ثقافة وأدب

هل من سبيل إلى ترجمة الشعر العربي؟

عبد الحافظ كلش

صحفي وأديب سوري
عرض مقالات الكاتب


يكثر الجدل الأكاديمي حول تعريف وأهمية الترجمة والترجمة المعكوسة والصعوبة المرافقة لهما. منهم من اعتبر الترجمة خيانة للنص الأصلي، خصوصاً مع الشعر “الأكثر عناداً في محليَّته” كما يقول ت.س إليوت. ومنهم من وصف الترجمة بأنها “قُبْلَة من خلف الزّجاج” لاتصل إلى جسد المعنى في النص الأصلي.
أيضاً، ثمَّة من شجَّع على الترجمة الأدبية غير الملتزمة بحرفية النص الأدبي؛ كونها تعطي هامشاً من حرية التصرُّف للمترجِم الذي يجب أن يكون على درجةٍ عالية من الوعي بالخلفية الحضارية والثقافية للنص الأصلي المُترجَم عنه، ومدرِكاً المستويات اللغوية والفروقَ بين معاني الكلمات؛ فالكلمة الواحدة قد تختلف في المعنى بين عصرٍ وآخر، ويختلف أثر التلقي الجمالي لها أيضاً من زمنٍ لآخر.
خُذْ مثلاً قول الشاعر:
فواللهِ ما أدري أزيدَتْ مَلاحَةً
وحسناً على النِّسوان، أم ليس لي عقلُ!
كلمة (النسوان) قديماً كان لها أثر سمعي جمالي، بينما في عصرنا لا تعتبر هذه الكلمة مستحبَّة في الاستخدام الشعري خاصةً، ولا يستطيع الشاعر المعاصر أن يستخدمها بل سيلجأ إلى كلمة (نساء) مراعاةً للذوق العصري والتحولات المعنوية التي أصابت الكلمة.
قد يتساءَل القارئ: ما العلاقة بين الكلمتين(النّسوان، النّساء) وموضوع الترجمة، ما دام أنَّ الكلمتين لهما المعنى نفسُه؟
الجواب: إنَّ المترجِم، للشعر خاصةً، لابدَّ أن يكون معنيَّاً بالذائقة الجمالية بين الكلمات والتباين في حسن وقعها من عصرٍ لآخر، لا أن يتعامل مع الكلمات بشكلٍ معجمي فقط.
من هنا تأتي بعض جوانب الصعوبة في ترجمة الشعر، وقد يكون الشاعر الأمريكي روبرت فروست محقاً حين قال: “الشعر هو ما يختفي عند الترجمة”.
وإذا كان اختفاء روح الشعر عند ترجمته من لغةٍ إلى أخرى مُدرَكاً بصورةٍ كبيرة في الآداب العالمية، باعتراف نقاد الأدب المقارن وكبار المترجمين، فهو مختفٍ بصورةٍ ملموسة أكبر عند ترجمة الشعر العربي إلى لغة أخرى؛ لأنَّ اللغة العربية لغة شاعرية إلى درجة كبيرة، كثيرة الخصوبة والإيحاءات والتفلّت من بين يدي المترجِم الذي سيكون ــ على الأغلب ــ أمام نصٍّ مترجَمٍ لا دهشة فيه أمام المتلقي في الجانب الآخر.
إنَّ الصعوبة الكبيرة في ترجمة الشعر العربي، بشكلٍ خاص، تتمثل في وجوب التعامل مع الكلمات تعاملاً يستند إلى الدلالات والإيحاءات، لا تعاملاً معجمياً فقط، بالإضافة إلى توخّي الأمانة والتزام النَّفس الطويل في نقل المعنى المقصود.
أمَّا الصعوبة الأخرى فهي مرتبطة بمدى نجاح المترجِم في عملية مقاربة الشكل الموسيقي للنص الشعري الأصلي؛ ولذلك قالوا: “إنَّ أفضل من يقوم بترجمة الشعر هم الشعراء أنفسهم”، مثلما فعل الشاعر والمترجم الإنكليزي إدوارد فيتزجيرالد (1809م- 1883م) مع رباعيات الخيام، وأبدع في ذلك.
يبقى سؤال لابدَّ أن يراود المتخصِّصين في حقل الترجمة: هل تستطيع الترجمة أن تنقل للآخر في اللغة الثانية، حالةَ التلذُّذ بالنصِّ الشعري والوقع الجميل للكلمات، كما يفعل التصريع مثلاً أو حتى حرف الروي، في قول الشاعر الجاهلي طرَفَة بن العبد البكري:
لخولةَ أطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهْمَدِ
تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهِرِ اليدِ
وُقوفاً بها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم
يقولون: لا تَهلِك أسَىً وتجلَّدِ
بالطبع هذا أمرٌ في غاية الصعوبة..
وإن نحن تركنا الوقوفَ على الأطلال، طاعةً للّائمين، وعدنا إلى العصر الحديث، فسوف نجدُ النشوةَ الموسيقية ذاتَها والكلمات المكتظة بالدلالات التاريخية والعاطفية، عند قراءة قصيدة لنزار قباني مثلاً، وهذا أمر طبيعي إذا تذكّرنا أنَّ اللغة العربية أقدمُ لغة حيَّة، فهي ليست لغة مبتورة، بل يمتح منها ويبني فيها اللاحق على السابق بطريقةٍ واضحة أو مموَّهة. وحتى إن كان النص الشعري حداثويَّاً في اللغة العربية، فهو على الأغلب انعكاسٌ لما تمّ هضمه من تراث أدبي بعد عملية مزاوجة وتطعيم ومثاقفة مع الآداب العالمية المترجَمة، عملية تأخذ الذوقَ العصري بالحسبان.
هذا ما يضعُ مترجِمَ الشعر العربي خصوصاً أمام صعوبة مركّبة؛ حيث لغة الشعر المختلفة عن اللغة التداولية، بل إنَّ انعطافات الجمل الشعرية في البيت الواحد قد تحتاج وقتاً ليس بالقليل للغوص في معانيها ودلالاتها.
لو أخذنا مثلاً ما قاله نزار قباني، في مطلع قصيدة (ترصيع بالذهب على سيفٍ دمشقي):
أتراها تُحِبُّني مَيسونُ
أم توَهَّمْتُ.. والنِّساءُ ظنونُ؟
يا بْنةَ العمِّ، والهوى أُمَويٌّ
كيف أُخفِي الهوى، وكيف أُبِينُ!
واعذُريني، إذا بدوتُ حزيناً
إنَّ وجهَ المحبِّ وجهٌ حزينُ
هنا، “قد” يتعامل المترجم مع كلمة (ميسون) تعاملاً معجمياً بشكلٍ سريع، فيعتبرها اسمَ علم لفتاةٍ أحبَّها الشاعر نزار ويكتفي بذلك. وهذا بحدِّ ذاته فقدانٌ للأمانة في الترجمة، إن لم نقل خيانة للنص الأصلي وإقصاء للمعنى العميق المراد.
ميسون هنا، هي ميسون بنت بحدل، الفتاة البدوية التي تزوجها معاوية بن أبي سفيان، الذي يمثل رمزاً تاريخياً للقوة والنِّصر والدهاء، والأَنَفة وعدم التبعية المفتَّش عنهما في عصرِنا.
إنَّ صعوبة ترجمة الأبيات المذكورة لا تكمن فقط في مقاربة البنية الموسيقية وجمالية الاستهلال بالأسلوب الإنشائي وحلاوة استخدام التصريع فضلاً عن استخدام البحر الخفيف الذي هو من أكثر البحور الشعرية طلاوةً-وإنّما تكمن الصعوبة أيضاً في مدى فهم وإدراك المترجِم الدلالةَ التاريخية المتّكئة على حالة التساؤل، سواء أكان هذا التساؤل عائداً إلى معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) أم إلى الشاعر نزار قباني الذي كان أُمَويَّ الهوى.
بالطبع هذه مهمّة شاقة، وقد يلجأ المترجمُ إلى الكثير من الحواشي والشروحات لنقل ما يحيط بالمعنى، وحسبه بعد ذلك “أن ينجو من اللوم” كما تنقل القواميس بالعادة كلامَ جونسون.
أن تترجمَ الدَّهشة وتنقلها للآخر لكي يتفاعلَ معها ويستلذ، تلك هي الصعوبة الحقيقية في ترجمة الشعر العربي.
ومع ذلك، وبالرغم من أنَّ الكثير من سوء الفهم للآخر ــ بل في تقديم صورة حقيقيَّة عن الذات ــ يأتي عن طريق الترجمة الناقصة، تبقى الترجمة عملية إبداعية نبيلة لا غنى عنها في تلاقح الثقافات العالمية وبناء جسور التواصل الإنساني، على صعيد الأدب والفكر والفلسفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى