مقالات

كازاخستان ومفترق الطرق الدولية !

أحمد الهواس

رئيس التحرير

عرض مقالات الكاتب

  ثلاث مناطق في العالم كانت مرشحة للتغيير في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات لتشابه ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي أوربا الشرقية التي كانت تحت سيطرة النفوذ السوفييتي ، وتمّ لها ذلك بمساعدة أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، والمنطقة العربية ، ولم تتأخر في محاولة الالتحاق بثورات أوربا الشرقية ، وكانت الجزائر أولى الدول المستقبلة لذلك، ولكن عسكر الجزائر حولوا ربيع الجزائر لصراع مع الإرهاب فأوقفوا الربيع العربي ، الذي عاد وتفجّر في تونس 2011، والمنطقة الثالثة دول وسط آسيا التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي.

لم تكن أحدث كازاخستان مفاجأة لمراقبي منطقة وسط آسيا ، ولا سيما الدولة “الأوراسية” الثرية كازاخستان، الدولة الأكبر مساحة في العالم الإسلامي ” تبلغ مساحة كازخستان 2,724,900 كيلومتر مربع” فقد سبق هذه المظاهرات التي تقترب من ثورة شعبية احتجاجات في 2011 في محاكاة للربيع العربي، ثم 2019 أدّت لتنازل الديكتاتور نورسلطان نزار باييف عن الحكم “شكليًا” لصالح قاسم توكاييف. فكل عوامل الثورة الشعبية متوافرة في هذا البلد الثري المفقّر أهله، الممنوع عنهم الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة.

استقلال غير ناجز

كانت كازاخستان آخر دولة تعلن استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991 ، ولم يكن رئيسها “نزار باييف” راغبًا بذلك، ولذلك ظلت كازاخستان حالها كبقية الدول التي انفكت عن الاتحاد السوفييتي دولًا منقوصة السيادة ، فالتأثير الروسي مازال مستمرًا ولا سيما بعد وصول بوتين للسلطة” 1999″ حيث عمل ومازال على استعادة الإمبراطورية الروسية سواء بالتدخل المباشر أو بالهيمنة على تلك المنطقة المهمة، بل إن بوتين لا يعترف في أدبياته السياسية بدولة اسمها كازاخستان ، بل يراها منحة روسية . ومن جهة أخرى فإن المواطن الكازاخي مازال يرزح تحت سلطة حكم مستبدة حالة كبقية مواطني الدول التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، حيث مازالت تحكم بنظم مستبدة من مخلفات المرحلة الشيوعية، وحبن استقلت كازاخستان لم يتغير الأمر كثيرًا سوى بظهور دولة جديدة وجنسية جديدة حملها أبناؤها فقد بقي الرئيس المعيّن في المرحلة الشيوعية رئيسًا تحت صفة مرشح مستقل أو تحت صفة مرشح الحزب الديمقراطي الحاكمّ ! فالانتقال من الأممية إلى الوطنية المغلّفة بشعار الديمقراطية لعبة يجيدها المستبدون..

كان نظام باييف  جزءًا من الأمن القومي الروسي ، وهذا ما يوجب الحفاظ عليه حتى لو غادره من كان في رأس السلطة، فهذا البلد الواسع يتشارك مع روسيا بحدود تصل لسبعة آلاف كلم فضلًا عن ثروات هائلة في اليوارنيوم والنفط والغاز، وممرًا مهمًا لروسيا إلى الدول “التركية” وهي تخضع لإملاءات روسيا وتتسق مع سياستها ، بل حتى النووي الذي ورثته من الاتحاد السوفييتي قامت بتفكيكه وتسليمه لموسكو، وكذلك الصين الحالم بإنجاز طريق الحرير، وهي لا تقل أهمية كذلك عند الولايات المتحدة الأمريكية، فهي مركز التوازن في فرض هيبة القوة الأمريكية تجاه روسيا والصين، ولها علاقات اقتصادية جيدة مع كازاخستان، وثمة قوة أخرى بدأت تظهر في المنطقة وتحاول أن تمدّ نفوذها باتجاه عمقها القومي ” تركيا” وهي المرشحة لتقود تلك الدول الست التي تنتسب إلى العرق التركي ، ويمكن أن تشكل أنموذجًا لها بعد النجاحات التركية في ظل العدالة والتنمية، لاسيما بعد يأس الأتراك من دخول الاتحاد الأوربي ، وتصاعد المشاكل مع الأنظمة العربية التي ترى في التجربة التركية خطرًا على مستقبلها، لاسيما بعد ثورات الربيع العربي ، وتأييد تركيا للتغيير في المنطقة.

المؤامرة الخارجية والإرهاب !

كان واضحًا أن الاحتجاجات الحالية ليست كسابقاتها ، فهي أكثر اتساعًا مما هدد بقلب نظام الحكم، حيث كان المتظاهرون يرددون “ارحل إيها الرجل العجوز” في إشارة إلى نزار باييف حيث مازال مسيطرًا على الدولة فضلاً عن الفساد الذي تشرف عليه أسرة الرئيس، الذي تحوّل إلى ما “الباسي” أي “قائد الأمة” والعاصمة أستانا إلى ” نور سلطان” لكن هذا سقط مع إسقاط المتظاهرين لتماثيل الرئيس السابق، وانكشف عورة النظام الفاسد الذي تغنّى به طوني بليير ووصفه يومًا بأنه رجل دولة يعمل على إرساء السلام العالمي !

عوامل الثورة جميعها متوافرة لدى الشعب الكازخي ، فهو يعيش في دولة ثرية تتمتع بموقع متفّرد وثورات هائلة حيث تصدر ما يقارب 2 مليون برميل نفط يوميًا ، ومع ذلك يعاني شعبها من الفقر، بل تقوم الحكومة برفع أسعار الغاز المسال، فالثورة في كازاخستان شعبية ، وليست نتاج مؤامرة خارجية كما يروّج الرئيس قاسم تاكييف ، أن عشرين ألفًا من المسلحين “الإرهاببين” في ألماتي وحدها، وهذه الجملة التي جاءت على لسان الرئيس تبدو أنّها بإيحاء من موسكو حتى تتدخل عسكريًا باسم منظمة “الأمن الجماعي” وهي المعاهدة التي تضم روسيا، وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان ، وبيلاروسيا، وتبيح في مادتها الرابعة التدخل العسكري في حال تعرض أمن دولها للخطر للحفاظ على أمنها واستقرارها. فقد صنعت روسيا في هذا البلد منظومة فساد تحكم، فضلاً عن التغيير الديمغرافي الذي حصل في الحقبة الستالينية ما أدى لزرع ما يقارب ربع السكان من الروس وبعض الأقليات التي ترتبط وجودًا وعدمًا مع موسكو وتتذرع بهم موسكو في كل تغيير يكاد يحصل في جمهورياتها السابقة ، هذه الأقلية تقف بطريقة أو أخرى في منع تشكّل حالة مواطنة في تلك الجمهوريات.

الخلاف الروسي الأمريكي لا يصل لحد الصدام

إن تدخّل روسيا عسكريًا في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في كازاخستان لم يأت نتيجة مؤامرة خارجية أو أجندة أمريكية، وإن كان من تقاطع مصالح في استغلال تلك الاحتجاجات في الضغط على روسيا أو تأجيل غزو أوكرانيا ، ولكنها لا ترقى لمرحلة الصراع أو دعم الثورة الكازاخية لتصل لمرحلة كسر العظم مع موسكو، فالسياسة الأمريكية في العالم يطغى عليها منذ عهد أوباما عدم التدخل في بقاع ساخنة كثيرة في العالم بل تركت لقوى دولية وإقليمية كبرى التدخل ، وهي من أفسحت المجال لأن يمارس بوتين سياسة قائمة على البلطجة منفلته من أي التزام بما يسمى القانون الدولي، وهذا التدخل يتماشى مع السياسة الروسية القائمة على العنف في مواجهة أي احتجاجات شعبية ورفض مفهوم الثورة بل لابد من ربطها بمؤامرة خارجية تستهدف البلد، كذلك وجدت موسكو الفرصة سانحة لتقزيم الدور التركي في تلك البقعة بعد أن شكّلت تركيا مع تلك الدول منظمة “الدول التركية” وواقع الحال أن لا أحد لديه مصلحة في “تثوير” الشعب الكازاخي، فروسيا تعلم أن التغيير في كازاخستان سيشمل منطقة واسعة تتشابه ظروفها السياسية والاجتماعية معها وستكون روسيا في خطر قد لا يتوقف عند تغيير نظام الحكم بل يصل إلى تمزق الاتحاد الروسي نفسه، والصين تريد كازاخستان مستقرة لأنها بوابة نحو طريق الحرير، والولايات المتحدة لديها مصالح كبيرة فيها وهي لا ترغب بتغيير يصبّ في مصلحة العالم الإسلامي. فتركيا  لديها ثلاث بوابات  لكي تستعيد دورها  كدولة كبرى؛  البوابة القومية وكانت مغلقة بعقبة ناغورني كارباخ ، والبوابة العربية وقد باتت تبعد عنها بعد أحداث المنطقة وشيطنة تركيا ، والبوابة الأوربية وهي مغلقة من النادي الأوربي المسيحي ،لذلك ستعود إلى فكرة العمق الاستراتيجي الذي وضعها أحمد داوود اغلو وتحقق لها ذلك بانتصارها في حرب أرمينيا أذربيجان، لذلك سيجد الروس والأمريكان أنفسهم في تعاون بدافع قهري ، لإبقاء الحال على ما هو عليه، أو ربما العمل على تحسينات طفيفة حتى لا تصب تلك المتغيرات في مصلحة الأتراك ، فمنع تركيا من أن تكون دولة كبرى هو الهدف المتفق عليه بين الروس والغرب بشكل عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى