولعل ما حصل في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ما يؤكد صحة هذه القراءة، ذلك أن قوات البيشمركة الموالية للاتحاد الوطني الكردستاني (الجلالي)، تمكنت من السيطرة على مناطق محسومة الولاء السياسي والحزبي والعشائري، للحزب الديمقراطي الكردستاني المنافس، لا سيما مدينة أربيل، وهي مركز منطقة الحكم الذاتي، وهذا ما دفع مسعود البرزاني، للاستنجاد بالرئيس الشهيد صدام حسين رحمه الله، والذي لبى الطلب فأرسل بقوات الحرس الجمهوري لطرد قوات جلال الطالباني منها.
وكما أن حالة من الانقسام فرضت نفسها على الأكراد، فإن العرب عانوا من حالة انقسام سياسي أيضا فيما بينهم، فالأحزاب كانت ترى في وجهات نظرها المعلبة، وغير القابلة لإعادة نظر، نتيجة تعقيدات الظروف السياسية، لم تكن على استعداد للتعاون مع حزب البعث في حل مشاكل العراق المستعصية.
فالحركات السياسية كانت تُغير مواقفها مثل تغير الأنواء الجوية في العراق، أو مثل حركة الكثبان الرملية، وكانت تحتكم في ذلك إلى مواقفها المتغيرة من حزب البعث العربي الاشتراكي، وتأثرها سلبا أو ايجابا تبعا لعلاقاتها مع البعث، من دون أن تضع معيارا وطنيا لتحديد اتجاهات بوصلتها السياسية والمبدئية تجاه هذه القضية بالذات.
وتميّز الحزب الشيوعي العراق، بهذه المواقف المتغيرة، وهو الذي “يُفترض” به أنه الوحيد الذي يحمل تصورا متكاملا لكل مشاكل العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقومية، ولكنه كان أسرع الحركات السياسية بتبديل قناعاته المعلنة، وكان في ذلك يعكس مواقف الدولة السوفيتية، وكأن ذلك كان يتم بأسرع من استبدال الملابس تبعا لمواسمها، فمن موقفه كشريك في الجبهة الوطنية التي تم عقدها عام 1972، إلى تشكيل كتائب مسلحة تتخذ من جبال كردستان كمقار ومعسكرات لمتطوعيه، للقتال بلا قضية، أما موضوع انشقاق الحزب إلى جناحي اللجنة المركزية الموالية لموسكو، والقيادة المركزية التي قيل إنها موالية للنهج الماوي، وخاصة باعتماد الكفاح المسلح لمواجهة حكم البعث، فقد كانت أحجية عقائدية غير قابلة للحل.
كما أن الحركات والأحزاب الشيعية التي بدأت بالحزب الفاطمي والذي اختار لاحقا اسما آخر وهو “حزب الدعوة”، والتي تشكل بقرار من شاه إيران وبإشراف من السافاك، وبتنفيذ من بعض معممي ما يسمى بالحوزة العلمية، فقد كان مثالا صارخا على الارتباط بمشاريع دول معادية للعراق، من أجل تقوية الموقف التفاوضي لإيران وإضعاف الموقف العراقي.
وفي الجانب السني، كانت حركة الاخوان المسلمين، تمثل توجها ساذجا في توجهاتها العامة وفي بياناتها المعلنة، ولا ترعى مصالح العراق، بل كان كل همها أن تناصب البعث العداء، من دون أن تقدم رؤية ناضجة، لحل مشاكل العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في مثل هذه الظروف العراقية المعقدة، تسلم البعث ملفاً شائكاً للقضية الكردية، تراكمت عليه عقد سياسية واجتماعية مع الوقت، ومع كل اجتهاد جديد للحكومات المتعاقبة
ورأى البعث أن هذه القضية بالذات، تحتاج منه جهدا استثنائيا جادا، لإيجاد الحلول الواقعية لها، بما يؤمّن اعترافا بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، من جهة وحفاظا على وحدة العراق من جهة أخرى، غير أن جهود الحزب كانت على الدوام تصطدم بأن الجانب الكردي يفتقد إلى من يمثله تمثيلا حقيقيا وكاملا ومعترفا به من قبل جميع الأطراف الأخرى، فحينما بدأت الحكومة اتصالاتها مع الحزب الديمقراطي (جناح إبراهيم أحمد وجلال الطالباني) بعد الثورة مباشرة، كان الملا مصطفى البرزاني يصدر أوامره للبيشمركة لبدء القتال ضد القوات العراقية، فيما اعتبر البرزاني الطرف الذي اتفق مع الحكومة خونة للشعب الكردي، وأطلق لقب (الجحوش) على المنشقين عن حزبه، وعلى كل من يتعاون مع الحكومة، ولم تكتف حركة الملا مصطفى بإعلان الحركات العسكرية في المنطقة الكردية، بل نقلت عملياتها الارهابية إلى بغداد وعدة مدن عراقية أخرى، إذ حصلت تفجيرات في الساحات العامة وعلى مقربة من مقرات الدوائر الحكومية الحساسة، في رسالة واضحة المعالم للحكومة، بأن تلك الحركة قادرة على نقل المعركة إلى قلب العاصمة، وأنها وحدها التي تحدد مكان الضربة وتوقيتها، إلا أن هذا لم يمنع الحكومة من البحث عن مداخل جديدة، لحلول ناجحة تؤمّن للشعب الكردي حقوقه المشروعة ضمن الدولة العراقية الواحدة وتضمن للعراق استقراره والمضي في خطط التنمية.
ولأن الحكومة حددت برنامجا اقتصاديا طموحا، وواضح المعالم في التعامل مع الملف النفطي، وتفعيل قانون رقم 80 لسنة 1961م، وبعثت الحياة في شركة النفط الوطنية العراقية، التي ظلت كيانا على الورق، ولم تتحول إلى مؤسسة تعمل في الميدان المخصص لها، والذي كان يعد تحديا جديا لسلطة الشركات النفطية، وكذلك توقيع اتفاقية للتعاون بين العراق والاتحاد السوفيتي، لاستثمار حقل الرميلة الشمالي، الذي تنظر إليه تلك الشركات على أنه حق ثابت لها، سلبته منها الحكومة العراقية بموجب قانون رقم 80، ولكن الحكومة لم تحوله إلى تطبيق على الأرض لحوالي عشر سنين، ونظرت الشركات إلى الاتفاقية مع الجانب السوفيتي، على أنها بداية التحرك عمليا لتطبيق القانون المذكور، على أهم حقل نفطي خسرته الشركات، فقد كان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة من المواجهة بين الطرفين.
لقد استثارت هذه السياسة حالة من العداء ضد العراق، دفعت نحوها الدول المالكة لشركات النفط العاملة في العراق، ولعبت تلك الشركات ومن ورائها بريطانيا والدول الغربية الأخرى، دور المحرض لشاه إيران والحركة الكردية، في محاولة منها لتشديد الضغوط على الحكومة العراقية، ومنعها من المضي في برامجها السياسية والاقتصادية، واشتدت المضايقات السياسية والاقتصادية والأمنية على حكومة حزب البعث، ظنا من أعدائه أن تشديد الضغوط المختلفة سيؤدي إلى تشتيت قواه لمواجهة مشكلات مزمنة ومستحدثة على مساحة أوسع، وقد لا يستطيع تحديد الأولويات السليمة لمعالجة أزمات البلد، ومع ذلك فقد واصل العراق نهجه السياسي وبرنامجه الاقتصادي بعزم وإصرار لم تنجح محاولات الحلف المعادي في تعطيل مسيرته أو وقف خطوات البناء الاقتصادي، وخاصة في الاستثمار الوطني المباشر للنفط والكبريت والفوسفات، وبمعونة اقتصادية فنية خارجية لا تؤثر سلبا على استقلال العراق الوطني في هذا المجال.
في هذا الوقت كانت القيادة قد شكلت فرق عمل من قيادات حزبية وإدارية، وبدأت الاتصالات السرية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البرزاني، وبدأت تلك الاتصالات تعطي نتائج ملموسة وإن كانت بطيئة، وتم التوصل إلى توقيع بيان 11 آذار 1970، والذي قيل في حينه إنه سيسهم في وضع حد نهائي لهذه المشكلة التي استنزفت العراق بشريا وماديا وأخرت مسيرته في البناء الاقتصادي والعمراني، وحولته إلى ساحة تدخلات لقوى خارجية لها أجنداتها في حضور عسكري في المنطقة، ولم تفكر يوما بمصلحة الأكراد ولا العرب، عندما كانت تمد يد العون لهذا الطرف أو ذاك.
ومن بين النقاط التي تم التوصل إليها بين طرفي الحوار السياسي، منح المنطقة الكردية، حكما ذاتيا في غضون أربع سنوات من يوم صدور بيان 11 آذار 1970، لكن رفض الحركة الكردية لترتيبات إعلان قانون الحكم الذاتي في موعده المحدد، وسحب الوزراء الأكراد من الحكومة، أعاد القضية إلى المربع الأول من التأزم، بل واشتعلت المنطقة بحركات عسكرية واسعة النطاق، ربما لم تشهدها طيلة تاريخها، ولا يمكن أن نحصر الأسباب في طرف واحد، ولكن إيران التي رأت في منح أكراد العراق حقوقا سياسية ثقافية وإدارية، تهديدا لأمنها الوطني ووحدة أراضيها، رأت أن الطريق الوحيد لإفشال هذا المشروع، هو في ارتداء لباس الحرص على الأكراد، والمزايدة على العراق في هذا المجال، فبدأت بالتدخل بكل ما لديها من خبث ووسائل، لإثارة الاضطراب في شمال العراق، وبالفعل بدأت الأسلحة تتدفق على الحركة الكردية ومن كل المناشئ والعيارات عبر الأراضي الإيرانية، ونجحت إيران في إدخال إسرائيل التي تحمل موروثا من المخاوف التلمودية من دور العراق في القضاء على “دولة إسرائيل” على الخط، كما تدخلت الولايات المتحدة بثقل استثنائي في دعم الحركة الكردية، لمجرد إشغال العراق بحزام أزمات متعددة، وزودت الحركة بأسلحة الدفاع الجوي، بما في ذلك صواريخ هوك.
لم يكن هدف إيران في أي يوم من الأيام الانتصاف لأكراد العراق، ولم تقف إيران في أي وقت لتدافع عن قضية أو دين أو مذهب، وكانت قياداتها بصرف النظر عن اللافتة التي تقف تحتها، تتبنى مشروعا إيرانيا توسعيا، له أهدافه الخاصة في أكثر من محور وساحة، لا سيما في العراق والخليج العربي، وتسعى لسلب الإطلالة البحرية من العراق وبخاصة في شط العرب، فبدأت تبعث برسائل إلى الحكومة العراقية عبر وسطاء من جنسيات مختلفة، بأنها على استعداد لوقف دعمها للحركة الكردية في حال موافقة العراق على توقيع اتفاقية حدود جديدة بين البلدين، ترسم مسارا جديدا للحدود في شط العرب، وبمقابل إعادة بعض المناطق الحدودية التي كانت قد استولت عليها في ظروف سابقة.
وبعد سلسلة من الاتصالات التي أجراها الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين رحمه الله، بين البلدين، ونتيجة عدم ايفاء الاتحاد السوفيتي بالتزاماته في توفير الدعم للعراق، اضطرت القيادة لإبرام اتفاقية الجزائر لعام 1975، وقعها عن الجانب العراقي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في ذلك الوقت السيد صدام حسين رحمه الله، ووقعها عن الجانب الإيراني شاه إيران محمد رضا بهلوي، وتم ذلك خلال انعقاد قمة دول الأوبك في العاصمة الجزائرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى