بحوث ودراسات

الحروب واتفاقيات الحدود العراقية الإيرانية وأثرها في العلاقات بين البلدين 11

نزار فاضل السامرائي

عرض مقالات الكاتب

في العهد العربي قبل الإسلام

العرب وفارس وانتصار ذي قار

قامت في العراق ممالك عربية قبل الإسلام، لعل أهمها مملكة الحيرة، وشغلت الحيرة منذ نشأتها مكانة مهمة في تاريخ العرب قبل الإسلام، ولكنها كانت جزء من منظومة قوة الفرس الساسانيين، والذين كانت دولتهم تتخذ من المدائن عاصمة لها، وكان الساسانيون يفرضون على حكومة الحيرة سلطتهم، وذلك بوضع قواتها تحت تصرف ملوك الفرس، كلما اقتضت الضرورات العسكرية لدولة فارس، لكن هذا الواقع لم يكن مرغوبا به من قبل عرب الحيرة، لأنهم يعتقدون أنهم يمتلكون من أسباب القوة والمنعة وعزة النفس، ما يكفيهم للتخلص من تأدية دور القوة العازلة بين الدولتين الفارسية والبيزنطية، وكان الفرس يريدون من الحيرة تلقي الصدمة الأولى في أية مواجهة مع البيزنطينيين، باعتبارها أحدى أقاليم الدولة الفارسية، وتتحدث الاكتشافات الآثارية عن قوة دولة الحيرة واستقلال قرارها السياسي، والتي لها مصالحها الخاصة التي لا تلتقي مع مصالح الدولة الفارسية، التي كانت تعيش على تخومها، بل وتحت كنفها، ويمكن الاستدلال على النزعة الاستقلالية لدى دولة الحيرة العربية، من نظرة سريعة على سياسة امرئ القيس بن عمرو (توفي 328م)، الذي استطاع السيطرة على معظم أنحاء الجزيرة العربية، حتى وصلت جيوشه إلى أسوار نجران، واعترف له الفرس والروم بالسيادة على المنطقة.
وربما تدخلت الحيرة في شأن داخلي للعائلة المالكة في بلاط كسرى، عندما استبعدت حاشية كسرى ابنه عن العرش، بعد موته عام 421م، فقد استنجد بهرام ابن يزدجرد بالعرب لتقديم العون له على خسرو، الذي جاءت به الحاشية واستبعدت بهرام، لأنه تشّبه بالعرب وبقيمهم، وفعلا وجد بهرام العون منهم، فقد احتلت القوات العربية بقيادة النعمان بن المنذر المنطقة القريبة من المدائن، ورجحت كفة بهرام على خسرو، ورأى بهرام بهذه النصرة سببا أساسيا في الملك الذي حصل عليه، وهو ما اعتبره دينا بذمته للنعمان فاعترف له بأنه سيد العرب.
وكانت دولة اللخميين (الحيرة)، قد بلغت في عهد المنذر بن ماء السماء (ت554م)، أقصى درجات الازدهار، ولكن المنذر بن ماء السماء مع شجاعته وتمرسه بفنون القتال، فإنه كان شديد الولاء للفرس الساسانيين، بحكم وجودهم على مقربة من حدود دولته، كما أن هذا يعود إلى الحلف الذي يربطه بهم لمواجهة البيزنطينيين، والحماية التي كانوا يوفرونها له لمواجهة أعدائه.
وازدهرت دولة اللخميين (الحيرة) وخاصة في عهد آخر ملوكها النعمان بن المنذر، في مجالات العلوم والآداب، وكان النعمان نفسه مولعا بالشعر والشعراء، فتم تدوين الشعر في عهده في كراريس وجعلها في خزائن قصره، وحاول النعمان بن المنذر اتباع سياسة عربية خالصة، وتمثل ذلك من خلال علاقاته المتينة مع القبائل العربية، ولأن الفرس لا يروق لهم وجود قائد عربي يعتز بنفسه وتاريخ أمته، فقد بدأوا بالتحرك لتطويق نفوذه، وكان حديث أبرويز كسرى فارس، وكان أبرويز كسرى فارس يجهد نفسه في النيل من قيم العرب والحط منها وإظهار مثالبهم، لا سيما عند وجود بعض الأمراء العرب في مجلسه، سبباً في تعاظم الشعور العربي بالكرامة، فما كان من النعمان إلا أن ينبري أمام كسرى الفرس، للفخر بالعرب وكرمهم ورجاحة عقولهم.
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها، مما سمع من كسرى، من تنّقصِ العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو ابن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم:
(قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن يتخذ به العرب خولاً، كبعض طماطمته “طمطم الرجل قال كلاما غير مفهوم، أو أعجَمَ”، في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم الذين حوله، فاقتص مقالات كسرى وما رد عليه).
فقالوا: أيها الملك وفقك الله، ما أحسن ما رددت وأبلغ ما حججته به، فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعُزِزتُ بمكانكم، وما يتخوف من ناحيتكم وليس شيء أحب إلي مما سدد الله أمركم وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه، ولا تنخذلوا له انخذال الخاضع الذليل، وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم وفضل منزلتكم وعظمة أخطاركم.
وهكذا نفهم أن النعمان كان متمسكا باستقلاله وكرامته وأن لديه قبائل عربية مؤيدة له، فأراد أن يبعث برسالة إلى أبرويز كسرى من خلال رؤساء القبائل العربية الذين استضافهم، وأكد أمامهم أنه واحد منهم وأن ملكه تعزز بمكانتهم، وطلب منهم أن يسيروا إلى كسرى ليشعروه أن العرب على غير ما وصفهم به.
وتوجه وفد العرب إلى المدائن وتحدث كل منهم بما جاشت به قريحته، فرأى كسرى في هذه اللهجة عزة نفس وميل إلى الاستقلال وعدم الخضوع، فأخبر حاشيته بقوله، ما خفت من العرب كخوفي منهم اليوم.
بعد هذا اللقاء بدأ أبرويز كسرى يخطط للتخلص من النعمان بن المنذر، لأن القاعدة الذهبية التي يعتمدها الفرس، هي عدم استعدادهم لقبول فكرة وجود قائد عربي على تخومهم يعتز بقومه ويأبى الخضوع لفارس، فوجد كسرى في ما يحمله شخص عربي اسمه زيد بن عدي من ضغينة على النعمان، فراح يوغر صدر كسرى على النعمان، لأن الأخير حبس أباه وقتله في محبسه، فقرر زيد بن عدي الانتقام من النعمان لأبيه بواسطة كسرى، فقال له “أيها الملك العزيز إن النعمان بن المنذر عنده من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة يحملن صفة الجمال العربي التي تبحث عنها”، فأرسله في مهمة إلى النعمان فشق ذلك على النعمان كثيرا وهو ما أغضب كسرى، ثم إن أبرويز رأى في القوة العسكرية التي بات اللخميون يمتلكونها خطرا على امبراطورية فارس، وشعر النعمان بن المنذر بما يخططه كسرى، فاتصل ببعض القبائل العربية يستحثها على الوقوف معه بوجه فارس، ولكنه لم يجد العون المطلوب فقد خذلته تلك القبائل، عندها أودع مخلفاته عند هاني بن مسعود الشيباني، والذي كان نصح النعمان بأن يذهب إلى كسرى في المدائن فإما أن يرجع مَلكاً أو يموت، خيرا من أن يتلاعب به صعاليك العرب، فأخذ النعمان بنصيحة هاني، وجاء إيوان كسرى، ولكنه ألقى القبض عليه وسجنه في بيت الفيلة وهناك قضى نحبه.
انتقل ملك الحيرة بعد موت النعمان بن المنذر، إلى رجل غريب عن البيت الحاكم أي عن (لخم) وهو إياس بن قبيصة الطائي، ولا يُعرفُ شيء مما قام به إياس أثناء توليه حكم الحيرة، ولأن الفرس أخذوا تجربة النعمان بن المنذر وطموحاته التي تتجاوز حدود إمارته بنظر الاعتبار، فقد حصروا حكم إياس بن قبيصة في مدينة الحيرة ولم يتجاوزها، وعندما وقعت معركة ذي قار، قاتل إياس إلى جانب الفرس ضد أبناء جلدته، وتعود أسباب معركة ذي قار، إلى أن هاني بن مسعود الشيباني رفض تسليم ودائع النعمان بن المنذر إلى كسرى، هذا هو السبب المباشر، إلا أن الوقائع تؤكد بأن الصراع الطويل بين العرب والفرس، هو الذي حرك القبائل العربية لتثأر لنفسها من استهانة فارس بها، وأثار قتل النعمان بن المنذر غضب بني شيبان، واتخذت موقفا موحدا مع بعض بطون بكر بن وائل ويشكر، وأخذت تشن غاراتها على أطراف الأراضي التي يسيطر عليها الفرس، وبعد أن تكاملت حشود العرب وأمن بنو شيبان وحدة القبائل العربية، دعا هاني بن مسعود الشيباني، بودائع النعمان بن المنذر من خيل وأسلحة، فوزعها على فرسان قومه، وبعد أن تكامل تسليح القبائل العربية بدأت المعركة حتى تم كسر شوكة الفرس.
ووقع خبر الهزيمة على كسرى وقع الزلزلة، وناح الجميع في إيوانه، وندب كسرى جنوده لمعاودة القتال، ولكنه لم يحقق من وراء ذلك شيئا، فقد كسر انتصارُ العرب العظيم معنوياتِ الفرس وحطم غطرستهم، وشجع القبائل العربية على الاستهانة بهم والإغارة عليهم، بعد أن أصبحت الحدود مفتوحة أمامها، لمد نفوذها وتحرير العراق من سيطرة الفرس.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم (هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا).
لكن هذا الحديث ضعيف، إذ لم يؤكد أحد من المؤرخين ذلك حيث أن واقعة ذي قار كانت 609م، والبعثة النبوية انطلقت عام 610م.
وكان يوم ذي قار اليوم الذي انتصفت فيه العرب من الفرس، ومقدمة لعمليات تحرير العراق على يد جيوش الفتح العربي الإسلامي في معركة القادسية في 13 شعبان سنة 15 هـ بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني ومن بعده سعد بن أبي وقاص، حتى كتب الله النصر لجيوش العرب المسلمين وقضوا على الدولة الفارسية الساسانية، وامتدت حدود الدولة العربية الإسلامية، من جزيرة العرب جنوبا إلى العراق وفارس شمالا وشرقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى