ثقافة وأدب

إيثارٌ في صيدنايا …..(قصة قصيرة)

باسل المحمد

مدير الأخبار – رسالة بوست
عرض مقالات الكاتب


استيقظ السجناء في تلك الزنزانة المظلمة التي كانوا يتكدسون بها على صوت المساعد إياد الذي بدأ يتلو عليهم أسماء الذين سيُعدمون صباح اليوم التالي، خيَّم صمت مطبق على الزنزانة بوجود هذا المساعد القذر، ولكن ما إن أدار ظهره وانصرف حتى اختلطت مشاعر الفرح والحزن في تلك الزنزانة الباردة؛ فرح الذين سيعدمون وارتسمت البسمة على وجوههم الشاحبة، لأن ذلك يعني خلاصاً من كل أصناف العذاب الذي كانوا يقاسونه في معتقل “صيدنايا”، أما الحزن فقد كان من نصيب البقية الذين لم يحالفهم الحظ بأن يكون من ضمن الذين سيعدمون غداً، وهذا بلا شك يعني مزيداً من قلع الأظافر، وسمل العيون، يعني مزيداً تهشيم الأسنان وسلخ الجلود، هم غبطوا أولئك الذين سيعدمون في الصباح، لأنهم سيحققون مطلبهم بالموت مرةً واحدة فقط، أما البقية فإنهم يموتون كل يوم بل كل ساعة، وكأن الصباح القادم تحول إلى ليلاً دامساً للبعض بينما ستتحول خيوطه للآخرين حبالاً للخلاص من أيدي هؤلاء الطغاة. كل هذا كان يجري على مسمع المساعد إياد الذي كان بدوره ينقل مايدور بين السجناء إلى العميد مدير السجن.
لم ينم السجناء ليلتهم تلك، أمضوها في الوداع والأمنيات في أن يلحق البقية بما سيسبقهم غداً إلى الموت، ومع إشراقة اليوم التالي أطلَّ عليهم المساعد إياد بوجهه الكريه، وتفاجأ الجميع عندما طلب منهم أن يخرجوا جميعاً إلى ساحة الإعدام، إذ بالعادة يتم أخذ الذين سيعدمون فقط.
في ساحة الإعدام التي كان يتربع على منصة صغيرة فيها العميد مدير السجن، ويحيط به العشرات من الجنود المدججين بالسلاح، كان منظره يبدو أكثر ألماً ومرارةً من الموت ذاته. بينما كانت تنتصب في منتصف الساحة ثلاث مشانق فقط، ووسط ذهول الجميع، بدأ العميد بالكلام قائلاً سمعت أنكم تتمنون الموت جميعاً، وهذا ما كنا نريده منكم، أن نجعلكم تتمنون الموت ولاتجدونه، وأضاف ساخراً حتى لانظلم أحداً فيكم، سنجري بينكم سباق وسنعدم من يصل أولاً إلى المشانق، في هذه اللحظات أشار المساعد للسجناء بالانطلاق إلى المشانق، كان أحمد أول الواصلين، وعندما صعد على كرسي المشنقة سمعاً صوتاً متعباً يناديه، نظر إلى الأسفل وإذ هو أباه يتوسل إليه ليجعله يصعد على المشنقة بدلاً منه، قائلاً له أسألك برضائي عنك أن تجعلني مكانك لأني جسدي المنهك لم يعد يتحمل مزيداً من التعذيب، على بعد أمتارٍ منهم كان عمر قد أحكم لفَّ حبل المشنقة على رقبته، عندما شعر بيد تشده من الأسفل، نظر إليه وإذ هو الدكتور علاء أستاذه الجامعي، يتوسله باكياً أن يكون مكانه، فهو لم يعتد يتحمل كسور عظامه ولا نزيف جراحه، ولا سبيل للخلاص سوى الموت، هذا المشهد نفسه كان يتكرر في المشنقة الثالثة، عندما كان الطبيب أيمن يُذكِّر ابن جيرانه الشاب حسن كيف أنه أنقذ حياته بعد حادث مروع، ويقول له آن الأوان لكي تجازيني بالمعروف الذي قدمته لك، فأرجو أن تمنحني فرصة للموت كما منحتك فرصة للحياة بعد ذلك الحادث.
لحظات وكانت أرواح الأب والأستاذ الجامعي والطبيب قد فارقت تلك الأجسام المشبعة بكل أنواع العذاب، وليستمر باقي السجناء في ذلك الجحيم المستمر، ولكنهم ضربوا أروع مثال في الإيثار، نعم هو إيثار من نوع خاص، إيثار لاتجده سوى في مسالخ الأسد عندما تؤثر أغلى الناس على قلبك بالموت، مقابل أن تبقى أنت في على قيد الموت كل ساعة، في مزرعة الأسد التي يتحول الحياة فيها إلى لعنة كبيرة، بينما يصبح الموت أسمى الأماني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى