بحوث ودراسات

أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 2 من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الدور التَّبشيري للجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة

كما ذُكر من قبل، حرص تشارلز واطسون على فصل الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة عند تأسيسها عن العمل المباشر للإرساليَّات التَّبشيريَّة في مصر. ومع هذه الاستقلاليَّة عن جهود الكنيسة المشيخيَّة في السياسة والإشراف، اعتقد كبار المبشِّرين الأمريكيِّين في مصر أنَّ الجامعة حديثة النشأة بمثابة امتداد لعمل الإرساليَّات، وأنَّها “ستستخدم التعليم في رعاية الكنيسة الإنجيليَّة في مصر”، كما تذكر شاركي (ص152). وكما تشير وثيقة للمجمع الأعلى للكنيسة الإنجيلية، المعروف باسم سنودس النيل الإنجيلي، تحت عنوان “الجامعة بالقاهرة والإرساليَّة الأمريكيَّة في مصر”، تعود إلى عام 1921 ميلاديًّا، اعتبر قادة التَّبشير الإنجيلي أنَّ الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة سوف تكمل “منظومة التعليم العالي البروتستانتي في مصر” وتجتذب “أبناء المستنيرين الأقباط والمسلمين إلى التعليم الإنجيلي والحقيقة الإنجيليَّة”. تشير شاركي إلى أنَّ فكرة تأسيس الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة طُرحت لأوَّل مرَّة عام 1899 ميلاديًّا، لمَّا بدأ الحديث عن الحاجة إلى “جامعة أو كليَّة مسيحيَّة في مصر” تخدم الأهداف التَّبشيريَّة؛ وبحلول عام 1915، اندرجت خطط تأسيس ذلك الكيان التعليمي تحت مسمَّى “Christian University for Egypt“، أو جامعة مسيحيَّة لمصر، نقلًا عن شاركي (ص152).

قبل تأسيس الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، طُرحت فكرة تأسيس جامعة تخدم أهداف التَّبشير في العالم الإسلامي أكثر من مرَّة، تذكر شاركي منها ما أوصى به مبشِّرون بريطانيُّون وأمريكيُّون عام 1906 ميلاديًّا، خلال اجتماع لهم لمناقشة التحديات التي تواجه جهودهم. وضع المؤتمرون أيديهم على أكثر ما احتاجوا إليه لدعم جهودهم، وهو تدريب المبشِّرين على كيفيَّة التعامل مع المسلمين، وإعداد موادَّ مطبوعة بلغات العالم الإسلامي، خاصَّة مع التحدي الذي مثَّلته مؤسَّسة الأزهر الشريف، التي تدرِّب الدعاة إلى الإسلام من شتَّى أنحاء العالم. تلقَّت فكرة التعاون التعليمي بين المبشِّرين دفعة نوعيَّة بعد مؤتمري ادنبره في اسكتلندا عام 1910، ولكهنؤ في الهند عام 1911، وقد تولَّى المبشِّر الأمريكي الأشهر، صمويل زويمر، الوافد من Reformed Church in America، أو الكنيسة المُصلَحة في أمريكا، مهمَّة تنفيذ خطَّة التدريب التعاوني بين المبشِّرين. انتقل زويمر إلى مصر عام 1911 ميلاديًّا، وعمد إلى تأسيس Cairo Study Centre، أو مركز القاهرة للدراسات، بالتعاون مع مبشِّرين بارزين آخرين، لتدريس المبشِّرين العربيَّة والإسلام.

من هنا، حرص تشارلز واطسون على ضمِّ مركز القاهرة للدراسات إلى الجامعة الأمريكيَّة حديثة التأسيس في القاهرة، ولكن بعد تغيير اسمه إلى School of Oriental Studies، أو كليَّة الدراسات الشرقيَّة. ظلَّت تلك الكليَّة تدرِّب المبشِّرين على التعامل بالعربيَّة مع المسلمين حتَّى منتصف الخمسينات من القرن الماضي. تطوَّر برنامج تدريس العربيَّة لإعداد المبشِّرين في الستينات، ليصبح مركز الدراسات العربيَّة، ثمَّ مركز دراسة العربيَّة في الخارج، مع الحفاظ على “الرؤية البروتستانتيَّة” التي أُسِّست الجامعة لخدمتها (ص155). وتشير شاركي إلى أنَّ واطسون برغم إيمانه بعالميَّة الإرساليَّة التَّبشيريَّة إلى مصر، وبضرورة الوصول إلى كافَّة الطلَّاب المصريين لتعريفهم بالمسيحيَّة، حرص المبشِّر المخضرم على تخفيف الخطاب ديني الطابع في تعاملاته مع الطلَّاب، المنتمين إلى الثقافة الإسلاميَّة. من ثمَّ، استوجب اجتذاب الطلَّاب المسلمين إلى الجامعة وتنويع هويَّات الملتحقين بها “تحييد الهويَّة البروتستانتيَّة للجامعة” (ص159). وتذكر شاركي أنَّ واطسون كان يتأسَّف على تلك الممارسة المعروفة بـ “العلمنة”، وإن كانت منتشرة في كبرى المؤسسات التعليميَّة الأمريكيَّة التي أُنشأت لخدمة التَّبشير البروتستانتي؛ بل وكان واطسون يكره مسمِّى “العلمنة”، ويطلق عليه “حامض العلمانيَّة”، نقلًا عن شاركي (ص160).

وبرغم ذلك الحرص على تغليب الطابع العلماني على الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، اتُّهمت الجامعة بارتكاب “جرائم” تبشيريَّة أثارت الشكوك حول طبيعة أهدافها (ص160). لعلَّ من أشهر ما أُخذ على الجامعة في هذا السياق، توزيع صمويل زويمر، الذي كان عضوًا في هيئة التدريس في كليَّة الدراسات الشرقيَّة، منشورات جدليَّة مسيحيَّة في الأزهر عام 1928 ميلاديًّا؛ ومن أشهرها كذلك تحوُّل طالب يُدعى يوسف عبد الصمد إلى المسيحيَّة عام 1932، برغم أنَّ تحوَّل على يد مبشِّر مصري، وقد شهد العام ذاته محاولة طالب فلسطيني اسمه عبد القادر الحسيني، فضح الهويَّة الدينيَّة للجامعة، من خلال قراءة محتوى بعض مؤلَّفات مكتبة في كليَّة الدراسات الشرقيَّة لإثبات أنَّ الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة “عدوَّة للإسلام”، كما ورد في كتاب The American University in Cairo: 1919-1987-الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة: 1919-1987 (1987) للورانس آر. ميرفي.

اعترف واطسون في رسالة وجَّهها بتاريخ 22 فبراير من عام 1933 ميلاديًّا، إلى أحد زعماء Missionary Education Movement، أو حركة تعليم المبشِّرين، بأنَّ الحملة المناهضة للتنصير التي شُنَّت ضدَّ الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، أجبرت القائمين عليها على إعادة النظر في سياستها التعليميَّة. برغم أنَّها كانت جامعة خاصَّة مستقلَّة يمكنها التَّبشير بالمسيحيَّة دون قيود، فاضطرت إدارة الجامعة إلى تغليب الهويَّة العلمانيَّة، خاصَّة بعد أن بدأت تتلقَّى الدعم الحكومي. واستجابةً للحملة الهجوميَّة التي اتَّهمت الجامعة بالتَّنصير، أعاد واطسون النظر في تدريس مادَّة في علم الاجتماع، تضمَّن منهجها الدراسي دراسات في الكتاب المقدَّس، ودراسة عن حياة يسوع المسيح، ودراسات في علم الاجتماع المسيحي، إلى جانب دراسات في الفلسفة والديانات المقارنة، كانت تعكس “وجهة النظر المسيحيَّة”، نقلًا عن شاركي (ص162). وكان واطسون قد استعان بمواطنه، جيمس كواي، المبشِّر التابع الكنيسة المشيخيَّة المتَّحدة في أمريكا الشماليَّة والمتخصِّص في الدراسات اللاهوتيَّة، لتدريس تلك المادَّة.

يروى جيمس كواي في مذكِّراته، التي عنونها A Missionary Journey-رحلة مبشِّر، عن تجربته في تدريس الكتاب المقدَّس وعلم الأخلاق من منظور مسيحي، لمجموعة من 15 طالبًا من المسلمين. بعد نقاشات عن مسائل اجتماعيَّة تخصُّ المجتمع المسلم، نشأت بين كواي وطلَّابه صداقة شجَّعته على مباشرة مهمَّة التعريف بالمسيحيَّة. وكما سجَّل في مذكِّراته بتاريخ 13 يناير 1929 ميلاديًّا، حمل كواي مجموعة من نُسَخ الكتاب المقدَّس لطلَّابه المسلمين، ونصحهم بالاطِّلاع على محتواها؛ لفهم المزيد عن حياة يسوع، بعد تعرُّفهم على الجانب الأخلاقي لشخصيَّته، متظاهرًا بعد الاستعجال في تحصيل قيمة النسَخ. فوجئ كواي بالطلَّاب، عدا اثنين منهم، يتركون، ليس قيمة النسَخ، إنَّما النسَخ ذاتها. ذهبت روح الصداقة والألفة، وصار الطلَّاب يحضرون المحاضرات لاضطرارهم لذلك.

بحلول عقد الثلاثينات من القرن الماضي، أعاد تشارلز واطسون تقييم الجهود التَّبشيريَّة في العالم الإسلامي، بدفع من المشاعر المناهضة للتبشير في تلك الفترة، معترفًا في خطاب أرسله إلى أحد زعماء حركة تعليم المبشِّرين بتاريخ 17 سبتمبر 1927، بـ “فشل المسيحيَّة في فعل الخير”، وفي “حلِّ المشكلات الاجتماعيَّة”، وفي تعزيز “التعاون الدولي”. وفي يناير من عام 1932، نشر واطسون مقالًا تحت عنوان ” Rethinking Missions-إعادة النظر في الإرساليَّات”، كان بمثابة “النقطة المفصليَّة” في تاريخ العمل التَّبشيري، كما رأى ويليام ارنست هوكينج في كتابه Re-Thinking Missions: A Layman’s Inquiry after One Hundred Years-إعادة النظر في الإرساليَّات: تحقيق شخص عادي بعد مائة عام (1932)؛ كونه أجبر المبشِّرين على الاعتراف بفضائل الديانات غير المسيحيَّة، والتشكيك فيما اعتُبر من الثوابت في الحقائق الأخلاقيَّة التي اعتقد فيها المفكِّرون البروتستانت.

اقتنع واطسون في السنوات اللاحقة بأنَّ التَّنصير بطريقته التقليديَّة لم يكن الخيار الصحيح. في كُتيَّب أعدَّه للمتبرِّعين للجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة في أمريكا، أشار واطسون إلى أنَّ الأهمَّ من مُسمَّى المنهج التَّبشيري هو محتواه. ليس من الضروري التصريح بأنَّ الهدف من المنهج التعليمي هو التعريف بالمسيحيَّة، ويكفي جرِّ المسلم إلى “قبول مضمون المسيحيَّة”، بما في ذلك “رؤيا المسيح للربِّ”، و “دعوة المسيح للتآلف مع الرب”، و “أسلوب حياة المسيح”، و “مُثُل المسيح للاستقامة والفضيلة”، نقلًا عن شاركي (ص167).

في عام 1937 ميلاديًّا، نشر واطسون كتابًا يحمل عنوان What is This Moslem World-ما هذا العالم الإسلامي، مثَّل نقلة نوعيَّة في تصوُّره عن المسلمين؛ حيث بدأ الكتاب باعتذار للمسلمين عن الصورة “القاسية وغير المنصفة” التي رُسمت للإسلام في الأدب الغربي. اعترف واطسون في هذا الكتاب بالضغوط القوميَّة التي كانت تعرقل مساعي المبشِّرين، ممَّن دعاهم إلى التخلِّي عن الغرور المصاحب لارتباطهم بالمشروع الإمبريالي الغربي، وإلى إبراز نبرة التسامح التي تشتهر بها الأناجيل، مع نشر الحبِّ الربَّاني من خلال العمل الاجتماعي لخدمة الشعوب المسلمة. يُذكر أنَّ واطسون قد أطلق فكرة العمل الاجتماعي من خلال أحد برامج الجامعة، يُعرف بـ Extension Program، أو برنامج التمديد، بدأ عام 1924 ميلاديًّا، واعتبره واطسون تعبير عن المشاركة المدنيَّة للجامعة.

استهدفت خدمات برنامج التمديد كافَّة طوائف المجتمع المصري، وكان من بين تلك الخدمات تنظيم محاضرات عامَّة لأشهر الشخصيَّات المصريَّة، وكان من بينهم مناصرو حقوق المرأة، مثل هدى شعراوي، وقوميُّون، مثل سلامة موسى. وأجَّرت الجامعة في الفتة ما بين عامي 1937 و1939 قاعة ايوارت، المتاخمة لمقرِّها القديم في ميدان التحرير في قلب القاهرة، لدار الإذاعة المصريَّة؛ لبثِّ الحفل الغنائي الشهري للمطربة العربيَّة الأشهر، أم كلثوم. المفارقة أنَّ استضافة قاعة تابعة للجامعة لحفلات غنائيَّة أثار حفيظة بعض المبشِّرين الإنجيليِّين في مصر، ممَّن رأوا أنَّ إذاعة أغنيات تؤجج المشاعر الشهوانيَّة يتعارض مع رسالة الجامعة المسيحيَّة. غير أنَّ واطسون رأى في ذلك تبرئة للأغنيات العاطفيَّة من السمعة البذيئة، مع الاعتراف بأنَّ حب الرجل للمرأة غريزة ربَّانيَّة!

بادر برنامج التمديد كذلك في تدريس التربية الجنسيَّة (sex education)، وحرص الدكتور فخري فرج، وهو كاثوليكي اتُّهم لاحقًا بازدراء الإسلام، على إلقاء محاضرات عن الأمراض التي تتنقل عبر الاتصال الجسدي. من هنا، استشعر واطسون أهميَّة إثارة تأثير البغاء على الصحَّة العامَّة في مصر. كان واطسون من مؤيِّدي ترخيص أوكار البغاء، وإخضاع العاملات في ذلك المجال لرقابة شرطيَّة وصحيَّة، وقد حرص المبشِّر الرائد على إتاحة تدريب مهني لممارِسات البغاء دون مواظبة بغرض إعالة أسرهن، داعيًا إلى إنشاء عيادات لمعالجة أمثال تلك الحالات، مع الحفاظ على سريَّة المريضات وعدم الخوض في تفاصيل حياتهنَّ. ووفق ما ذكره مقال عنوانه “Americans’ university Growing up in Cairo-جامعة الأمريكيِّين تنمو في القاهرة”، عالجت عيادة رعاية الأطفال التي أسَّسها واطسون، أكثر من ألفي حالة في الشهر الواحد، هذا خلال عام 1928 وحده. لمس واطسون كذلك دور تقديم الرعاية الصحيَّة في توسيع نطاق الجهود التَّبشيريَّة، ملفتًا إلى أهميَّة تقديم عناية طبيَّة لمرضى الرمد، خاصَّة مع ارتفاع نسبة الإصابة بالعمى أو فقدان البصر في إحدى العينين عن سائر بلدان العالم، والذي يلعب انتشار العدوى البكتيريَّة فيه دورٌ كبير. 

أوضح تشارلز واطسون في كتيِّب دعائي تحت اسم What’s the Big Idea-ما هي الفكرة الكبيرة (1942) أنَّ المهمَّة المسندة إلى الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة كانت إقامة “جسر من الصداقة” بين مصر والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، مضيفًا أنَّ “الفكرة الكبيرة” وراء ذلك الصرح التعليمي نقل ما تمتلكه أمريكا من “مصادر هائلة من المعرفة العمليَّة والديناميَّة المسيحيَّة” بهدف تحسين الأوضاع في مصر. لم يخفِ واطسون في كتيِّب للتعريف بأهداف الجامعة الجانب الديني، أو لتقل المسيحي، في المهمَّة التعليميَّة لتلك الجامعة. تشير شاركي إلى أنَّ واطسون لم يفقد أبدًا إيمانه بإمكانيَّة استغلال الجامعة في خدمة المسيحيَّة، حتَّى أنَّه أعرب عام 1944 ميلاديًّا، أي العام السابق على تركه رئاسة الجامعة، أن تسمح الأمم المتَّحدة، التي كانت على وشك التدشين، بحريَّة المعتَقد الديني، ممَّا يسمح بمباشرة أعمال التَّبشير بلا تقييد.

تلقي شاركي في نهاية الفصل المخصَّص لدور الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة في خدمة الإرساليَّات التَّبشيريَّة، الضوء على مشاركة الجامعة في تنفيذ مهام تخدم سياسات الإدارة الأمريكيَّة. حرص نائب واطسون في أبريل من عام 1943 ميلاديًّا على التأكيد على ضرورة عدم دخول الجامعة في ارتباط مباشر مع أعمال الإدارة الأمريكيَّة. ومع ذلك، وبعد أشهر معدودات، أبرمت الجامعة مع وزارة الحرب الأمريكيَّة اتفاقًا يلزمها بتدريس الرياضيَّات والعلوم والإنجليزيَّة لأفراد الجيش الذين يمرُّون عبر أراضي الشرق الأوسط، خلال الفترة الباقية من الحرب العالميَّة الثانية، نقلًا عن شاركي (ص175).

الجامعات الأمريكيَّة في العالم الإسلامي ونشر الفكر القومي

لا تختلف الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة عن نظيرتها في بيروت، التي سبقت الإشارة إليها، في نشر القوميَّة، باعتبارها بديلًا عن الهويَّة الإسلاميَّة المشترَكَة بين شعوب العالم الإسلامي. فقد رأى مؤسس الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، تشارلز واطسون، ضرورة مزج الجهود التَّبشيريَّة بالفكر القومي. انضمَّ واطسون هو الآخر إلى إحدى إرساليَّات الكنيسة المشيخيَّة استهدفت تأسيس جامعة مسيحيَّة في مصر. لم يدَّخر واطسون جهدًا في تدبير المال اللازم لتأسيس تلك الجامعة في مصر، وقد نجح في ذلك بالفعل، لتتأسس الجامعة عام 1919-تزامنًا مع نهاية الحرب العالميَّة الأولى، وبداية مرحلة جديدة في خطَّة التَّبشير الغربيَّة. ومن المفارقات أنَّ الجامعة التي أُسِّست بهدف نشر وعي يتناغم مع عقائد الغرب المؤمنة بظهور المخلِّص في آخر الزمان، قد عارضت جماعة من أساتذتها قرارًا للكونجرس الأمريكي صدر عام 1945 ميلاديًّا، دعا إلى تأييد الولايات المتحدة تأسيس دولة يهوديَّة في الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك أنَّ جون بادو-رئيس الجامعة-قد أرسل إلى الرئيس الأمريكي ترومان عام 1946 يحذِّره من استناد السياسات الأمريكيَّة إلى السياسات الأمريكيَّة الداخليَّة، في إشارة إلى الحشد الجماهيري للجماعات اليهوديَّة. وفي أعقاب اعتراف الرئيس ترومان بدولة إسرائيل عام 1948، أعدَّ بادو اعتراضًا مفصَّلًا وصف فيه تلك الخطوة بأنَّها “مجحفة تجاه الحقوق العربيَّة الفلسطينيَّة، ومضرِّة بأفضل مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”.

تجدر الإشارة إلى أنَّ إذكاء المشاعر القوميَّة لدى طلَّاب المؤسَّسات التعليميَّة الأمريكيَّة من العرب، يتعارض بالكليَّة مع فكرة تأسيس وطن قومي لليهود على أرضٍ عربيَّة. وجدير بالذكر كذلك أنَّ معارضة القائمين على بعض المؤسَّسات تبشيريَّة المرجعيَّة والأهداف لتأسيس إسرائيل والتأييد الغربي لذلك منعدمة التأثير في مواجهة التأييد العارم من مؤسَّسات تبشيريَّة أخرى؛ وكأنَّ معارضة تأسيس إسرائيل-مقر سيطرة المخلِّص وأتباعه على العالم-من قِبل بعض أتباع المؤسَّسات التَّبشيريَّة كان لامتصاص ثورة العرب، والحفاظ على جانب من ثقتهم في الغرب، من خلال الادِّعاء بأنَّ المفاوضات السياسيَّة ستعيد الأمور إلى نصابها.

إدراكًا لحقيقة أنَّ عدد المتنصِّرين عبر السنين لم يكن يُذكر إذا ما قورن على الأقل بعدد المهتدين إلى الإسلام، لم يجد الغرب وسيلة أفضل من استغلال الدارسين في مؤسِّساته التعليميَّة في نشر الأفكار التي تريد غرسها في المجتمعات. ويقول الكتابان مصطفى خالدي وعُمر فرُّوخ (1953) بالنصِّ “ومن رأي المبشِّرين أن تؤسس الكليات في المراكز الإسلاميَّة، ولذلك لم يكتفوا ببيروت بل أرادوا أن يكون ثمة كلية في القاهرة نفسها إلى جانب الجامع الأزهر. وهكذا أصبح للمبشرين الأمريكيِّين الكلية الأمريكيَّة في القاهرة، بعد كلية روبرت في إسطنبول أيضًا. ولم يكن رأي المبشِّرين الفرنسيِّين مخالفًا لذلك فأنشأوا كلية لهم في مدينة لاهور” (ص79-80). ويتطرَّق مصطفى خالدي وعُمر فرُّوخ (1953) إلى مفارقة وقعت في الجامعة الأميركيَّة في بيروت كشفت عن الأهداف التَّبشيريَّة للجامعة، برغم السمة العلمانيَّة التي تتَّخذها. ردًّا منها على احتجاج الطلَّاب المسلمين على إجبارهم الدخول إلى الكنيسة يوميًّا، أصدرت الجامعة عام 1909 ميلاديًّا بيانًا قالت فيه “هذه كليَّة مسيحيَّة، أُسِّست بأموال شعب مسيحي، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشأوا المستشفى وجهَّزوه، ولا يمكن للمؤسَّسة أن تستمرَّ إذا لم يساندها هؤلاء، وكلَّ هذا قد فعله هؤلاء ليُوجِدوا تعليمًا يكون الإنجيل من موادِّه؛ فتُعرَض منافعه الحقيقيَّة المسيحيَّة على كلِّ تلميذ. وكلُّ طالبٍ يدخل مؤسَّستنا يجب أن يعرف سابقًا ماذا يُطلب منه” (ص108). ويذكر خالدي وفرُّوخ كذلك موقف مجلس أمناء الجامعة حيال الواقعة ذاتها “إنَّ الكليَّة لم تؤسَّس للتعليم العلماني، ولا لبثِّ الأخلاق الحميدة، ولكن من أولى غاياتها أن تُعلِّم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزًا للنور المسيحي، وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على النَّاس وتوصيهم به” (ص109

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى