مقالات

لماذا تكتب العربية من اليمين إلى اليسار؟

الدكتور عزت السيد أحمد

كاتب ومفكر سوري
عرض مقالات الكاتب


بداية من المستحسن الإشارة إلىٰ أنَّ هٰذا المقال جزء من فصل من كتابي: إعجازية الأداء الدلالي في اللغة العربية.
النِّسبة العظمى من لغات العالم تتجه الكتابة فيها من اليسار إلىٰ اليمين… بعضها القليل من الأعلىٰ إلىٰ الأدنىٰ، ولا أحسب أنَّ لغة تبدأ أو حَتَّىٰ يمكن أن تبدأ من الأسفل إلىٰ الأعلىٰ. لا أجزم فإنِّي لا أعرف، ولٰكنِّي، علىٰ أساسٍ منطقي، أستبعد ذٰلك استبعاداً جذريًّا. وحدها اللغة العَرَبيَّة هي التي تسير تكتب وتقرأ من اليمين إلىٰ اليسار، ولتزداد عجباً فإنَّ فيها إمكانية أن تقرأ من اليسار إلىٰ اليمين فتأتي إمَّا بالمعنىٰ ذاته، أو بمعنىٰ معاكس، أو بمعنىٰ جديد. هٰذه إمكانية وليس دائماً. دعك من ذٰلك واعتبره إضافة عابرة. ولنبق مع أن اللغة العَرَبيَّة، واللغات التي تعتمد الحرف العربي بطبيعة الحال، هي الوحيدة التي تكتب وتقرأ من اليمين إلىٰ اليسار.
وما يعني ذٰلك؟
كيف لنا أن نقبل أو نقتنع أو نصدق أنَّ الاتجاه بالكتابة من اليمين إلىٰ الشِّمال هو الاتجاه الصحيح، وهو الطريق الأفضل لماذا لا يكون العكس هو الصحيح؟
هل يعقل أنَّ أكثر من 95% من لغات العالم التي تكتب من اليسار إلىٰ اليمين، أو من الأعلىٰ إلىٰ الأسفل علىٰ خطأ أو باطل، واللغة العَرَبيَّة التي تنفرد بالكتابة من اليمين إلىٰ اليسار هي الوحيدة علىٰ حقٍّ وصواب؟!
ألا تدور عقارب السَّاعة من اليسار إلىٰ اليمين مثل طريقة كتابة سائر اللغات ما عدا العَرَبيَّة؟
إليكم الحقائق المذهلة العجيبة في إيضاح معنىٰ الكتابة من اليمين إلىٰ اليسار وأهميتها وانسجامها مع الناموس الكوني كله.
بداية، وعلىٰ الهامش، في السَّنوات الخمسين الأخيرة، وخاصَّةً مع بدء العمل في استكشاف الخريطة الوراثية للإنسان التي اكتملت تقريباً قبيل مطالع القرن الحادي العشرين، كانت ثَمَّةَ اكتشافات مذهلة في تركيب الدِّماغ البشري ووظائف مكوناته وأقسامه وتوازع الوظائف والمهمات. لا أستطيع الحكم عليها لأني لست عالماً بها، ولٰكنَّ فيها أشياء كثيرة تستحقُّ الوقوف عندها.
وعلىٰ أيِّ حال لم يتم الكشف عن كل ما اكتشفه العلماء، بقي أكثر من نصف وربَّمَا ثلاثة أرباع هٰذه الاكتشافات طي الكتمان والتستر. وكان لمراكز الأداء اللغوي جزءاً كبيراً من هٰذه الدراسات. ومن المؤكِّد في خضم بحر هٰذه الدِّراسات والاكتشافات في مراكز الأداء اللغوي في الدماغ أَنَّهُ كان للغة العَرَبيَّة واللغات الأُخْرَىٰ جزء ولو يسير من الفضول الذي تتبعه العلماء.
من هٰذه الاكتشافات التي لم يتسنَّ لي التَّحقُّق منها أنَّ سائر اللغات ما عدا اللغة العَرَبيَّة تتوطن في النِّصف الأيسر من الدماغ استقبالاً وإرسالاً، بَيْنَما اللغة العَرَبيَّة تتوطن النِّصف الأيمن من الدِّماغ. وتنوعت أساليب عرض هٰذه المعلومة لأنَّ المعلومة الأصل بتفاصيلها غير منشورة في أغلب الظَّن، وشبه يقين لدي بأنه ثَمَّةَ أصول موجودة. اللغة من جهة تعامل الدِّماغ معها ليست كتلة واحدة، إنَّهَا مجموعة من الكتل تربو علىٰ عشرين لكلٍّ منها قسمه الخاص في الدماغ، ولذٰلك فإنَّ هٰذه المعلومة تزل مبتورة حَتَّىٰ تظهر الدراسة بتفاصيلها…
ما سبق من تفاصيل خصائص اللغة العَرَبيَّة يسمح بالقبول بهذا الافتراق عن اللغات الأُخْرَىٰ من جهة الوظائف الدِّماغيَّة. وأن تموطنها في النِّصف الأيمن ليس مسألة بيولوجيَّة وحسب وإنَّمَا هو مسألة فيزيولوجيَّة تنعكس في نمط التَّفكير والتَّحليل والتَّدبير وغير ذٰلك الكثير.
ومع ذٰلك، لنترك هٰذه المسألة جانباً كوننا لم نتحقق من تفاصيلها. لننظر إلىٰ مسألة كتابة اللغة العَرَبيَّة من اليمين إلىٰ اليسار من ناحية منطقيَّة وواقعيَّة. ومدى أهمية ذٰلك وانسجامه كما قلت مع النواميس الكونية عموماً، والفطرية والغريزية للإنسان.
كل الأنهار تسير في اتجاهات منسجمة مع الجهات، النَّهر الوحيد الذي يسير عكس المنطق لأَنَّهُ يسير عكس المنطق سمي بالنهر العاصي، من العصيان. أي إِنَّهُ عصىٰ قوانين حركة المياه والأنهار التلقائيَّة. ولا تقلْ ماذا لو كانت كلُّ الأنهار تسير باتجاه النهر العاصي وكان هو بالعكس هل سيكون هو العاصي أن يتكون الأنهار كلها هي العاصية؟ إذا افترضنا ذٰلك جدلاً فسيكون هو العاصي. ولٰكنَّ ذٰلك لم يكن ولن يكون. لأنَّ حركة الأنهار خاضعة للنواميس الكونية التي قدَّرها الله تَعَالىٰ. أريد أن أقول هنا العاصي عاصي مع تفرده عن سائر الأنهار، لأَنَّهُ عاصي. التَّفرد لا يكون بالضَّرورة صواباً. وتفرد اللغة العَرَبيَّة ووحدانيتها في الكتابة من اليمين إلىٰ اليسار مرتبط باستثنائيتها في كل ما خلا ذٰلك مما سبق ذكره.
كما للمياه والأنهار فطرتها في الحركة، فكذل في الإنسان فطرةٌ وغريزةٌ تقوده مرغماً علىٰ استخدام اليمين لا اليسار، وعلىٰ الارتياح النَّفسي لليمين أكثر من اليسار. أكثر من تسعين بالمئة من البشر يستخدمون اليد اليمنى والرجل اليمنى؛ يفعلون ذٰلك من غير قرار ولا اختار ولا قدرة علىٰ التَّغيير أو التبديل… واستخدام اليد اليمنىٰ للكتابة يستدعي منطقيًّا ونفسيًّا التوجه بالكتابة من اليمين إلىٰ اليسار. حركة اليد إلىٰ الدَّاخل ضمٌّ واحتواء وارتياح، وحركتها إلىٰ الخارج نبذ ودفع وترك. في كتابتك باليمين من اليمين إلىٰ اليسار يعني أنَّ ما كتبته انتهيت منه وتفكيرك ونظرك علىٰ ما سيأتي…ولو كان العكس لكان نظرك معلَّقاً بما انتهىٰ ولا ترىٰ ما أنت مقدم عليه. هٰذا الأمر له انعكاسات علىٰ الجملة العصبيَّة والبنية النَّفسية والعقليَّة والتَّفكيريَّة والأخلاقية والاجتماعيَّة والتَّربويَّة للإنسان، وليس محض وصف عابر ولا هو مجازي. بعض هٰذه التجليات من زاوية مختلفة كانت موضوع سلسلة كتبي: علىٰ هامش نزيف العقل العربي التي بلغت سبعة أجزاء، وكانت ثَمَّةَ مناقشة خاصة لها في الجزء الأول من هٰذه السلسلة الذي حمل عنوان: نزيف العقل العربي، وبقية الأجزاء جاءت علىٰ هامش هٰذا النزيف.
من هٰذه الفكرة ذاتها أنطلق للإجابة علىٰ سؤال لماذا تدور عقارب الساعة من اليسار إلىٰ اليمين؟
لا أدري إن كان من يدري من هو كيف أول من قرَّر ذٰلك، وماذا كان يدور فيخلده ودفعه إلىٰ اختيار دوران عقارب السَّاعة من اليسار إلىٰ اليمين، وليس الغرب من اختار ذٰلك وإنَّمَا هم العرب والحضارة العَرَبيَّة الإسلامية التي وصلت في علم الساعات مبلغاً ما زالت العلوم عاجزة عن تفسيره إلىٰ اليوم.
ثَمَّةَ رأي يقول إنَّ حركة عقارب السَّاعة من اليسار إلىٰ اليمين تنسجم مع حركة الظِّلِّ من الصَّباح إلىٰ المساء. ربَّمَا يكون هٰذا هو السَّبب. ولٰكن أيًّا كان السَّبب ففي تقديري أنَّ ثَمَّةَ إلهامٌ إلهيٌّ في ذٰلك جعل البشر تتواطأ عليه وتقبله ولا توجد تعارضات ولا تناقضات في ذٰلك. هٰذا الدوران الراجع يقول لك أنت تسير إلىٰ الأمام وزمنك يسير إلىٰ الوراء. وربَّمَا تكون عقارب الساعة هي الاستثناء شبه الوحيد الذي يخالف النواميس الكونية والغريزة التلقائية.
كل الكواكب تدور من اليمين إلىٰ اليسار. القمر يدور حول الأرض من اليمين إلىٰ اليسار. الأرض تدور حول الشَّمس من اليمين إلىٰ اليسار، مثل اتجاه الكتابة العَرَبيَّة. الكواكب تدور حول الشمس من اليمين إلىٰ اليسار. والمجموعة الشَّميسة كلاًّ تدور في فلك المجرة من اليمين إلىٰ اليسار.
هل تريد أكثر؟ الإلكترونات تدور حول النُّوَىٰ من اليمين إلىٰ اليسار.
هل تريد أكثر؟ الدَّم داخل الجسم يبدأ دورته من اليمين إلىٰ اليسار.
هل تريد أكثر من ذٰلك؟ ليس من باب التَّصادف أيضاً أنَّ سباقات الجري لمختلف المسافات تدور من اليمين إلىٰ اليسار. في دورة الألعاب الأولمبية الأولى في أثينا عام 1896م ولمرَّة واحدةٍ كانت سباقات الجري تدور من اليسار إلىٰ اليمين. إلا أنَّ العدائين اشتكوا من الضِّيق والإحساس بالألم عند الجري من اليسار إلىٰ اليمين. وبعد دراسات سريعة قرَّروا تحويل المدار من اليمين اليمين إلىٰ اليسار، وانتهت الشَّكوىٰ، واستقر القرار علىٰ الدوران من اليمين إلىٰ اليسار. وبعد عشرات السنين من ذٰلك أكدت الاكتشافات العلميَّة غريزيَّة هٰذا الأمر، وقبل هٰذه الدراسات بزمن بعيد ظهر عالم ياباني اسمه هداياكي فوكامي ليفسر الضيق الذي تعارض له المتسابقون لدىٰ جريهم من اليسار إلىٰ اليمين، فقال: إنَّ الإنسان يحبذ فطريًّا أو غريزيًّا الجري الدوراني من اليمين إلىٰ اليسار لأنَّ هناك أساس عصب، تكويني، يخلق مناخاً من الارتياح لدىٰ الجري من اليمين إلىٰ اليسار، ويخلق مناخاً من الضِّيق والتَّوتر لدىٰ الجري من اليسار إلىٰ اليمين.
وبذلك نرىٰ أنَّ اللغة العَرَبيَّة هي الوحيدة المنسجمة النواميس الكونية الشَّاملة في الفلك وفي الذرة، والفطريَّة والغريزيَّة في الإنسان والحيوان. وهٰذا الاتجاه في الكتابة والقراءة من اليمين إلىٰ اليسار ليس محض انسجام مع هٰذه النواميس الكونية، وإنَّمَا له كما ذكرت تجليات تأثيرية في البنية النَّفسيَّة والعقليَّة والتَّفكيريَّة وحَتَّىٰ الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والتَّربويَّة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقالة جميلة ممتعة، تحرك الفكر في أسرار اللغة العربية…ورد في ذهني، إضافة الى ما ذكره الكاتب، أن الطواف حول الكعبة المشرفة أيضا هو من اليمين إلى الشمال في تناغم ملفت مع حركة الكون كما أوضح الدكتور عزت في المقالة جزاه الله خيرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى