بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات 13

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب


الحدود بين العراق وفارس في العهد العثماني
أصبح العراق ومنذ سقوط بغداد، مركز الخلافة العربية الإسلامية عام 1258م، على يد هولاكو حفيد جنكيز خان، أسيرا بيد قبائل همجية لا تحسن إلا القتل والتدمير، فعملوا في بغداد التخريب، واستباحوا كنوزها الحضارية والفكرية والثقافية، وأوغلوا في أهلها القتل، فساقوا علماء الدين فيها والشعراء والأدباء، وكل من وجدوا أن بقاءه على قيد الحياة يشكل عائقا أمامهم إلى ساحات القتل الأعمى.
ثم انتقلوا إلى الرجال والشبان والنساء وحتى الأطفال، فأعملوا فيهم السيف وساقوا الجميع إلى ساحات الموت، كما أوغلوا بتراثها العلمي والفكري والأدبي تدميرا وحرقا، وبكنوزها وثرواتها النهب والسلب، وتحولت بغداد في يوم واحد من مركز للإشعاع الفكري والحضاري، إلى مدينة تفوح منها رائحة الموت والتخلف، وتقاذفتها أيدي المحتلين الغزاة وأقدامهم، والذين كانوا ينظرون إلى حاضرة الدولة العربية الإسلامية بعين الحسد والغيرة.
فمرت على حكم العراق من تاريخ سقوط بغداد، حتى احتلالها من قبل العثمانيين عام 1534م، ثلاثة قرون من الضياع والتقلب بين محتل طامع وآخر حاقد، يريد الانتقام من الأرض التي انطلقت منها جيوش الفتح العربي الإسلامي، فمن الدولة الاليخانية التي استولى على عرشها أبناء أسرة واحدة لمدة قرن من الزمن، ولم تكن هذه الدولة محبوكة البناء، إلى أن وقعت بغداد تحت حكم سلالة من القبائل التركمانية عام 1401م، حتى تمكن إسماعيل الصفوي من احتلالها عام 1508م، عندما كانت دولته في مرحلة النمو السريع، وبذلك انتهت دولة الخروف الأبيض، التي استمرت أربعين سنة ثم نهرب ملكها السلطان مراد الطويل، وبعد احتلاله العراق، أعلن الشاه إسماعيل الصفوي، مذهب التشيّع فيه، ودخلت بغداد مرحلة جديدة من تاريخ مرير، تحت احتلال كان يسعى لاستنساخ تجربته التي فرض بها التشيّع على بلاد فارس، ليطبقها على مدينة بغداد.
كان تاريخ العلاقات العثمانية مع بلاد فارس، تاريخ حروب ونزاعات مسلحة، وكانت تجري سجالا بين الطرفين، تارة ينتصر فيها العثمانيون، وتارة أخرى ينتصر الفرس فيها، وينظر المؤرخون إلى احتلال بغداد عام 1508م، باعتباره الحدث الأخطر الذي نبه سلاطين الدولة العثمانية، إلى أن بلاد فارس وبعد أن تحولت إلى التشيّع، من بداية عهد إسماعيل الصفوي في عام 1501م، بدأت تمثل تهديدا حقيقيا على دولتهم، عندما انتقلت إلى مرحلة قضم ما تعتبره الدولة العثمانية جزءً من ممتلكاتها، فأخذ العثمانيون يُعدّون العدة لتأديب الدولة الصفوية الصاعدة، فبدأ السلطان سليم الأول التحضير لمعركة فاصلة تعيد الدولة الصفوية إلى داخل حدودها.
فكانت “معركة جالديران”، الأكثر أهمية في تاريخ النزاعات والحروب بين بلاد فارس والدولة العثمانية، وعلى ضوء النتائج التي تمخضت عنها، تم وضع أساس العلاقات بين الدولتين، بعد أن حقق العثمانيون انتصارا حاسما فيها، أدى إلى استجابة بلاد فارس إلى منطق الحوار، بعد أن كانت تعتمد منطق القوة، في لغة تخاطبها مع الآخرين، وإن كنا سنلاحظ خروج فارس على هذا الخيار في أكثر من موضع، بمجرد أن تسترد عافيتها السياسية، لتبدأ الاعداد العسكري لمواجهاتها الجديدة.
وقعت معركة جالديران في 23 آب/ أغسطس عام 1514م، على الحدود التركية الأذربيجانية، في عهد السلطان سليم الأول، بعد أن هيأ لجيشه كل مستلزمات النجاح فيها، فتقدمت قواته باتجاه مدينة تبريز عاصمة الدولة الصفوية في ذلك الوقت، والتقت القوات العثمانية بالقوات الفارسية الصفوية، التي كان يقودها الشاه إسماعيل الصفوي بنفسه، واستطاعت القوات العثمانية التوغل في مناطق أذربيجان والمناطق الكردية شمال العراق.
“وكانت كفة المعركة منذ البداية تميل لصالح الجيش العثماني، فقد كان أكثر عددا وأفضل تسليحا وتدريبا من الجيش الصفوي، وأصيب الشاه إسماعيل في الاشتباك، حتى كاد أن يُقضى عليه، لولا فراره من المعركة، تاركا كل ما يملكه من أسباب القوة، لقمة سائغة للسلطان سليم الأول وجنده، ووقعت في الأسر أعداد كبيرة من أفراد الجيش الفارسي الصفوي، وكان من بين الأسرى زوجة الشاه إسماعيل الصفوي التي وقعت في أسر القوات العثمانية، وحاول الشاه إسماعيل الصفوي استعادتها بكل الوسائل المتاحة، ولكنه لم ينجح، إذ إن السلطان سليم الأول لم يقبل بردها لزوجها بل زوّجها لأحد كاتبي يده انتقاما من الشاه”.
إضافة إلى عوامل التحسس بين الدول المتجاورة، هناك أسباب أخرى لتأزم العلاقات العثمانية مع بلاد فارس، منها أن الشاه إسماعيل الصفوي لما فرض المذهب الشيعي الاثني عشري على بلاد فارس بقوة السيف، وأعلنه مذهبا رسميا للبلاد، وأدى ذلك إلى قتل مئات الآلاف من أهل السنة في بلاد فارس، بدا ذلك وكأنه خطوة عدائية منه تجاه الدولة العثمانية، التي كانت تتبع مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، وهذا ما دعا إسماعيل الصفوي إلى التحرك على قبائل القزلباش التركية العلوية، وجعلهم القوة الأساسية من جيشه، وذراعه الضاربة في القضاء على معارضيه، وفرض التشيّع بقوة السلاح على الأراضي الخاضعة لسلطته في مختلف مدن فارس، فقضى على دولة آق قوينلو (الخروف الأبيض)، والتي كانت تشكل حاجزا سياسيا بين فارس والدولة العثمانية.
ولم يكتف إسماعيل الصفوي بتلك الخطوات تجاه العثمانيين، بل تحرك على البلاد الأوربية لعقد اتفاقيات بينها وبين فارس، لمواجهة الأخطار القادمة من الدولة العثمانية على الطرفين، فقد عُقد حلف هابسبورغ بين الفرس وإمبراطورية النمسا، ضد الإمبراطورية العثمانية، وعقده كل من شارل الخامس إمبراطور النمسا، والشاه إسماعيل الصفوي في 1516-1519م، وانضم إليهما كل من لودفيغ الثاني من المجر، وملك إسبانيا تشارلز الأول، الذي أرسل مبعوثا لدعم التحالف المقترح، في محاولة لتنسيق العمل المشترك في الصراع ضد الإمبراطورية العثمانية، والتي أصبحت وجها لوجه أمام الدولة الفارسية الصفوية وحلفائها الأوربيين.
أخضع إسماعيل الصفوي الدويلات الكردية والتركية في جبال طوروس الصغرى، والأقليات المسيحية في أرمينيا، وجعلها جزء من ممتلكاته، ولم يتوقف عن تطوير طموحاته حتى احتل بغداد عام 1508م، فهدّم ما كان فيها من قبور أئمة السنة، وقضى على علماء الدين السنة، ثم إن (من أسباب إجبار إسماعيل للسنة في بلاد فارس على الدخول في المذهب الشيعي، التعصب الطائفي الذي أراد به كسر الحاجز النفسي لدى أهل فارس في محاربة العثمانيين، وكي لا ينظروا إلى قتال العثمانيين بأنه قتال مسلم لمسلم، ولأنه تصور أن التحول المذهبي نحو التشيع، سيضع حاجزاً عالياً بين رعايا الدولة الفارسية ودولة الخلافة العثمانية، وأن موالاة أهل السنة في بلاد فارس للعثمانيين، ستختفي بعد دخول أهلها في المذهب الشيعي، وتحولهم إلى حالة العداء مع السنة، وبذلك يفقد السلطان العثماني ما كان له من صفة تمثيل المسلمين، والأمل في السيطرة على إيران لاختلاف المذهب).
وجه القائد البرتغالي البوكيرك إلى إسماعيل الصفوي رسالة، يؤكد له فيها وقوفه إلى جانب الدولة الفارسية، ومساعدتها في أية مواجهة محتملة مع جيرانها، وقال البوكيرك في رسالته ” إني أقدّر لك احترامك للمسيحيين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجند والأسلحة، لاستخدامها إذا أردت أن تنقّض على بلاد العرب، أو أن تهاجم مكة، وستجدني بجانبك في البحر الأحمر أمام جدة، أو في عدن أو في البحرين أو في منطقة القطيف أو في البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل ما يريد”.
بعد ست سنوات من احتلال بغداد من قبل إسماعيل الصفوي، وخلال حكم السلطان العثماني سليم الأول، أي عام 1514م، تمّكن العثمانيون من طرد الفرس من العراق استجابة لطلب النجدة من أهله، لتخليصهم من ظلم الفرس الصفويين، إلا أن الفرس لم يسلّموا بالهزيمة، وخاصة بعد وفاة السلطان سليم الأول، والذي خلفه ابنه السلطان سليمان القانوني، ووفاة الشاه إسماعيل الصفوي، وخلافته من قبل ابنه طهماسب الأول في عام 1524م، الذي كان يبلغ أحد عشر عاماً من العمر فقط، وبسبب صغر سنه فقد تولى زعماء القزلباش، الوصاية على الشاه الصغير حتى بلغَ سن الرشد، وكان طهماسب الأول (محبا للطرب والشراب، كتب عنه سفير فينسيا -البندقية- الذي ذهب إلى البلاط الإيراني فقال” لم يترك قصره أحد عشر عاما، وعليه لم يستطع الناس إيصال ما لديهم إليه، فانعدم الأمن وكثرت الرشوة حتى بين القضاة ونسي الشاه بلاده ولم يهتم إلا بالأموال والنساء).
بعد أن وصل الشاه طهماسب الأول عمر الشباب، قرر شن الحرب على الدولة العثمانية، واستعادة الأراضي التي خسرتها الدولة الصفوية في عهد أبيه، وأرسل رسالة للسلطان العثماني سليمان القانوني، متذرعا بأن أباه إسماعيل الصفوي (حين دخل مع أبيه “سليم الأول” الحرب في معركة جالديران كان سكرانا في ذلك اليوم، ولم يكن لوحده على تلك الحالة، بل إن قائده “درويش خان”، وسائر الأمراء وغالبية الجيش كانوا كذلك)، فجهز جيشا بهدف استعادة الأراضي التي خسرها أبوه، ولما كان العثمانيون لا يتركون في المواقع والمدن التي يحتلونها قوات كافية للدفاع عنها، فقد تيسر لطهماسب الأول استرجاع تبريز وغيرها من المدن القريبة، بينما كان سليمان القانوني منهمكا في حروبه في وسط أوربا، وتمكن طهماسب من احتلال بغداد مرة أخرى في عام 1529م، ووضعها تحت الحكم الصفوي ثانية، (إزاء هذه الأحداث لم يستطع السلطان سليمان القانوني الانتظار طويلا)، فأعدّ القانوني جيشا جرارا وسار به رئيس وزرائه الصدر الأعظم إبراهيم باشا، حتى دخل تبريز بغير قتال وكان ذلك ضربة قاصمة للشاه الصفوي طهماسب الأول، ومن تبريز توجه إلى همدان ودخل العراق عام 1534م، فوضع حدا “حتى ذلك الوقت” للاعتداءات الفارسية على هذه المنطقة، التي كانت الدولة العثمانية تنظر إليها على أنها جزء ثمين من ممتلكاتها، وأثناء عودة السلطان سليمان القانوني من تبريز ظافرا، استرد مدينة “وان” بعد أن عين ابنه إبراهيم باشا قائدا للجيش، ثم تحرك إلى بغداد في 27 جمادى الأولى 941هـ /1534 وفتحها وظل فيها ستة أشهر لتنظيم الإدارة، وهبّ المشايخُ والعلماءُ والإشرافُ وغيرهم لمقابلته، بمجرد دخوله إلى بغداد، وتم رفع خطبة الجمعة باسمه، وضربت السكة وألغيت القوانين الصفوية، كما قام السلطان سليمان القانوني بزيارة قبور أئمة المسلمين لاسيما قبر الإمام علي كرم الله وجهه، وابنه الحسين وموسى الكاظم، كما زار قبر الإمام أبي حنيفة النعمان، وأعاد بناءه وبنى عليه قبة فخمة بعد أن كان الصفويون قد هدموا القبة والضريح).
في تلك الأثناء هرب أخو الشاه (القاص ميرزا) إلى السلطان العثماني واستقبل في استانبول استقبال الملوك، وأخذ يحرض السلطان على فتح بلاد فارس، وفعلا استجاب السلطان سليمان القانوني لذلك الطلب وعزم على فتحها، ورافق (القاص ميرزا) السلطان سليمان القانوني في مسير جيشه سنة 1548م فاسترجع كلا من، (وان) و(تبريز) بدون مقاومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى