بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 19

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

العلاقات الثنائية بعد استقلال العراق (1)

حصل العراق على استقلاله رسميا عن الدولة العثمانية، وبعد أن أنهت بريطانيا وصايتها عليه، وبدأت الحكومات التي تشكلت فيه، بعد تنصيب الملك فيصل الأول رحمه الله على عرش العراق، جهودا حثيثة من أجل أن يحتل العراق مكانته في المجتمع الدولي، وسط تشابكات وتركة ثقيلة من التخلف الاجتماعي والاقتصادي، وحسنا فعل من انتبه إلى أن أي تطور أو بناء، لا يمكن أن تتم المحافظة عليه، ما لم يكن يستند إلى قوة وطنية تحميه، فالأمن المستورد والقوة المستأجرة، لا يمكنها توفير كل احتياجات البلدان التي تسعى إلى الاستقلال السياسي، فالمصالح الوطنية لا بد أن تصل في أحدى نقاطها إلى الصدام مع مصالح الآخرين، بمن فيهم الدول الضامنة لأمن البلد.
كانت أنظار العراق ترنو إلى تطبيع كامل لعلاقاته، مع أهم جارين يحملان موروثا من ادعاءات حقوق وهمية في الأراضي العراقية، وهما تركيا وإيران، ولكن إيران التي تحولت إلى دولة تزعم لنفسها الالتزام بقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الموقعة بينها وبين الدولة العثمانية، بشأن تثبيت الحدود بين فارس وإيران، لطالما نزعت عن نفسها كل ما كانت تزعمه لنفسها من سلوك حضاري في تعاطيها مع روح القانون الدولي، وتظهر على حقيقتها كيانا لا يعترف بتلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ولا يعترف بالمجتمع الدولي وقواعده الملزمة الضابطة لسلوك الدول عن أي خروج عليها.

كتاب (حقائق عن الحدود العراقية الإيرانية)

ومع كثرة المعاهدات والبروتوكولات الموقعة بين بلاد فارس والدولة العثمانية نيابة عن العراق عندما كان جزءً منها، فإن الخلافات على الحدود ظلت قائمة، وقد أصدرت الحكومة العراقية عام 1960م، كتابا باسم (حقائق عن الحدود العراقية الإيرانية) أوردت فيه نصوصا لمعاهدة أرضروم لعام 1847، وبروتوكول عام 1913م وتثبيت الحدود عام 1914م وشرحت الحكومة العراقية فيه التجاوزات الإيرانية لحدود العراق.
وقد ورد في كتاب الحكومة العراقية ما يليٌ (إن الحكومة الإيرانية ظلت تخالف نصوص الاتفاقات الواضحة، وتهدف بذلك إلى تحقيق بعض المكاسب على حساب العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد تجاوزت على حدود العراق مُنتَهِكة نصوص الاتفاقات المذكورة التي كانت طرفا فيها، ولا تزال تجاوزاتها مستمرة حتى الآن، بل أن تجاوزاتِها اتخذت شكلا استفزازيا منذ قيام الثورة العراقية، أرادت الحكومة الإيرانية اغتصاب ما يتيسر لها اغتصابه من الأراضي العراقية فأنشأت في داخل لعراق مخافر حدودية وحرستها بقوات مسلحة وهذه المخافر هي :
1 – البجلية، ويقع في قضاء (قلعة صالح)، وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية على مسافة كيلومتر واحد عن خط الحدود.
2– كاني سخت، ويقع في قضاء (بدرة)، وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية بعيدا عن خط الحدود بمسافة ستة كيلومترات.
3– الزيادي ويقع في قضاء (بدرة) وقد أنشئ داخل الأراضي العراقية على مسافة خمسة كيلو مترات عن خط الحدود.
4– تك تك ويقع في قضاء بدرة وقد أنشئ داخل الأرض العراقية على مسافة سبعة كيلومترات من خط الحدود.
5– قلعة لان (قلا لان) ويقع في قضاء مندلي وقد أنشئ داخل الأرض العراقية على مسافة كيلومتر واحد من خط الحدود.
6– ني خضر ويقع في قضاء مندلي وقد أنشئ داخل الأرض العراقية أيضا.
إن الحكومة العراقية آثرت اتباع الأساليب الدبلوماسية للدفاع عن حقوقها ولكن لم تُجدِها احتجاجاتُها الكثيرة ومطالباتها المتوالية، إذ كانت الحكومة الإيرانية تحتج بتملكها تلك الأراضي متجاهلة الوثائق الدولية، وعلى الأخص محاضر جلسات قومسيون الحدود، والخرائط وأوصاف دعامات الحدود وإحداثيات مواقعها الملحقة بتلك المحاضر).
(ولا بد أن نسجل للحكومة الإيرانية هنا أنها تراجعت فترة عن سياسة العدوان مع جارها العراق، على أثر تنازل “جلالة الشاه السابق” عن العرش، ومغادرته البلاد ودخول قوات الحلفاء إيران عام 1945م أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد فاءت الحكومة الإيرانية عندئذ إلى الحق، وسحبت قواتها من أكثر تلك المخافر المبنية داخل الأراض العراقية، إلا أنها عادت مع الأسف بعد الحرب إلى سياستها السابقة، فأرادت احتلال المخافر المذكورة مجددا، ولما لم تسمح لها السلطات العراقية بذلك، لم تتردد في استعمال القوة المسلحة لاحتلالها عنوة ولكن الشرطة العراقية ردتها، ومع هذا فلا تزال قوة إيرانية تحتل مخفر ني خضر، وبالرغم من عجز قوات إيران عن احتلال المخافر الأخرى الواقعة داخل الأراضي العراقية، فإن إصرارها على سياستها تلك جعلها تنشئ مجددا مخفرين إيرانيين داخل الأراضي العراقية قبالة المخفرين العراقيين،(كاني سخت) و(الزيادي)، وسمتهما باسميهما).
(إن الحكومة العراقية لم تترك فرصة قبل الحرب الأخيرة – العالمية الثانية – وبعدها، إلا وطالبت الحكومة الإيرانية بتحكيم خبراء أجانب لحل خلافات الحدود، ولكن الحكومة الإيرانية التي يظهر أنها تريد التوسع والاستيلاء على ما ليس من حقها، لم تكن راغبة في حل هذه الخلافات بصورة عادلة، ولهذا كانت تماطل في ذلك دائما، وتتمنع بحجة أن العراق وإيران قطران إسلاميان، لا يجوز إدخال الأجانب بينهما، وبناء على هذا كانت الحكومة العراقية تقترح تأليف لجنة مشتركة من الجانبين فقط، فكانت إيران تمتنع أيضا متذرعة بحجج مختلفة، وقد وافقت ذات مرة على تأليف لجنة مشتركة من الجانبين للكشف على مخفر البجلية، ولكن الجانب الإيراني أبرز خرائط غير معترف بها، وليست لها أية صفة رسمية، ممتنعا عن تطبيق الخارطة الأممية المتفق عليها مبدئيا لتعيين موقع المخفر بالضبط، وبذلك فشلت اللجنة بطبيعة الحال، فعاد الخلاف والجدل حول هذا الموقع إلى سابق عهده).
وبهذا يمكننا أن نؤشر على كتاب الحكومة العراقية، أنه ينطلق من موقف ضعف معيب، هو وغيره من المواقف المماثلة، وهذا ما أغرى إيران على مواصلة سياستها في قضم الأرض العراقية، فالحكومة الإيرانية وهي التي مضت في طريق اختيار التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي عنوانا لدولتها، وتحالفت مع الغرب وإسرائيل، إلى مديات لم تعد سرا في عهد الشاه، حينما كانت تريد التهرب من تنفيذ التزاماتها فإنها تتذرع بشعارات إسلامية، للتهرب مما كانت قد وقعت عليه في معاهدات موثقة، وحينما لا تجد مهربا من الحضور في اجتماع ثنائي، فإن الوفد يجلب معه خرائط مزورة لا صلة لها بالمنطقة، على الرغم من أن الإسلام يأمر بالوفاء بالعهود وصدق الالتزام بها، إن هذا الضعف هو الذي أورث الحكومات التي حكمت العراق فيما بعد، أكبر رصيد متراكم من المشكلات المؤجلة، فإذا كانت الحكومات الإيرانية وخلال الحكم الملكي، تسطو على جزء من أرض العراق كما يشير كتاب الحكومة العراقية عام 1960، فكيف سيكون سلوكه مع نظم حكم يعتبرها معادية له كما حصل مع حكم البعث؟
كيف سارت العلاقات بين العراق بعد استقلاله عن الدولة العثمانية مع بلاد فارس؟
بعد استقلال العراق وتأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، ورث العراق عن الدولة العثمانية مشاكل الحدود المزمنة مع إيران، والتزم العراق بكافة المعاهدات التي ورثها عن الدولة العثمانية، والتي عقدتها مع الدولة الفارسية، وذلك حسب اتفاقية لوزان عام 1923م، وعلى الرغم من أن بعض المعاهدات كانت مجحفة بحق العراق، لكن بسبب ضعفه آنذاك واستقلاله الجديد فأنه قَبِل بها مكرها، ولم يتمكن من معارضتها أو الاعتراض عليها، ولكن الأطماع الفارسية لم تتوقف بعد ذلك، على الرغم من الامتيازات المغالى بها التي حصلت عليها الحكومة الفارسية بدون وجه حق، (ففي عام 1935م تجلى الغدر الفارسي في أبشع صوره، عندما ألغت الحكومة الفارسية اتفاقية أرضروم الثانية لعام 1847م ومعاهدات –بروتوكولات- عام 1911م وعام 1913م وعام 1914م، وأضطر العراق إلى رفع شكوى إلى عصبة الأم المتحدة، التي أوصت بدورها بحل الخلاف بشكل سلمي عبر التفاوض بين الطرفين، ولكن البلدين ونتيجة استئنافهما المفاوضات المباشرة طلبا سحب الشكوى من عصبة الأمم، وجاء ذلك برسالة الحكومة العراقية في 27 نيسان 1936م، وبعثت الحكومة الإيرانية برسالة مماثلة للعصبة في 4 أيار 1936م، ولم تستمر المفاوضات بينهما طويلا، بسبب وقوع انقلاب بكر صدقي الذي حصل ليلة الثامن والعشرين من تشرين الأول 1936م، الذي أطاح بحكومة ياسين الهاشمي الثانية، وكلف الملك غازي حكمت سليمان، بتشكيل الوزارة الجديدة التي اتصفت بنزعة دكتاتورية، ولكنها لم تكن متجانسة، ولهذا فرطت في الحفاظ على حقوق العراق ومصالحه وسيادته على بعض المناطق، وكان من بين نتائج انقلاب صدقي أن انقطعت المفاوضات مع إيران، وأدى ذلك إلى توقيع اتفاقية عام 1937م، والتي تم توقيعها في طهران في تموز من العام المذكور)، بعد مفاوضات استمرت سنتين توصل العراق وإيران إلى تفاهم حول مشكلة الحدود، التي يبدو أنها لا تريد أن تشهد نهاية مؤكدة، وقد اعترفت الحكومة الإيرانية فيها بشرعية بروتوكول الإستانة لسنة 1913م، في حين تنازلت الحكومة العراقية فيها عن جزء صغير من ضفة شط العرب الشرقية أمام عبادان، بحيث أصبح خط الحدود يمر لمسافة سبعة كيلومترات و250 مترا، لتضاف هذه المسافة إلى ما حصلت عليه إيران سابقا أمام المحمرة لتصبح المسافة كلها نحو 14 كيلومترا، ونصت المعاهدة على تشكيل لجنة مشتركة من الطرفين لتتولى نصب الدعامات الحدودية، وكانت إيران تلجأ إلى أسلوب إقامة المخافر الحدودية والدعامات داخل الأراضي العراقية كجزء من الضغط الذي تريد تسليطه على الحكومة العراقية لتقديم تنازلات في الحدود المائية في شط العرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى