بحوث ودراسات

‘‘الوطن المفقود’’: إقران الفتح الإسلامي بالرَّجعيَّة وتحذير من عودة الإسلاميين 6 من 6

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة القبطيَّة بعد يوليو 1952م

ينتقل صموئيل تادرس إلى مرحلة الخمسينات من القرن العشرين، وما ألمَّ بالكنيسة القبطيَّة من تطوُّرات واكبت التَّغيير السّياسي الفارق في تاريخ مصر، بنجاح زمرة من ضُبَّاط الجيش، بقيادة جمال عبد النَّاصر، في الإطاحة بالنّظام الملكي، الممتد منذ عهد محمَّد عليّ (1805-1849م)، وإن كانت شرعيَّة النّظام كانت قد سقطت قبل ذلك بسنين، كما يدَّعي الباحث. شهدت مصر توتُّرًا سياسيًّا بعد تنامي نفوذ جماعة الإخوان المسلمون في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)؛ وتضاءلت شعبيَّة النّظام بعد هزيمة حرب 1948م، وعجزه عن الحصول على الاستقلال وإجلاء الاستعمار البريطاني. أمَّا عن انتماءات أعضاء تنظيم الضُّبَّاط الأحرار، فكان بعضهم ينتمي فكريًّا وعقائديًّا إلى جماعة الإخوان؛ بينما اعتنق بعضٌ آخر الفكر اليساري وانضمَّ إلى منظَّمات شيوعيَّة؛ في حين تعاوَن بعضٌ مع النَّازيين؛ واشترك آخرون في مؤامرات واغتيالات. وبرغم عدم اختمار الأفكار والأيديولوجيَّات الَّتي أراد تنظيم الأحرار تطبيقها، فكان من الواضح اتّخاذهم مسارًا معاديًا للدّيموقراطيَّة والليبراليَّة معًا، ويتَّخذ التَّغيير هدفًا يمكن تحقيقه من خلال “الهندسة الاجتماعيَّة، وفي النّهاية التَّحديث” (صـ141). حدث صدام بين النّظام الجديد في مصر بزعامة عبد النَّاصر وجماعة الإخوان، برغم التَّقارب والودّ السَّابقين، وبرغم انتماء العديد من أعضاء تنظيم الأحرار للجماعة قبل يوليو 1952م. وأصبح عبد النَّاصر، أو ناصر كما يتردَّد اسمه في الهتافات الجماهيريَّة، زعيمًا عربيًّا واسع الشَّعبيَّة بعد تبنّيه لمشروع الوَحدة العربيَّة، ودفاعه عن قضيَّة فلسطين، ودعوته إلى تكوين ما يُعرف بالقوميَّة العربيَّة.

كان من بين الإصلاحات الَّتي أراد ناصر إجراءها حلّ الأحزاب، وإغلاق منظَّمات المجتمع المدني، ومن بينها المنظَّمات القبطيَّة الَّتي ازدهرت في أربعينات القرن العشرين؛ ليفقد المسيحيون بذلك ممثَّلهم الوحيد. مع ذلك، حرص ناصر على تعيين عدد من النُّوَّاب المسيحيين في البرلمان، بعد عدم حصول أيّ مرشَّح مسيحي على مقعد بالانتخاب، إلَّا أنَّ النّظام الجديد تجاهَل المسيحيين في بعض الدَّوائر الرَّسميَّة، منها السّلك الدّبلوماسي. وكانت الضَّربة الأشدُّ قسوة الَّتي تلقَّاها المسيحيون هي تأميم أملاكهم، وبخاصَّة الأراضي الزّراعيَّة. وبرغم اشتراك أصحاب الأملاك المصريين جميعًا في تطبيق قرار التَّأميم، كان المسيحيون الخاسر الأكبر؛ لأنَّ الأراضي الزّراعيَّة وزّعت على المسلمين، كما يشير الباحث. وبرغم ما يُعرف عن عهد ناصر من ملاحقة للإسلاميين، واعتقال الآلاف من المنتمين إلى جماعة الإخوان وإعدام الكثيرين من رموز الجماعة إثر اتّهامهم بنشر التَّطرُّف، يزعم تادرس أنَّ كمال الدّين حسين، وزير التعَّليم لفترة قصيرة بعد الإطاحة بالملكيَّة، كانت له ميول إسلاميَّة، مشيرًا إلى انتمائه للإخوان قبل مشاركته في “مؤامرة الضُّبَّاط الأحرار”، وإن لم ينفِ أنَّه ناصر كان “علمانيًّا دون أدى شكّ”، وأنَّه قصَر التَّعليم الدّيني على الأزهر الشَّريف لكي لا يدع للإخوان منفذًا لتدريس ما قد يُعتبر تطرُّفًا (صـ142). برعاية كمال الدّين حسين، جرت أسلمة التعَّليم خطوةً خطوة، بإدخال قصائد شعريَّة لمدح النَّبيّ (ﷺ)، وإجبار الطُّلَّاب على حفْظ آيات من القرآن الكريم ضمن منهج مادَّة اللغة العربيَّة، بالإضافة إلى جعْل مادَّة التَّربية الدّينيَّة مادَّة نجاح ورسوب.

يعترف الباحث بأنَّ حملة القمع الَّتي شنَّها ناصر على أعضاء جماعة الإخوان المسلمون صبَّت في مصلحة المسيحيين، بأن بدَّدت مخاوفهم من تسلُّط الجماعة عليهم، لكنَّ حملة القمع والتَّقييد في عهد ناصر كانت مؤقَّتة في عهد خليفته، أنور السَّادات (1970-1981م)، كما يرصد الباحث آسفًا. وبرغم عدم اهتمام ناصر المباشر بالكنسية القبطيَّة، استفادت الكنيسة، وبخاصَّة المتحفّظين من رجالها، من سياسات الرَّئيس الجديد؛ فبإطاحته بالطَّبقة الحاكمة للعصر البائد، اختفى خصم الكنيسة الألدّ، أي المجلس الملّي، ولم تُجرَ انتخابات للمجلس بعد عام 1961م. ومع ذلك، فهناك سياسات ناصريَّة أضرَّت بالكنيسة، منها تأميم أراضي الأوقاف المسيحيَّة، ضمن أراضي الملكيَّات الخاصَّة الَّتي استحوذت عليها الدَّولة حينها. كان ناصر يرجع إلى البابا كيرلُّس السَّادس في كلّ ما يخصُّ المسيحيين، ونشأت بينهما علاقة ودّ، كما أوضح في ضوء ما أورده مؤلّف كتاب لعنة جماعة الأمَّة القبطيَّة، وقد شارك ناصر في التَّبرُّع لتأسيس المقر الجديد للكاتدرائيَّة المرقسيَّة في العبَّاسيَّة وافتتحه بنفسه في يونيو 1968م، وعُرف عنه حزمه في مواجهة أيّ أعمال عنف تستهدف المسيحيين.

أمَّا عن تطوُّر الكنيسة القبطيَّة في تلك الفترة، فتمثَّل في ظهور جيل جديد من الوعَّاظ، من أبناء الطَّبقة المتوسّطة، من خرّيجي الجامعات المتخصّصين في شتَّى المجالات العلميَّة، وممَّن تلقُّوا تعليمهم الدّيني في مدارس الأحد. وكان هدف ذلك الجيل، ممَّن حصدوا بذرة الإصلاح التَّعليمي الَّتي غرسها الشَّمَّاس حبيب جرجس قبل عقود، حينها هو “إحياء كنيستهم وإعادتها إلى مجدها السَّابق” (صـ144). نشأت حركة مدارس الأحد في عدَّة كنائس في القاهرة الكبرى، وأصبحت كنيستان منها نموذجين للإحياء، وهما كنيسة القدّيس مقرس بالجيرة، بقيادة سعد عزيز، الَّذي صار لاحقًا الأنبا صموئيل أسقف الخدمات، وكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا، بقيادة نظير جيّد، وهو البابا شنودة الثَّالث، البطريرك الـ 117 للكنيسة القبطيَّة (1971-2012م). وظلَّ الخلاف بين أعضاء الكنيسة حول إقصاء تأثيرات الإرساليَّات البروتستانتيَّة والانتفاع بتلك التَّأثيرات دائرًا، وكان الأب متَّى المسكين، أحد أعضاء جماعة الأمَّة القبطيَّة ومعلّم الأنبا شنودة الثَّالث، يميل إلى التَّعاون مع البروتستانت. وبمرور الوقت، أصبح أبناء حركة مدارس الأحد يتقدَّمون الصُّفوف في التَّرتيب الهرمي للهيكل الدّاخلي للكنيسة، وصاروا ينافسون على كرسي البابا، بأن ترشَّح سعد عزيز، أو الأب مكاري السُّرياني، ونظير جيّد، أو الرَّاهب أنطونيوس السُّرياني، عام 1957م للمنصب. غير أنَّ الحكومة المصريَّة أصدرت في 3 نوفمبر من العام ذاته قرارًا يشترط ألَّا يقلَّ سنّ المتقدّم عن 40 عامًا، وألَّا تقلَّ سنواته في الرَّهبنة عن 15 عامًا؛ ممَّا أجبر مكاري السُّرياني وأنطونيوس السُّرياني على الانسحاب حينها. وكان الكرسي وقتئذ من نصيب الرَّاهب مينا البراموسي، الَّذي صار البطريرك الـ 117 للكنيسة القبطيَّة باسم الأنبا كيرلُّس السَّادس.

بدأ الأنبا كيرلُّس السَّادس عهده بالإصلاح، في وقت كان العامَّة لايزالون يتذكَّرون “فضائح الكنيسة في عهد يوساب الثَّاني”، من خلال إقصاء بطانة الكهنة الَّتي لازمت الباباوات السَّابقين، والاستعانة بالطَّاقات الشَّابَّة (صـ146). وفي عام 1962، اتَّخذ البابا الجديد مسارًا غير مسبوق، بتكريس مكاري السُّرياني وأنطونيوس السُّرياني أسقفين عامَّين، بعد أن التَّكريس يقتصر على تعيين الأسقف على إحدى الأسقفيَّات الإقليميَّة. أصبح مكاري السُّرياني أسقفًا للخدمات، بينما صار أنطونيوس السُّرياني أسقفًا للتَّعليم ومسؤولًا عن مدارس الأحد. وبعد إصلاحات وإنجازات أشاد بها الجميع، تقدَّم الأسقفان للتَّرشُّح لكرسي البابا بعد رحيل الأنبا كيرلُّس السَّادس في مارس 1971م، بعد 6 أشهر من وفاة ناصر. أمَّا سرّ نجاح حركة مدارس الأحد، على حركة المجلس الملّي، فيكمن في أنَّ الأخيرة تبرَّأت من تراث الكنيسة القبطيَّة بالكامل وانحازت إلى الإرساليَّات البروتستانتيَّة في ممارسة تأثير مباشر على الكنيسة ومسارها التَّعليمي. في حين ركَّزت حركة مدارس الأحد على العودة إلى الأصول العقائديَّة الأرثوذكسيَّة، مع تحديث وسائل التَّعليم، دون إقصاء كامل للتَّأثير البروتستانتي. وبرغم معارضة حركة مدارس الأحد لبعض البدع والتَّقاليد البالية للكنيسة القبطيَّة، لم يستبعد أعضاء الحركة أبدًا الأساس الرَّوحي للكنيسة وعقائدها المتوارَثة. أضف إلى ذلك أن أعضاء حركة مدارس الأحد لم يأتوا من خارج الكنيسة، مثل أعضاء المجلس الملّي، بل صعدوا في السّلك الكنسي تدريجيًّا، وإن كان صعودهم سريعًا نسبيًّا، وكان نجاحهم ثمرة جهود قديمة.

ويُلاحظ أنَّ تادرس يتعمَّد، بوجه عام، نسبة منجزات الكنيسة في عهد البابا كيرلُّس السَّادس، ليس إلى شخص البابا، إنَّما إلى الأساقفة والرُّهبان المقرَّبين إليه، وعلى رأسها الأسقف صموئيل والأسقف شنودة، البابا شنودة الثَّالث لاحقًا، دون أدنى إشارة إلى وقوع خلافات أو صراعات داخليَّة في عهد كيرلُّس السَّادس، أو إثارة شكوك بشأن موته بُعيد وفاة ناصر. لم ينسَ الباحث إسناد دور الإشراف والرّقابة إلى البابا كيرلُّس السَّادس، الَّذي يصفه بـ “العملاق…الَّذي أدَّى فعل آلاف المعجزات” ليصبح أحد كبار قدّيسي الكنيسة القبطيَّة، بعد أن نجح في “قيادة سفينة الكنيسة عبر المياه الخطرة وإدارة الانتقال الصَّعب من الحرس القديم إلى جيل شباب الرُّهبان” (صـ151).

تجدُّد صدام الكنيسة القبطيَّة بالسُّلطة في مصر

ليس بجديد الإشارة إلى الصّدام الَّذي وقع بين الكنيسة القبطيَّة والسُّلطة الحاكمة في مصر في سبعينات القرن الماضي، بعد وصول أنور السَّادات إلى الحُكم أواخر عام 1970م، الَّذي تبعه تقلُّد الأنبا شنودة منصب البابا الـ 117 للكنيسة في العام التَّالي، والَّذي أفضى إلى إلغاء السَّادات القرار رقم 2782 لسنة 71 بتعيين الأنبا شنودة بابا الإسكندريَّة وبطريركًا للكرازة المرقسيَّة قبيل اغتيال السَّادات عام 1981م. وكان المفكّر الإسلامي المصري الرَّاحل، د. محمَّد عمارة، قال أشار في كتابه في المسألة القبطيّة: حقائق وأوهام (2001م) إلى أنَّ مصر لم تشهد توتُّرًا طائفيًّا ملحوظًا إلَّا في أعقاب ثورة 1952م، وبخاصَّة بعد تولّي السَّادات رئاسة الجمهوريَّة بالتَّزامن مع وفاة البابا كيرلُّس السَّادس وخلافة البابا شنودة الثَّالث له مطلع سبعينات القرن العشرين. وكان حادثة الخانكة في نوفمبر 1972م البداية الحقيقيَّة لظهور ذلك التَّوتُّر على السَّطح وتحوُّله إلى فتنة. اتَّسمت سياسة السَّادات بالابتعاد عن المسار الاشتراكي الَّذي اتَّبعه ناصر، وإن اشترك معه في إقصاء الدّيموقراطيَّة الليبراليَّة عن نظام الحُكم. ويعتبر تادرس أنَّ السَّادات أكمل مسيرة أسلمة الدَّولة، الَّتي بدأ بأسلمة التَّعليم في عهد ناصر، وأصبح الموضوعات الإسلاميَّة تُفرض على وسائل الإعلام المرئيَّة والمسموعة، كما أنَّ الرَّئيس نفسه كان مولعًا بالاقتباس في خطاباته من النُّصوص الإسلاميَّة. أصبح الإسلام بمرو الوقت بديلًا للقوميَّة في تكوين هويَّة البلاد؛ ممَّا ترتَّب عليه “السُّخرية من المسيحيَّة في الصُّحف اليوميَّة”، و “إقصاء الأقباط الَّذين تزايد خوفهم على مستقبلهم”، كما يدّعي الباحث، مضيفًا أنَّ المسيحيين تعرَّضوا لاعتداءات أعضاء الجماعات الإسلاميَّة من طلَّاب الجامعات، ممَّا أسفر عن أعمال عنف (صـ152).

يسهب تادرس في وصْف التَّجاوزات الَّتي لاقاها المسيحيون في عهد السَّادات، من اعتداءات بدنيَّة، وهجوم على الكنائس، وإساءة إلى القساوسة، لكنَّ الحدث الأهمَّ كان إعلان الحكومة المصريَّة تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة، بما فيها قوانين الرّدَّة. عُقد المؤتمر القبطي الثَّاني في 16 ديسمبر 1976م لمناقشة تداعيات تطبيق الشَّريعة، لرفض إخضاع المسيحيين للأحكام الإسلاميَّة في مسائل الأحوال الشَّخصيَّة، وإدانة التَّمييز الممارَس ضدّ المسيحيين في التَّعيين في المناصب الرَّسميَّة وفي التَّمثيل البرلماني، والمطالبة باتّخاذ تدابير لمعاقبة المتورّطين في الاعتداء على المسيحيين وكنائسهم. من جانبه، أرسل البابا شنودة الثَّالث في 30 أغسطس 1977م مذكّرة إلى الرّئاسة للاعتراض على تطبيق قانون الرّدَّة، معلنًا في الشَّهر التَّالي الصّيام 3 أيَّام لالتماس تدخُّل الرَّبّ. ومع تعنُّت السُّلطة في الاستجابة لمطالب المؤتمر القبطي الثَّاني، وكثرة الاعتداءات، رفَض البابا شنودة الثَّالث استقبال أي وفد رسمي للتَّهنئة بعيد الفصح في 26 مارس 1981م، معلنًا أنَّه سيقضي العيد في الدّير للصَّلاة للرَّبّ لينقذ شعبه. وكان السَّادات قد ألقى في 14 مايو 1980م خطابًا ناريًّا اتَّهم فيه البابا شنودة الثَّالث بمحاولة تأسيس دولة مسيحيَّة في أسيوط، الَّتي كانت مركزًا للبروتستانت، كما اتَّهم المسيحيين باستعداء الغرب على مصر والاستقواء به لمحاربتها تحت ذريعة حماية الأقليَّات الدّينيَّة، وبتلقّي أسلحة وتدريبات قتاليَّة على يد حزب الكتائب اللبنانيَّة. وصل الصّدام إلى ذروته في سبتمبر 1981م، حينما أمر السَّادات باعتقال عشرات الأساقفة والكهنة، ضمن حملة اعتقالات سبتمبر الشَّهيرة، الَّتي طالت عددًا كبيرًا من الشَّخصيَّات الفاعلة، من سياسيين ومفكّرين وأعضاء في التَّنظيمات الإسلاميَّة. وبعزل البابا شنودة الثَّالث عن منصبه في 5 سبتمبر 1981م وتحديد إقامته في دير الأنبا بشوي، بدأت حملة لإدانة البابا في الصُّحف الرَّسميَّة، قابلتها حملة تأييد للبابا من المجمع المقدَّس والمجلس الملّي، بالإصرار على أنَّه الأب الرَّوحي للكنيسة، ولا يمكن استبداله مادام حيًّا. ومن عجائب القدر أنَّ السَّادات اغتيل في 6 أكتوبر 1981م، خلال العرض العسكري لاحتفال الذّكرى الثَّامنة لحرب أكتوبر 1973م، وأصابت رصاصات الغدر الأنبا صموئيل، رفيق الأنبا شنودة وزميله في حركة مدارس الأحد، الَّذي كان بين الحاضرين.

تجاوَز البابا شنودة الثَّالث محنة عزله على يد السَّادات، وواصل مباشَرة مهام منصبه بعد 4 سنوات من العزلة، بعد أن أصدر الرَّئيس المصري الجديد حينها، حسني مبارك (1981-2011م)، قرارًا بإعادته إلى منصب بطريرك الكنيسة المرقسيَّة في 3 يناير 1985م. وأكثر ما يميّز عهد البابا شنودة الثَّالث هو إضافته الطَّابع المؤسَّسي للخدمات والشَّعائر الخاصَّة بالكنيسة، واهتمامه بالتَّعليم الدّيني وتدريب الكهنة قبل تكريسهم، ونشْر الكتب الخاصَّة بالتَّبشير، ورعاية النَّشأ من أبناء المسيحيين وتسهيل تواصلهم مع الكنيسة، مع الاهتمام بمنع تسرُّب عقائد البروتستانت إلى تعاليم الأرثوذكسيَّة. غير أنَّ أهمّ إنجاز حقَّقه البابا شنودة الثَّالث يُعتبر تأسيس كنائس في المهجر لتسهيل التَّواصل مع المغتربين من المسيحيين إلى الخارج، خاصَّة منذ خمسينات القرن العشرين، بعد أن سارع كثيرون بالهجرة بسبب سياسات ناصر الاشتراكيَّة، من تأميم ومصادرة للممتلكات الخاصَّة، وتكرَّر الأمر في السَّبعينات، بعد خشي الكثيرون على مستقبلهم في ظلّ تنامي النُّفوذ الإسلامي. كان عدد الكنائس القبطيَّة في المهجر عام 1971م لا يتجاوز 7 كنائس، 2 في كندا، و2 في أستراليا، و2 في الولايات المتَّحدة، وواحدة في بريطانيا، ليتضاعف ذلك العدد عشرات المرَّات عند وفاة البابا عام 2012م إلى 525 كنيسة، 202 منها في الولايات المتَّحدة وحدها.

وبرغم عدم وقوع صدام بين البابا شنودة الثَّالث وحسني مبارك طوال عهد الأخير، تكرَّرت أعمال العنف تجاه الكنيسة وأبنائها، وبخاصَّة في تسعينات القرن العشرين، على يد جماعات إسلاميَّة متطرّفة، ووصل الأمر، كما يدَّعي تادرس، إلى مطالبة المسيحيين بدفع الجزية في قرى الصَّعيد، بعد أسقطها سعيد باشا في ديسمبر 1855م. ويشهد الباحث بأنَّ نظام مبارك تعامَل مع الإسلاميين بمنتهى القسوة، وتنوَّعت عقوبات المعتدين بين القتل والسَّجن والتَّعذيب. أمَّا عن أهمّ مظالم المسيحيين في عهد مبارك، فهي استمرار فرْض وصاية السُّلطة الرَّسميَّة على بناء الكنائس وتجديدها، تجاهُل المسيحيين عند تعيين رؤساء الجامعات والمحافظين ورؤساء الوزراء ورؤساء الشَّركات الكبيرة التَّابعة للحكومة، ومحدوديَّة تعيين المسيحيين في المراكز القياديَّة في وزارة الدَّاخليَّة. ومع كلّ تلك المظالم، أبدى مبارك حُسن النّيَّة تجاه المسيحيين من خلال إعادة الأوقاف المسيحيَّة إلى سُلطة الكنيسة القبطيَّة واعتبار يوم عيد الميلاد إجازة رسميَّة عام 2002م. شهدت السَّنوات الأخيرة من عهد مبارك إتاحة الفرصة للمعارضين للتَّعبير عن آرائهم، بدفع من الرَّئيس الأمريكي الأسبق، جورج دابليو بوش (يناير 2001-يناير 2009م)، صاحب أجندة الحريَّات للشَّرق الأوسط لتعزيز الدّيموقراطيَّة وإشاعة السَّلام، ليتسنَّى للمسيحيين تناوُل المشكلة القبطيَّة عبر وسائل الإعلام. من جانبه، نفى نظام مبارك وجود المشكلة من الأساس، واعتبر أنَّ مسيحيي مصر هم أوفر الأقليَّات الدّينيَّة حظًّا في العالم، مع تأييد المسيحيين من أبناء الطَّبقة المخمليَّة من الأثرياء وأصحاب النُّفوذ، ممَّن أنكروا شيوع الاضطهاد والتَّمييز ضدَّ المسيحيين. في حين تصرُّ جماعة من المثقَّفين والأكاديميين على أنَّ الشَّعب المصري لم يعرف التَّمييز ضدَّ الأقليَّات غير المسلمة إلَّا بعد قدوم الأفكار الوهَّابيَّة من شبه الجزيرة العربيَّة وتمويل الأنظمة الحاكمة هناك، وبخاصَّة السَّعوديَّة، للحركات الإسلاميَّة المتطرّفة، متأسّفين على انتهاء العصر الليبرالي في مصر بظهور التَّيَّار الإسلامي بقوَّة في ثلاثينات القرن الماضي.

مستقبل ‘‘المشكلة القبطيَّة’’ ودور الهجرة إلى الغرب في حلّها

بفصل تحت عنوان “مرارة الرَّحيل وخطورة البقاء”، يختتم صموئيل تادرس كتابه بالحديث عن مستقبل المسيحيين في مصر بعد عام 2011م، وعن التّحديات الَّتي تواجههم منذ ذلك الحين، وعن سبل حلّ المشكلة القبطيَّة، واغتراب مسيحيي مصر في “وطنهم المفقود” الَّذي أفضى إلى غربتهم في بلاد المهجر. يبدأ الباحث حديثه بالإشارة إلى عدم حماسة المسيحيين تجاه انتفاضة يناير 2011م، مرجّحًا أن يكون السَّبب في ذلك هو تفضيل العامَّة للدّيكتاتور المضطهد. انخدع البعض في أنَّ خلْع مبارك سيؤدّي إلى تأسيس نظام ديموقراطي ليبرالي ينعم فيه المسيحيون بالمساواة، لكنَّ الحقيقة كانت خلاف ذلك. تبدَّدت أوهام إنصاف المسيحيين بحرق كنيسة إمبابة في مايو 2011م، ووقوع مذبحة ماسبيرو في أكتوبر من العام ذاته، واكتساب الإسلاميين الحريَّة الكاملة في التَّصرُّف في ظلّ انهيار جهاز الشُّرطة حينها. وبعد اكتساح الإسلاميين في كافَّة الانتخابات والاستفتاءات الَّتي عُقدت عاميّ 2011 و2012م، بدأت حملة “أسلمة الحياة” الَّتي أطلقتها جماعة الإخوان المسلمون، صاحبة النَّصيب الأكبر من مقاعد البرلمان والَّتي فاز مرشَّحُها، د. محمَّد مرسي، في الانتخابات الرّئاسيَّة. ويدَّعي تادرس أنَّ الإخوان حنثوا بعهودهم الَّتي قطعوها للغرب قبل وصولهم السُّلطة، بأن يكفلوا المساواة والعدالة للجميع، دون تمييز، بأن كرَّس دستور 2012م الهويَّة الإسلاميَّة لمصر واعتبر المسيحيين مواطنين من الدَّرجة الثَّانية.

ليس هدف الإسلاميين هو إبادة المسيحيين، إنَّما هو إخضاع المسيحيين وإجبارهم على قبول وضعهم المتدنّي في البلاد، باعتبارهم أهل ذمَّة. ولأنَّ مستقبلهم في مصر صار معتمًا، ولا توجد بشارة بتحسُّن أوضاعهم، مادام شبح الصَّحوة الإسلاميَّة ووصول الإسلاميين إلى الحُكم يطاردهم، حدثت موجة جديدة من الهجرات إلى الخارج، وبخاصَّة إلى الولايات المتَّحدة وكندا وأستراليا. ويصف تادرس مشاعر الحزن الَّتي تنتاب المهاجرين المسيحيين الَّذين يقابلهم في محلّ إقامته، في ولاية فرجينيا الأمريكيَّة، معتبرًا أنَّ في تلك الهجرة خسارة للأقباط ولكنيستهم الَّتي صارت تواجه “تهديدًا وجوديًّا” (صـ172). ويلعب الباحث على وتر إثارة المشاعر الدّينيَّة، بادّعاء أنَّ أقباط المهجر يتطلَّعون إلى تحقُّق نبوءة العهد القديم، يوم يأتي الرُّبُّ إلى مصر من فوق سحابة، “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا” (سفر اشعياء: إصحاح 19، آية 19). يثير الباحث حماسة المسيحيين بتذكيرهم بأنَّ الكنيسة القبطيَّة ظلَّت تثابر وتكافح من أجل البقاء، برغم الاضطهاد، وكانت دماء الشُّهداء الدَّاعم الأكبر لبقائها. ويقع أسفل الكاتدرائيَّة المرقسيَّة بالقاهرة رفات اثنين من أعظم رجال الكنيسة الأرثوذكسيَّة، وهما القدّيس مرقس الرَّسول، مؤسّس الكنيسة وحامل رسالة المسيح إلى مصر الَّذي روى بدمائه أرضها، والقدّيس أثناسيوس الأوَّل، البابا الـ 33 للكنيسة الَّذي كان له الفضل في الحفاظ على عقيدة الأرثوذكسيَّة. أمَّا عن التَّحدّي الأكبر الَّذي يواجه الكنيسة في هذه الآونة، في الغالب بعد الإطاحة بحُكم الإسلاميين وتجميد مشاركتهم في المجال السّياسي، هو كيفيَّة الحفاظ على إيمان المسيحيين المهاجرين وتحويل الكنيسة القبطيَّة إلى كنيسة عالميَّة، دون تغيير في عقائدها الَّتي تعود إلى القرن الأوَّل الميلادي.

والسُّؤال: يتشدَّق أقباط المهجر بمآسي المسيحيين في مصر، برغم ما يتردَّد، ولا يُعلم صحَّته بالطَّبع، عن تنامي ثروة المسيحيين وتعاظُم نفوذهم واستحواذ الكنيسة على مساحات كبيرة من أراضي الدَّولة، وبرغم أنَّ التَّضييق الفعلي يُمارس على المسلمين، كما يشير د. محمَّد عمارة في في المسألة القبطيّة: حقائق وأوهام (2001م، صـ90-91). والسُّؤال: هل هدف إشاعة تعرُّض المسيحيين للاضطهاد يمهّد لتنفيذ مخطَّط التَّقسيم آنف الذّكر؟ وهل نشْر التَّفاصيل عن الفجوة المتزايدة بين الثَّراء المتزايد للمسيحيين وحملة الإفقار الَّتي يتعرَّض لها المسلمون في وسائل الإعلام الغربيَّة يرمي إلى إثارة الفتنة وإشعال حرب أهليَّة، مثل الَّتي يتنبَّأ بحدوثها العهد القديم (اشعياء 19: 2)؟ وهل في دعْم المهاجرين إلى الغرب، سواءً من المسلمين أو المسيحيين، للدُّول إلى يهاجرون إليها في نشْر الأفكار المعادية للإسلام والدَّعوة إلى التَّمرُّد على النّظام السّياسي القائم، ما يشابه دعْم قارون لفرعون على حسابه قومه من بني إسرائيل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى