بحوث ودراسات

الإنكشارية ” الحرس البريتوري ” للدولة العثمانية .. الوظيفة ودوافع التأسيس

عمر الدغيم

كاتب ومدون سوري
عرض مقالات الكاتب


مثل الإنكشارية محور القوة المركزية العسكرية للجيش العثماني، وحرس السلطنة الخاص، وأصبح تنظيمهم العسكري ميزة خاصة بالدولة العثمانية ومميزة لها، وفي حين تركز تشكيلهم العسكري في عاصمة الإمبراطورية العثمانية (استنبول) أو الآستانة، فإن لهم فروعاً عسكرية تمثل السلطة المركزية في ولايات الدولة.
إن كون الدولة العثمانية ذات طبيعة عسكرية بامتياز منذ نشأتها، جعل قوتها وحيوتيها ترتبط ببنية الجيش وقوته دائماً، وبمعنى آخر أصبح نظام الدولة يقوم بشكل أساسي على المؤسسة العسكرية بالاصطلاح الحديث، كما أن كون الدولة العثمانية دولة توسعية غازية جعلها تحتاج إلى تنظيمات عسكرية دائمة الخدمة وغير مؤقتة، أي لا تعتمد على نظام الخدمة العسكرية المؤقتة المعتمد على زعماء الإقطاعات في الدولة، وهو النظام الإقطاعي العسكري الذي كان شائعاً في ذلك الزمان، وخصوصاً في القارة الأوروبية.
فعندما قامت الدولة العثمانية لم تكن تمتلك جيشاً نظامياً تعتمد عليه في فتوحاتها وفي إحكام سيطرة المركز على أطراف الدولة، ولذا كانت عند القيام بالغزوات والفتوحات تجمع قواتها وأفراد جيشها من المجاهدين المتطوعين من أبناء العشائر التركية المسلمة، وبعد انتهاء الحرب كانت تتفرق جموع الجيش ويعود كل من العسكر إلى قبيلته (نجم،2013، ص174).
ولقد سادت التقاليد التنظيمية للدولة السلجوقية في تنظيم الدولة الإسلامية للبيلك العثماني أيام الأمير المؤسس عثمان الأول، وهو النظام المعتمد بالدرجة الأولى على قبائل التركمان الرحل والبدو الأتراك في النظام العسكري والإداري (بيتروسيان،2006، ص12)، ولكون الدائرة الأقرب تشكل الخطر الأكبر في حال وقوع الفتن، فقد أصبح جيش الأتراك التركمان سبباً في اختلال نظام الدولة بعد أن كان سبب قوتها والمحافظة عليها، وذلك بعد أن بدأ الطمع والحرص يصب في صفوف هذا الجيش وخصوصاً أنهم في نهاية الأمر أتراك مسلمون كالعائلة العثمانية الحاكمة، فبدأت كل فئة من الجيش تتحزب للقبيلة التي تنتمي لها، وأصبح الجيش الجيش العثماني جيش قبائل مؤقت أكثر منه جيش دولة دائم ومركزي الولاء (نجم،2013، ص175).
ولكل ما سبق من أسباب وعوامل برزت الحاجة الماسة إلى تشكيل تنظيم عسكري جديد لا ولاء له إلا للسلطان والمركز، ولا يعرف إلا الحياة العسكرية والجهاد والمشاركة في الفتوح والغزوات، فيضبط الأمن في داخل حدود الدولة بضربه على يد الطامعين والخارجين، كما يشكل القوة الضاربة الرئيسية في الفتوح والغزوات الخارجية ضد أعداء الدولة، وقد بدأ تطبيق هذا المشروع في عهد السلطان أورخان بن عثمان الأول، وهو السلطان الذي انتقل في عهده الكيان السياسي والعسكري العثماني من حالة العشيرة والقبيلة إلى حالة الدولة المركزية، فقد امتاز حكم أورخان باستيعاب التقاليد الدولية الحديثة (بيتروسيان،2006، ص13).
فلهذه الدوافع ولدوافع أيديولوجية أخرى، قام أورخان بخطوة كبيرة فأنشأ تشكيلاً عسكرياً جديداً يقوم على نظام عسكري غير تقليدي، فأسس جيش (الإنكشارية) وهي كلمة تركية الأصل تعني بالعربية “الجيش الجديد” أو “الجند الجديد”، وأيضاً فإنه يطلق عليهم في بعض المصادر “العسكر الحديث” (الغازي،2007، ص22)، وهو جيش جديد من المسلمين يعتمد في مصدره بشكل أساسي على أبناء المسيحيين، فكان يأخذ كل عام ألف صبي من أبناء النصارى الذين قتل آباؤهم في الحروب، فيتم تلقينهم الدين الإسلامي وتعاليمه، كما يخضعون لتربية عسكرية صارمة ومنظمة، فيتعلمون أدق القواعد الحربية التي امتاز بها الأتراك (الإسكندري وحسن،2012، ص24).
ونتج عن هذه التربية الدينية والعسكرية الناجحة أن صارت طائفة الانكشارية فرقة لا مثيل لها في الإقدام والقوة والطاعة في الحروب والفتوحات، كما امتازت بالطاعة المطلقة للسلطان والولاء التام للدولة لعدم وجود تحزبات وانتماءات سياسية أخرى لهم، ولذلك وثقت الدولة بهم ففتحت الطريق أمامهم لتسلم المناصب العليا في الدولة والجيش، وقد شجع ذلك الإنكشارية على الطاعة أكثر فأكثر (الإسكندري وحسن،2012، ص24)، وكانوا يتبعون إلى السلطان مباشرة ويرتبطون به شخصياً فيتلقون الأوامر منه مباشرة ويأتمرون بأمره فلا يعرفون طاعة لغيره، ولذلك أطلق عليه لقب “عبيد الباب”، والمقصود هنا بالباب باب السلطان (الغازي،2007، ص23).
وقد كان جيش الإنكشارية في تشكيلته العسكرية الأساسية يأخذ شكل فرق المشاة (اليايا)، وكان قليل العدد في بداية أمره، خصوصاً إذا ما قورن بفرق (السباهية) وهي العسكر الإقطاعي التركي في الجيش العثماني، ثم تطور تدريجياً في عهد السلطان مراد الأول والسلاطين اللاحقين، وازداد نفوذهم في مركز الدولة، فلعبوا دور الحرس السلطاني الخاص، وتحقق بذلك تحول مكانة السلطان من كونها قيادة الحرب القبلية إلى السلطة الخانية المركزية (بيتروسيان،2006، ص17).
وبذلك أصبح الجيش العثماني يتألف من قوات المسلمين الأتراك أنفسهم – أبناء الأسر التركية – والتي يمثلها قوات الفرسان من فرق السباهية الإقطاعية، ومن فرق الإنكشارية الجديدة، وقد ظلت فرق الإنكشارية قلة قليلة من حيث العدد بالنسبة للقوات العثمانية الأخرى، ولذا لم يكن لها دور عسكري لافت في القرن الرابع عشر (نجم،2013، ص175)، وقد بلغ عدد الإنكشارية في نهاية عهد السلطان سليمان القانوني ستة عشر ألف جندي في مقابل ثمانين ألفاً من جنود السباهية، وقد وصل عددهم في أوائل القرن الثامن عشر إلى مائة ألف جندي (نجم،2013، ص176).
وقد ظل الإنكشارية وضباطهم رغم قلة عددهم يلعبون دوراً هاماً وبناءً في الدولة العثمانية، فكانوا يمثلون مركز الدولة وحرسها الخاص، ولكن لما طال عليهم الأمد، استأثروا بالسلطة وتسببوا في الكثير من الفتن والاضطرابات، وقاموا بخلع عدة سلاطين، فأصبحوا منبع القلاقل والشغب في الدولة، وقوة هدامة تضعف المركز بدلاً من تقويته، واستمر الحال على ذلك إلى أن قضى عليهم السلطان محمود الثاني في أوائل القرن التاسع عشر سنة (1241ه/1826م)، (الإسكندري وحسن،2012، ص25).
يوجد تشابه كبير بين الإنكشارية وبين ” الحرس البريتوري ” للإمبراطورية الرومانية القديمة، من حيث الطبيعة الوظيفية لكليهما، ومن حيث المسار التاريخي الذي انتقل بهما من تنظيم عسكري مركزي يدين بالولاء للسلطان أو الإمبراطور ويعمل على قمع الفتن والاضطرابات، إلى تنظيم مضطرب يثير القلاقل ويخلع السلاطين والأباطرة بقتلهم أو بخلعهم، وبتعبير آخر فقد تحاول الجهاز الأمني المركزي لكلا الدولتين إلى خطر على المركز نفسه مع مضي الزمن، وبالمثل فقد تزامنت قوة الإنكشارية مع العصر الذهبي للدولة العثمانية كما هو حال نظيرها الحرس البريتوري (الحرس الإمبراطوري) الروماني، ولكن رغم التشابه الوظيفي فإن هناك اختلاف في بنية كل منهما، فقد كان الحرس البريتوري يتألف بالدرجة الأولى من كبار الضباط الرومان أنفسهم، في حين تألف عناصر الإنكشارية بأغلبيتها الساحقة من أبناء الأعراق والقوميات غير التركية.

قائمة المراجع:

  1. نجم، أحمد عبدالله، (2013)، فرقة الإنكشارية في الدولة العثمانية .. دراسة من خلال مفهوم الجماعات الوظيفية، مجلة حوليات آداب عين شمس، مج 41، قسم اللغات الشرقية، كلية الآداب، جامعة عين شمس، مصر.
  2. الغازي، أماني بنت جعفر بن صالح، (2007)، دور الإنكشارية في إضعاف الدولة العثمانية، ط1، دار القاهرة، مصر.
  3. بيتروسيان، إيرينا، (2006)، الإنكشاريون في الإمبراطورية العثمانية، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، دبي.
  4. الإسكندري، عمر وحسن، سليم، (2012)، تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى